الخصخصة: منظورات مستقبلية قراءة بوليتولوجية في المفاعيل وفي الكيفية

الخصخصة: منظورات مستقبلية قراءة بوليتولوجية في المفاعيل وفي الكيفية
إعداد: الدكتور وليد جميل الأيوبي
php في العلوم السياسية - استشاري واستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية - كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية

مقدمة

الخصخصة هي انعكاس لحراك الاقتصاد العالمي, ولوضعية الاقتصاديات الوطنية “الماكرو إقتصادية” ولطبيعة العلاقات السياسية الدولية. وهي أيضاً نتيجةً لخيارات سياسية وأيديولوجية. تخضع الخصخصة أيضاً لتأثير ثقافات البلدان السياسية, للمؤسسات الدولية الإستشارية والنقدية, للأوساط الأكاديمية, للرأي العام, لوسائل الإعلام, ولموظفي الدولة الكوادر. والخصخصة هي أيضاً نتيجة لطبيعة العلاقة القائمة بين القطاع العام والقطاع الخاص, وهي انعكاس لإرادة تغيير فوقية (النخب الحاكمة), كما أنها انعكاس لضواغط تغييرية قاعدية المنشأ (عامة). وهي أيضا أسلوب إداري يرمي الى عقلنة موارد الدولة البشرية والمادية, وتشكل محاولة لإعادة التعريف بدور الدولة وبرسم حدودها من جديد.
شهدت العقود الأخيرة جملة من التطورات الاقتصادية والسياسية والتقنية والديموغرافية والعمرانية التي كان لها وما يزال كبير الأثر على سياسات الدول الاقتصادية. كما حصل بموازاة هذه التطورات, تطوّر هام بالنسبة لدور الدولة. فبينما كان دورها سلبياً يقتصر على حفظ الأمن, صار له بعدٌ تدخلي, متميّز بحضور “إيجابي” يشمل مجمل قطاعات الحياة الإقتصادية والإجتماعية وغيرها من القطاعات الحيوية. ويعزو أكثر من مهتم في هذا المجال السبب لتنامي دور الدولة, هذا إضافة إلى عدم قدرة القطاع الخاص على حلّ المشكلات “الماكرو­ إقتصادية” الأساسية كالتضخّم والبطالة.
إن تدخل الدولة المتزايد في الشأن العام, اقتصادياً كان أو اجتماعياً, نتج عنه تكاثر متناظر في عدد الأجهزة كما في عدد الموظفين وفي القوانين والأنظمة. هذا التكاثر ساهم بظهور إدارة ضخمة مهيبة, ذات بنية تنظيمية وقانونية في غاية التعقيد, كما ساهم بازدياد استثنائي ومدهش في نفقات الدولة العامة. ولقد ساهمت أزمة 1973 النفطية في انتفاخ حجم هذه النفقات مساهمة جدية, كما كانت أيضاً سبباً من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى الركود الاقتصادي الذي شهدته في تلك الفترة إقتصاديات الدول الغربية على وجه الخصوص. وحصل بموازاة هذه التطورات السياسية و”الماكرو إقتصادية” تطور على مستوى البنية الإقتصادية الدولية, تمثل بتنافسية أسواق جنوب شرق آسيا الشديدة في مجالات اقتصادية, استراتيجية الموقع, كالسيارات والألبسة والإلكترونيات, كما تمثل بنمو تكتلات اقتصادية كالإتحاد الأوروبي واتفاق السوق الحرة الأميركية الشمالية

 (NAFTA), وتكتلات قائمة على مبدأ حرية التبادل التجاري وحرية تنقل رؤوس الأموال والطاقات المادية والبشرية...
وشهدت فترة الثمانينات من القرن العشرين أيضاً تحولاً نوعياً على مستوى “أتمتة”

Automation)) الإنتاج وتكنولوجيا المعلومات. هذا التحول شكّل بالنسبة للعديد من الدول دافعاً نحو العمل من أجل إنتاجية أفضل وأسرع, بكلفة أقل, بغية الوصول إلى درجة تنافسية أبقى على المستوى الدولي.
والجدير ذكره في هذا السياق أن القطاع الخاص كان في خضم هذه التحولات مطوّقاً بتدخلية الدولة القانونية والتنظيمية, الأمر الذي ساهم بتكاثر جماعات المصالح الاقتصادية, كما ساهم بازدياد ضغطها على المسؤولين الرسميين, سياسيين وموظفين, بغية التقليل من هذه القيود.
وحصل بموازاة هذا التطور, تطور آخر على مستوى الرأي العام, نتيجةً, ليس فقط لتدخلية الدولة هذه, إنما أيضاً لإدراك المواطن عدم أهمية وفعالية هذه الأخيرة في أداء دورها, ولإحساسه بأنه لا يتلقى من الخدمات بالقدر الذي يساهم فيه بإنعاش خزينة الدولة.
هذه العناصر مجتمعة ساهمت في إحياء النقاش حول دور الدولة في الاقتصاد, كما ساهمت بمجيء أحزاب سياسية على رأسها شخصيات بارزة (ريغن وتاتشر) مثّلت رؤية جديدة بالنسبة لهذا الدور. هذه الرؤية التي تتناقض تماماً مع تلك التي راج سوقها منذ الثلاثينات, تستلهم منطلقاتها الأيديولوجية من الفلسفة “النيو­ليبرالية” التي تقول في لا تدخلية الدولة, أي في انسحاب هذه الأخيرة من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القطاعات الحيوية. وقد عزّز هذه الرؤية على المستوى الدولي التغيير الجذري الذي طرأ على مستوى بنية العلاقات الدولية الديبلوماسية­الإستراتيجية, والذي تمثّل بانهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. هذا الإنهيار الذي اعتُبر انهياراً سياسياً وانهياراً لإيديولوجية اشتراكية قائمة على مبدأ الاقتصاد الموجّه, وعلى إلزامية تدخل الدولة, ساهم مساهمة فاعلة بنشر الخصخصة كسياسة اقتصادية وكمفهوم أيديولوجي على المستوى العالمي.
أما بالنسبة للعالم العربي فقد شهد في مضمار الخصخصة تجارب ذات دلالات سياسية واضحة, وشكّلت مسألة تاميم قناة السويس في الخمسينات أول محاولة تحرّر إقتصادية ذات طابع سياسي­سيادي شهدها القرن الماضي. بالمقابل, من البدهي اعتبار “سياسة الإنفتاح” التي اتّبعت في مصر أيضاً خلال السبعينيات والمعتمدة في أكثر من دولة عربية الآن, سياسة انسحابية لاتأميمية تسعى, من حيث المبدأ, الى تعزيز القطاع الخاص على حساب الدولة.
أما بالنسبة للبنان, فهو لم يكن بمنأى عن مفاعيل مجمل التحولات آنفة الذكر. فقد شهدت القطاعات العامة للدولة تضخّماً لافتاً ترافق وما يزال مع تدهور على مستوى الأداء, وبالتالي على مستوى العلاقة بين الإدارة والمواطن. ولقد أسهمت مرحلة الحرب, الى أسباب أخرى حصلت بعدها, في ترتيب أعباء كبيرة على مالية الدولة العامة, وهي أعباء أضحت اليوم مديونية عامة تبرّر للحكومة تبنّي مجموعة من السياسات الإقتصادية في مقدمها سياسة الخصخصة.

الفصل الأول: منهجية البحث

الغاية من هذا البحث هي تقييم مفهوم الخصخصة في ضوء بعض التجارب الدولية. بمعنى آخر, فإن الهدف هو تقويم مسلّمات نظرية مركزية ترتكز عليها الخصخصة في ضوء تجارب حصلت في بعض البلدان بغية التحقق من مدى انطباق هذه المسلمات على الحالات موضع البحث. وللقيام بهذه المهمة اعتمدنا استراتيجية البحث الموثّق أي تلك التي ترتكز على دراسات تناولت موضوع الخصخصة.
ونستعرض في إطار هذا البحث بعض التجارب التي حصلت في مرحلة السبعينات والثمانينات في كل من بريطانيا وكندا والولايات المتحدة وفرنسا ومصر. واختيارنا لهذه المرحلة الزمنية بالذات يعود لأهميتها التاريخية كونها تشكل المفصل المركزي لهذه التجربة.
أما اختيارنا لبريطانيا فيعود لضخامة تجربتها ولريادتها حركة الخصخصة على المستوى الدولي, كما يعود لشراسة الخطاب الأيديولوجي الذي رافق هذه التجربة.
واختيارنا لفرنسا يعود الى أن الفرنسيين مقتنعون إجمالا بجدوى وأهمية الملكية العامة, فما الذي يفسّر إذن تبني الطاقم الحاكم لسياسة الخصخصة؟
واختيارنا للولايات المتحدة الأميركية يفسّره عدم وجود مؤسسات غير مخصخصة فيها بالأصل. فما الذي يفسّر إذن تبني الإدارة الأميركية لسياسة غير ذات مضمون إقتصادي؟ إضافة الى انه وبعكس الفرنسيين, فإن ثقافة الشعب الأميركي السياسية هي ثقافة ليبرالية تقول في لا تدخلية الدولة وتعمل بها.
واختيارنا لكندا يعود لمعاصرتنا الشخصية لتجارب عديدة حصلت في هذا البلد, ولإلمامنا بخصوصية كندا السياسية والثقافية والإقتصادية.
أما اختيارنا لمصر فيعود لريادتها حركة الخصخصة على المستوى العربي عبر سياسة “الانفتاح” في أواسط السبعينات.
وإذ نتوقف حسب سياق البحث عند بعض جوانب تجارب الدول المختارة, فلا نرمي الى معالجة كل حالة بشكل مستقل عن الحالات الأخرى, إنما نبغي التوقف عند بعض جوانب هذه التجارب بشكل متداخل بحسب العنوان الذي ينطوي تحته البحث.
ونقوم بدراسة تحليلية لتجربة كندية في مجال الخصخصة, وهي خصخصة قطاع النقل في مقاطعة أونتاريو الكندية. أما السبب في اختيارنا لهذه التجربة فيعود لكونها تطرح إشكالية العلاقة بين الملكية العامة والملكية الخاصة بخصوص إدارة شؤون مؤسسة ذات اهداف إجتماعية/سياسية وتجارية في آن معاً. إضافة الى ذلك, فإن دراسة هذه الحالة ستعرّف القارئ بكيفية خصخصة مؤسسات من هذا النوع, وباعتبارات أخرى من غير المفيد استباقها الآن.
نعتمد في سياق البحث مصطلح خصخصة, أما مصطلح بوليتولوجي فنعني به الأفكارIdeologies)) , ولعبة المصالح والنفوذ, كمنطلقات لدراسة الأبعاد السياسية والإجتماعية والإقتصادية.
ومصطلح دولة في البحث يحمل معنى سوسيولوجياً وليس قانونياً, ونعني بذلك السلطة السياسية المتمثلة بالطاقم الحاكم. أما دور السلطة الاشتراعية أو السلطة الإدارية فتتم الإشارة الى كل منهما بمعزل عن السلطة السياسية, إلا اذا قصد عكس ذلك.
من ناحية أخرى, فقد اعتمدنا بالنسبة لتوثيق المراجع المعتمدة الطريقة التي تقترحها الـAmerican Psychological Association , أي تلك التي تدمج المرجع في النص, مع ذكر كنية الكاتب والسنة, وعند الضرورة رقم الصفحة بدلاً من ذكر المرجع بالكامل في هامش الصفحة.
أما استعمال الهوامش فيقتصر, كما هو معمول به, على تزويد القارئ بمعلومات, الهدف منها تعزيز الفكرة الواردة في المتن دون التأثير على السياق العام الذي يرد فيه. أما اذا أراد القارئ قراءة المرجع بكامله فيمكنه الرجوع الى لائحة المراجع.
وبالعودة الى سياق البحث نباشر بطرح التساؤلات: ما هي الخصخصة؟ ما هي المسلّمات التي تستند اليها؟ ماذا تقول؟ والى ماذا تهدف؟


الفصل الثاني: الإطار النموذجي للخصخصة
ماذا تعني الخصخصة(1) ؟
في المعنى المحدود للكلمة تعني الخصخصة إنتقال الملكية الكلّي أو الجزئي من القطاع العام إلى القطاع الخاص. إلا أن لهذا المصطلح معنى أشمل يستمد منطلقاته من النظرية الاقتصادية النيوليبرالية التي تقول بتعزيز القطاع الخاص على حساب دور الدولة, بغية تطوير مستوى تنافسية الاقتصاد الوطني على المستوى الدولي, وفي تحرير القطاع الخاص من القيود القانونية (Deregulation), وفي حرية التبادل التجاري (Trade Liberalization) وتكييف النظام الضرائبي مع وضعية الإستثمارات الوطنية والأجنبية, وفي استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية والعمل على تكوين رأسمال وطني قادر على المنافسة عالمياً, وعلى تشجيع الصادرات الوطنية, والإسقاط التدريجي للدعم الحكومي للاقتصاد الوطني, وعلى العمل على الحدّ من الاحتكارات من خلال التحكّم بأسعار السلع والمنتوجات الوطنية, وفي العمل على إعادة هيكلة وعقلنة القطاع العام.

في عقلنة أداء الإدارة:
الغاية من انتقال الملكية إلى القطاع الخاص هي تفعيل أداء المؤسسات العامة المخصخصة على المستوى الإداري. فالعلاقة بين الفعالية الإدارية (Managerial Efficiency)

والملكية(Ownership) هي, بحسب دعاة هذا المبدأ, علاقة متلازمة. فبعكس ما هي الحال في القطاع الخاص, فإنّ الموظف في القطاع العام لا يكترث لمسألة إرضاء الزبون بسبب غياب الحوافز اللازمة لذلك.
وبانتقال الملكية يتم التخلص من سلبيات العقلية السياسية والعقلية البيروقراطية. ذلك أنه ليس من مصلحة السياسي ولا من مصلحة الموظف التخلص من المؤسسات العامة, لما تدرّه عليهم من فوائد سياسية - ­إنتخابية في الحالة الأولى (السياسي), ومن امتيازات ونفوذ في الحالة الثانية (البيروقراطي).
وتنطلق الخصخصة على هذا المستوى من جملة مسلّمات هي التالية:
1) تكامل المستوى التقريري­الإستراتيجي مع المستوى التنفيذي - ­العملياتي, اذ ليس من فصل بين هذين المستويين, انما تماسك تنظيمي بين العناصر المؤلفة للإدارة.
2) التعويل على النتائج بدل الوسائل, بمعنى أن يتم التقييم أو المحاسبة على أساس النتيجة, وليس على أساس الالتزام بالقوانين والأنظمة.
3) التركيز على التغيير والإبداع والحركية والتكييفية.
4) لا مركزية القرار بحيث يتم العمل على تبسيط السلّم الهرمي الى أقصى حدود ممكنة, بهدف اختزال المسافة بين المستوى التقريري والمستوى التنفيذي بغية تسريع سير وتبادل المعلومات. وينادي هذا المبدأ بأن يكون للموظف أكبر قدر ممكن من الحرية, لأنه, بقدر ما يكون هذا الأخير مسؤولاً عن أدائه بقدر ما يكون متحمساً لرفع مستوى إنتاجيته.
5) الشفافية (أو اللاسرّية), التي تضمن بحسب هذا المنحى إنتاجية أفضل, وثقة متبادلة بين الموظف والزبون.
وتشكل المشاركة أحد أركان الخصخصة بشرط ان توفّر كمّاً ونوعاً من المعلومات للقرار يضمنان فعاليته. يمكن ان تكون المشاركة عمودية أي على مستوى هرمية الإدارة, وأفقية أي على مستوى علاقة الإدارة بالأوساط الفاعلة في المجتمع. ان فائدة المشاركة الفاعلة - ­المنتجة تكمن في انها تنسجم مع القاعدة الاقتصادية التي تتطلب البحث عن أكبر قدر من المنفعة مقابل الاضطلاع بأقل كلفة ممكنة.

في فعالية المنافسة
ترتكز الخصخصة على مبادئ “ميكروإقتصادية” بحتة. فهي نقيض للاحتكار لانها تقول بالمنافسة الحرة في بيئة اقتصادية تتميز بانسياب حرّ وكامل للمعلومات.
تهتم هذه النظرية بدراسة السلوك الاقتصادي لكل من المستهلك وأصحاب الموارد والشركات الخاصة, في بيئة إقتصادية تنافسية حرّة, خالية من القيود, بعيدة عن تدخلية الدولة. إلا ان ما يهمّ نظرية التنافس الحرّ هذا هو تحرير المنافسة من تدخلية هذه الأخيرة, أكثر مما يهمها عدد أو كثافة المتنافسين في السوق.
الغاية من الخصخصة هي إشراك المواطن أو الموظف في العملية الإنتاجية, عن طريق التملّك (People’s Capitalism) كما ترتكز على مبدأ الفعالية Efficiency)) الذي يقول في رفع مستوى الإنتاجية بأقل كلفة ممكنة. أما الغاية من المنافسة الحرة التي تقول بها الخصخصة, فهي تقضي بتوفير أفضل السلع بأفضل الأسعار للمستهلك. وبالنسبة للمواطن ­المستهلك, فإن علاقته بالمؤسسة العامة إلزامية, بينما هي, بحسب هذه النظرية, علاقة غير إلزامية إزاء المؤسسة الخاصة, أي ان بإمكانه اختيار أو رفض ما يعرض عليه (ومتى يعرض عليه) من منتوجات. إذن فإن للمستهلك, بحسب قانون السوق, ملء الحرية باختيار ما يشاء من الخدمات, ومتى يشاء, وكيفما يشاء وبالكمية التي يشاء. بمعنى آخر, فإن قانون السوق يقول بحرية الإختيار وبالمبادرة الفردية. وبقدر ما تكون القيود المفروضة من قبل الدولة على المستهلك قليلة, بقدر ما يكون السوق فعّالاً, أي مربحاً للمنتج وللمستهلك على حدٍ سواء. لكن نظرية التنافس الحرّ هذه, كونها تعوّل بشكل ملحوظ على ضرورة إرضاء الزبون, إن بالنسبة للكمية أو بالنسبة للنوعية أو للسعر مهما تدنت الإمكانيات المتاحة, فإن الخصخصة تعتبر في هذا المضمار آلية لتحسين وضعية العرض الإقتصادية (Supply-Sides Economics) .

في عدم فعالية المؤسسات العامة
تقول هذه النظرية أيضاً بعدم فعالية المؤسسات التجارية العامة وبجنوحها, بسبب عملها في مناخ غير تنافسي, نحو نتائج رديئة. أما الفوائد الاجتماعية التي توفرها المؤسسات العامة فلا مبرّر لها بسبب التكاليف الباهظة التي تتسبب بها, مما يستوجب خصخصتها. والمؤسسات العامة تؤثر سلباً وبحسب القطاعات على بنية الأسعار وبالتالي على بنية العرض والطلب, وذلك بسبب عدم اعتماد تسعيرة واحدة تطبّق على كل المستفيدين من الخدمات التي توفرها المؤسسة العامة. فاعتماد تسعيرة أقل من التسعيرة المعتمدة عادةً في قطاع من القطاعات, ينتج عنه ازدياد في الإستهلاك وخلل في الإستثمار.
تقضي الملكية العامة اذا, بحسب هذه النظرية بالتدخل بخيارات المستثمرين الخاصة, مما يؤثر سلباً على وضعية هذه الإستثمارات التسويقية كما يؤثر على الوضعية الإقتصادية للدولة المستقطبة لهذه الإستثمارات.
وللخصخصة مبرر له صلة بوضعية المؤسسات العامة المالية. هذه الوضعية تكمن في عدم قدرة هذه المؤسسات على إيفاء ما عليها من ديون بسبب عدم تنافسيتها وبسبب محدودية موارد الدولة المالية. أما هذا السبب الأخير فهو يفسّر, بحسب هذه النظرية, تحفّظ المؤسسات الدولية المُقرضة والشركات المستثمرة في التعامل معها. أما إذا استطاعت هذه الأخيرة الإقتراض, فإن هذه الحالة ستساهم بانتفاخ مالية الدولة العامة وبدون ضمانة أكيدة إن هذه الاموال ستُصرف بشكل فعّال. زد على ذلك إن المؤسسات المالية المقرضة أصبحت تحدد سقوفاً ذات علاقة بوضعية أداء الدولة الماكرو إقتصادي وخصوصاً المالي منها مقابل السماح لها بالإقتراض.
تحمّل الملكية العامة أيضاً خزينة الدولة أعباء كبيرة بسبب تخصيص شرائح ومؤسسات إجتماعية وشركات خاصة بمنافع نوعية بواسطة آليات عدة كالتقنين والفوائد الضرائبية والدعم المالي والقروض الميسرة الخ. هذا العبء يمكن توفيره عن طريق انتقال الملكية إلى القطاع الخاص أو عن طريق تفويض ­تلزيم (Contracting-Out) هذا الأخير بتوفير الخدمات التي يقوم بتوفيرها القطاع العام عادةً.

في مضاعفات قانون السوق الإجتماعية
تساهم الخصخصة في حلّ مشاكل الدولة الماكرو إقتصادية كالعجز في الموازنة والدين العام والتضخم في الأسعار والبطالة. إلا أنّه تكمن باعتراف مؤيّدي هذه النظرية نقاط ضعف في قانون السوقMarket Failures)) أهمها ما اصطلح على تسميته(Externalities) أو مضاعفات الإنتاج غير المضبوط, كالمضاعفات ذات البعد البيئي والإستهلاكي. إلاّ أنّ هذه المضاعفات ليست برأي هؤلاء إلا شواذاً بالنسبة للقاعدة, بينما المضاعفات التي تنتج عن تدخلية الدولة في الإقتصاد, هي برأيهم بنيوية, وهي القاعدة وليست الإستثناء. أما نقطة الضعف تلك فيمكن معالجتها بالتوافق مع المعنيين عن طريق التشريع أو عن طريق أية آلية أخرى تضمن حقوق الجميع. بمعنى آخر, فإنّ قانون السوق هو الآلية التي يمكن من خلالها التوفيق بين مصالح الأفراد ومصالح المجتمع, كما أنه الضمانة للحريات الإجتماعية والسياسية.
وبما أن الخصخصة قادرة على تحقيق كل النتائج الاقتصادية آنفة الذكر, فليس برأي دعاة هذا المبدأ من حاجة لنقابات تدافع عن حقوق العمال والموظفين وتُرهق بالتالي خزينة الدولة بالتزامات مالية باهظة. فالعامل أو الموظف محفّز وهو يتقاضى بقدر ما ينتج.
إن المنفعة العامة(Public Goods) هي, بحسب الفلسفة النيو­ليبرالية التي ترتكز عليها الخصخصة, شأن القطاع الخاص وقانون السوق. وقانون السوق هو أيضاً الضامن للحريات السياسية... أما بالنسبة للإدارة فيجب العمل على أن تكون في ظل نظام اقتصادي حرّ, إدارة مصغّرة, فاعلة, آخذة بعين الإعتبار وجود القطاع الخاص وعاملة على قاعدة الإدارة بحسب الأهداف والتقويم بحسب الإنتاجية.
ما هي الدروس التي يمكن الإستفادة منها في ضوء تجارب آخرين في مجال الخصخصة؟ هذا ما سيكون موضع بحث في الفصل التالي.

الفصل الثالث: آراء في الخصخصة في ضوء التجارب
ذكرنا ان الخصخصة هي نتيجة لتأثيرات شتى منها الدولي والسياسي والإقتصادي والأيديولوجي والإداري - ­التكنوقراطي...والإعلامي. وهي تخضع لاعتبارات سياسية ذات علاقة بالسيادة الوطنية على موارد الدولة. وقد شهد العالم العربي في هذا المضمار تجارب ذات دلالات واضحة, فكانت مسألة تأميم قناة السويس أول محاولة تحرّر اقتصادية ذات طابع سياسي -  ­سيادي شهدها القرن الماضي. بالمقابل, فمن الطبيعي اعتبار “سياسة الإنفتاح” التي انتهجتها الحكومة المصرية في أواسط السبعينات سياسة انسحابية لا تأميمية, تسعى من حيث المبدأ, الى تعزيز القطاع الخاص على حساب دور الدولة.
نستعرض في هذا الفصل آراء في بعض التجارب التي حصلت في مجال الخصخصة في غير بلد من بلاد العالم, ونتوقف عند تجارب بعض الدول الغربية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وكندا, وعند بعض التجارب العربية كمصر. ونقوم عند الضرورة ببعض المقاربات مع بعض التجارب اللبنانية في هذا المجال, ونهدف من ذلك إلى إبراز النتائج التي تمخّضت عن هذه التجارب والعوامل التي أثّرت فيها.
يقسم هذا الفصل الى ثلاثة اجزاء. يخصص الأول لمناقشة مسألة إنتقال الملكية, والثاني للعلاقة بين الملكية وفعالية الأداء الإداري. أما الثالث فيكرّس لدراسة النفوذ المتبادل لكل من العام والخاص.

 

في انتقال الملكية
تختلف التجارب في مجال الخصخصة باختلاف ثقافة الطبقة السياسية وتوجهات الطبقة التكنوقراطية. وهي تخضع ايضاً لتأثيرات حركة رأس المال العالمي. يقول Ayubi (1990)

في التجربة المصرية في مجال الخصخصة إنها سياسة عامة تقع في إطار سياسة الإنفتاح الإقتصادية التي انطلقت في مصر منذ منتصف السبعينيات, وتهدف هذه السياسة برأيه الى استقطاب رؤوس الأموال والخبرات الأجنبية. وهي ليست غاية بحدّ ذاتها. فعلى الرغم من قطع مصر أشواطاً متقدمة في هذا المجال, فإن الدولة المصرية ما تزال برأيه تضطلع بدور اقتصادي واجتماعي توسعي. فأجهزة الدولة ما تزال في ازدياد على الرغم من محاولات تقليص النفقات والإختزال في عدد الموظفين. الى ذلك فإن الضوابط البيروقراطية لم تتأثر بموجة الخصخصة, بل ذهبت باتجاه معاكس لهذا المفهوم. ولم تنسحب الدولة المصرية لصالح القطاع الخاص إلا في مجالي التجارة والمال. أما في المجالات الإجتماعية كالصحة والتربية, فلم يتأثر دور الدولة بهذه السياسة. وما تبدل, برأي الكاتب, هو ذهنية الدولة التي تحولت من ذهنية تنموية الى ذهنية نفعية­ربحية. وما يفسّر توسع القطاع العام يعود برأيه (ص 97) الى: 1) عدم اقبال رأس المال الوطني للإستثمار في قطاعات الدولة الإنتاجية. 2) مقاومة موظفي الدولة لمحاولات الإستيعاب الرأسمالية. 3) عدم رغبة الدولة والبورجوازية البيروقراطية في التنازل عمّا لديهما من نفوذ وامتيازات.
4) رغبة بورجوازية الدولة في إشراك القطاع العام مع رأس المال الدولي(International (Capital على حساب شراكة بين القطاع العام ورأس المال الوطني. وينطبق موقف الكاتب من الموضوع على واقع دول نامية إجمالاً وعلى واقع دول أخرى متقدمة صناعياً. إلا ان الضواغط المتمثلة بظاهرة العولمة تدفع اليوم أكثر من ذي قبل نحو تقليص حجم الدولة وبالتالي نحو انسحابها من القطاعات التي كانت تديرها تقليدياً, على الرغم من معارضة قوى مستفيدة من الإبقاء على الوضع القائم. وما يهم هنا هو الإشارة الى أنه يترتب على كل عملية شراكة أو إنتقال للملكية, سواء كان رأس المال وطنياً أم أجنبيآً, أكلاف تكون باهظة في بعض الأحيان. وتعود كلفة انتقال الملكية الى تلزيم شركات خاصة مسؤولية إدارة عملية الإنتقال. لقد كلّفت عملية توزيع أسهم المنشأة الكنديةBritish Colombia Resources Investment Corporation  المواطنين مبلغ 40 مليون دولار كندي Munro, 1989, 27))؛ على الرغم من انها اعتبرت بنظر البعض عملية ناجحة, إن بالنسبة لعدد المساهمين الذي بلغ 86 % من عدد سكان المقاطعة (أي بمعدل خمس حصص للشخص الواحد) أم بالنسبة للإقبال المضطرد على شراء الحصص والذي تمثل بشراء 170 ألف شخص حوالى 77 مليون و530 ألف و 380 حصة اضافية Gow, 1994, 184)).
اما انتقال ملكية Teleglobe Canada الكندية الى القطاع الخاص, فقد كلّفت الحكومة الفيديرالية مبلغ 7 ملايين دولار كندي بدل استشارات ((Munro, 1989, 27. إضافة الى ذلك, فإن Teleglobe Canada كماBritish Telecom البريطانية قد حظيتا بتعهّد من قبل حكومتيهما بضمانات تسمح لهما بالإحتفاظ بامتيازهما التجاري لعدة سنوات(Brooks, 1989, (44. ومن ناحيتها, استطاعت Airways British ايضاً إقناع السلطات الرسمية البريطانية بعدم الأخذ بتوصية British Civil Aviation Authority التي كانت قضت بتغيير بنية خطوط الملاحة الجوية بغية تشجيع المنافسة وذلك بهدف الحفاظ على قيمة الشركة الشرائية
Munro, 1987, 27)).
إذن فإن انتقال الملكية لا يتم من دون ثمن. وهو يتم في بعض الأحيان من دون مبرر اقتصادي مقنع. وتدل بعض التجارب في الغرب على ان المنشآت العامة المخصخصة كانت في مجملها مربحة قبل انتقال الملكية. لقد دعمت الحكومة البريطانيةBritish Aerospace قبل خصخصتها بمبلغ قدره 100 مليون ليرة استرلينية لإيفاء ديونها, كما حصلت على 250 مليون ليرة استرلينية لمساعدتها على الإنخراط في اتحاد لشركات الطيران. Canadair وتلقت ايضاً مبلغ 1,1 مليار دولار كندي دعماً من الحكومة الكندية قبل انتقال الملكية الى القطاع الخاص. وأدى هذا الدعم الحكومي الى تحسين كبير في مستوى تنافسية هاتين الشركتين. وبرأي Bishop & Kay (1989) كان بإمكان المؤسسات البريطانية التي تمت خصخصتها ان تكون بنفس الربحية لو بقيت في إطار الملكية العامة. إن المعطيات المتوافرة تدل على ان ارباح شركات بريطانية مثل British Aerospace & Britail & Cable & Wireless وأخرى كندية مثلCanadair بعد انتقال الملكية, لم تكن دائماً أفضل مما كانت عليه قبلها.
ان انتقال ملكية منشآت عامة مربحة الى القطاع الخاص يمكن ان يؤدي الى ارتفاع في مستوى الإستهلاك لدى منشآت عامة أخرى, وهو معطى من شأنه دفع الحكومة الى البحث عن مصادر تمويلية بديلة. ومن شأن عملية انتقال الملكية ان تؤثر على بنية نفقات الدولة العامة عوضا عن الإختصار من هذه النفقات. فبدل أن تغذى المنشآت غير المربحة بأموال المنشآت المربحة, فإن على الحكومة ان تبحث عن موارد أخرى بعد خصخصة المنشآت المربحة. كما أنه من شأن انتقال الملكية الإسهام سلبياً في عملية اعادة توزيع الموارد العامة بسبب الفراغ الذي يتسبب به هذا الإنتقالWilliams, 1987, 201, 203)).ان بيع منشآت عامة مربحة ليس فعلاً مقنعاً حتى من وجهة نظر اقتصادية صرفة.
ان انتقال الملكية لا يؤثر برأي Williams (1987, 196) إيجاباً في اداء الشركات المخصخصة. وليس من المؤكد بأن المنافسة التي تعتمد على سلوك المستهلك او المستثمر على المدى المحدود تتلاءم وتوجهات شركات ضخمة تخطط على المدى المتوسط والبعيد. وليس من شيئ يضمن بأن شركة خاصة ستعمل على تخفيض مستوى أسعار الخدمات التي توفرها اذا ما تدنت كلفة إنتاجية هذه الخدمات. ان نوعية الخدمات في بريطانيا لم تتحسن عمّا كانت عليه قبل الخصخصة. وهذا ما أكد عليه استطلاع للرأي حصل بين سنتي 1987 و 1988 قام به Telecommunications Office البريطاني. كما صدر بهذا الخصوص تقرير عن مؤسسة حماية المستهلك البريطانية يطالب الحكومة بالعمل على توفير مناخ تنافسي فعّال وعلى ضبط الأسعار وتقويم الأداءDunsire, 1990, 56)) هذه الإشكالية تستدعي إذن تعزيز الرقابة على التبدّل الذي يطرأ على العلاقة بين أكلاف الإنتاج والأسعار. إن تدخل الدولة عبر آلياتها الرقابية والقانونية هو الضمان لمنافسة أكثر توازناً وبالتالي أقل ضرراً بالمستهلك.
وللمنافسة عقابيل أهمها إفراز ظاهرتي التركيز الإقتصادي والبطالة الناتجتين عن تعزيز موقع المنافسين الأقوياء على حساب المنافسين الضعفاء (Rioux & (Beauregard, 1987 . صحيح ان المنافسة تشكل حافزاً للشركات المتنافسة لعقلنة إنتاجها, لكن من المؤكد بأن شركات صغيرة ومتوسطة الحجم لا تستطيع عقلنة بنيتها الإنتاجية بمعزل عن تدخل الدولة الذي يتناقض بدوره مع قاعدة العرض والطلب. ويقول الباحثان في هذا المضمار أن شركات كيبيكية (كندا) كالمؤسسة العامة للإستثمار, استطاعت بفضل دعم الدولة ان تحقق إنجازات نوعية بالغة الأهمية, ناهيك عن الدور التنموي الإقتصادي الذي تضطلع به. كما تدل التجربة الكندية في هذا المضمار على ان رأس المال العام الموظف في المنشأة كان العنصر الضاغط للإحتفاظ بحق المشاركة الرسمية في إدارة المنشأة العامة بعد انتقال الملكية الى القطاع الخاص. ويعود السبب في ذلك برأي (Laux, 1987, 168) الى رغبة كبار إداريي المنشآت العامة في المشاركة في رسم سياسات وتوجهات الشركة المخصخصة حفاظاً على الأهداف العامة التي انشئت من أجلها. واستطراداً, فإن بيع الدولة منشآتها لمستثمرين محدودي العدد, سواء كان الشاري شركة او مجموعة اجتماعية, أثنية او ثقافية معينة, هي سياسة تستهجنها العامة, وبالتالي فإن السياسة التي تقضي ببيع أسهم مع تحديد سقف مئوي معيّن عبر البورصة هي سياسة تبغي من الناحية السياسية الى إستقطاب اكبر قدر ممكن من الدعم الشعبي­الأمر الذي دلّت عليه التجربة البريطانية­كما تهدف من الناحية الإقتصادية الى الحدّ من ظاهرة التركيز الإقتصادية Economic Concentration او الأوليغوبول Oligopol.


يوجد بين الملكية العامة والخصخصة هامش تتحرك من خلاله الدولة. يكمن هذا الهامش في الضوابط الحكومية القانونية والتنظيمية على أنشطة القطاع الخاص. وبرأي(Moore, 1985 in Dunsire, 1990,55) فإن الضوابط الحكومية على الملكية الخاصة هي أفضل بكثير من التأميم او الملكية العامة حتى في حالات الإحتكار الطبيعية. لكن الخوف من تنافسية الشركات المحصّنة تكنولوجياً ومالياً ومهنياً هو خوف ملازم لكل من يريد ان ينخرط في لعبة المنافسة. وما يهم برأي الكاتب هو ألاّ ترفع الشركة الأسعار بغير مبرر لكي لا يترتب على المواطن­المستهلك أعباء اضافية. والمنافسة ليست متجانسة العناصر. فالمنافسة على صيانة الأبنية أو جمع النفايات هي غير المنافسة على قطاعات حيوية كالملاحة الجوية او الكهرباء. فحجم المتنافسين في الحالة الأولى هو اكبر بكثير من حجم المتنافسين في الحالة الثانية. ان اسعار شركة مثل British Telecom تتمتع بامتياز تجاري على مستوى كل بريطانيا, تحدده الدولة وليس السوق. وهي تساهم باستقرار الإقتصاد عن طريق الإستهلاك الذي يشكل ضخاً مؤثراً في الدورة الإقتصادية. زد على ذلك اهمية هذه الشركة الإقتصادية التي تُكسبها ثقة الأسواق المالية والمستثمر على حد سواء. وشركات بهذا الحجم لا تكسبها الخصخصة إمتيازات إضافية ولا تساهم في تحسين ربحيتها. وما يهم هنا برأي  (Dunsire, 1990, 55; Williams, 1987, 197)ليس انتقال الملكية انما أداء المنشأة الإداري Managerial Skill.
في استعراضهما لبعض الدراسات عن فعالية بعض المؤسسات الحكومية العاملة في قطاعات سكك النقل الحديدية والهاتف والنقل العام والملاحة الجوية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وكندا, يقول كل منBarry Boothman & Stanford Borin (Brooks in 1989)  بأن التقليل من إيجابيات ومنافع المنشآت الإجتماعية العامة هو أمر تتم ملاحظته في غير دراسة. ان عدم مردودية المنشأة العامة, كما السياسة التعريفية غير المنسجمة مع قاعدة العرض والطلب, لا يعنيان بأن هذه المنشأة هي غير فعّالة. فالدور الإجتماعي والسياسي الموكل الى هذه المنشآت أو الى مثيلاتها هو دور ضروري لا يمكن, بل لا ينبغي التعاطي معه رقمياً. بالمقابل, فقد توصلت دراسة قام بها المجلس الإقتصادي الكندي شملت القطاعات آنفة الذكر, الى أن الملكية العامة تتسبب بتكاليف اقتصادية اكبر من المنافع الإجتماعية التي توفرها للمواطن (Borin & Boothman).

ان ما يفسّر هذا التناقض في النتائج والآراء برأي Brooks, 1989, 38)) هو تقليل المجلس المذكور من أهمية المنافع الإجتماعية التي توفرها هذه المنشآت على الرغم من ان المجلس آنف الذكر يقر بمشروعية هذه المنافع. ان توصية المجلس بخصخصة AirCanada مثلا تستند الى الفائض الذي سجلته هذه المنشأة. وهذا الفائض الذي يستعمل لتغطية كل مناطق كندا بمعزل عن ربحية او عدم ربحية الرحلات التي تقوم بها المنشأة الى بعض المناطق الكندية هو فائض يوظف لغاية وطنية واضحة من خلال همزة الوصل التي تمثلها هذه المنشأة بين كل المناطق الكندية. أضف الى ذلك ان المجلس لم يحاول برأي الكاتب معرفة مختلف المنافع التي توفرها المنشأة لو اعتمدت الحكومة سياسات أخرى عبر الدعم الحكومي او النظام الضريبي. ان الحماية الإجتماعية التي توفرها المنشأة عبر حمايتها للأجراء العاملين فيها هو أمر جدّ حيوي. اما الخصخصة فهي تؤدي الى الإزدياد في نسبة البطالة والى إضعاف نفوذ نقابات العمال التي تشكل صمّام أمان لحقوق هؤلاء الأجراء. يقول Brooks (1989, 50) في هذا المضمار بأن انتقال العمال من القطاع العام الى القطاع الخاص يضعف موقع اليد العاملة ازاء أرباب العمل. ومن شأن الملكية الخاصة ايضا إضعاف ضمانات العمل وإضعاف قدرة النقابات على التفاوض. وتشير الإحصاءات في هذا المضمار انه بين 1980 و 1988 خُصّصت في بريطانيا حوالى 600 ألف وظيفة, ما يمثل اكثر من 30 % من مجموع وظائف القطاع العام. وما راج في إطار التجربة البريطانية هو بيع ملكيات عامة بالكامل الى القطاع الخاصHening, 1988)) علماً بأن الخصخصة عبر التلزيم contracting-out)) والتي كانت شكلت إحدى سياسات الدولة الأكثر رواجاً بغية الحدّ من تضخم القطاع العام, وكانت اضحت بمثابة عقيدة في بريطانيا, وهي وفرت على الدولة بحسب
(1990,34 Dunsire,) عبء عدد كبير من الموظفين.
أما في فرنسا فقد توقع برنامج حكومة شيراك بشأن انتقال الملكية انتقال حوالى 950 الف وظيفة الى القطاع الخاص.
من ناحية اخرى, تقول Hurl (1984, 397) في دراستها لخصخصة نظام الخدمات الإجتماعية في مقاطعة أونتاريو الكندية بأن بعثرة موظفي القطاع العام بين عدة منشآت غير حكومية تحول دون توحيد هؤلاء العمال في اطار نقابي, كما يساهم ذلك في تدني نوعية الخدمات بسبب لجوء المنشأة الخاصة الى عمال ذوي كلفة رخيصة, ما يؤكد صحة العقلانية الإقتصادية التي تقول في الإضطلاع بأقل قدر ممكن من الأكلاف مقابل تحقيق اكبر قدر ممكن من الإنتاجية, مع كل ما يستتبع ذلك من مضاعفات على حساب الفعالية.
اما بالنسبة لـWilliams (1987, 204)

فإن للمسألة وجه آخر. إن إضعاف الخصخصة لدور النقابات يمكن أن يساهم في تقليص الضواغط التضخمية على القطاع العام لكنه يتناقض مع رؤية الحكومة البريطانية لآليات التضخم التي لا تستند بالضرورة الى الخصخصة, وما يساهم بتخفيض عدد المستخدمين في القطاع العام هو زيادة مطّردة في الأجور, وهو عامل تعزّزه برأيه الخصخصة ولا تتناقض معه.
 

في فعالية الأداء الإداري
يعالج (Tipper & Doern, 1988) in (Brooks, (1987 مسألة الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص, أي الشراكة في إدارة شؤون المؤسسة (Policy Instrument) . إن الشراكة في إدارة شؤون المنشأة هي احد أوجه الخصخصة. وبرأيBrooks فإن هذه الشراكة غير مفيدة بسبب الخلفيات غير المتلائمة بل المتناقضة التي ينطلق منها كل من العام والخاص. فبينما ينطلق الأول من خلفية اجتماعية­وطنية ينطلق الآخر من خلفية تستند الى الربحية.
وتخضع فعالية الأداء الإداري لاعتبارات ميكرو إدارية وميكرو سياسية محضة. يثير يوسف لحود مدير عام MEA سابقا (L'ORIENT LE JOUR, 1998) اشكالية إدارية ملازمة للملكية العامة. هذه المشكلة التي تنعكس سلباً على مستوى اداء المنشأة الإداري كما على مالية المنشأة تكمن برأيه في: 1) تسييس المؤسسة عبر إخضاعها لاعتبارات طائفية­زبائنية. 2) عدم توفر الحوافز اللازمة للموظفين. 3) قوة ضمانات العمل.
تنعكس هذه الإشكالية سلباً على أداء الموظفين النشيطين وبالتالي على مستوى انتاجيتهم, إضافة الى ان قوة ضمانات العمل, بغياب المراقبة والمحاسبة, تدفع الى الكسل الإداري بل قل الى بقرطة BUREAUCRATIZATION سلوك الموظف. ولا تتم الترقية برأيه بحسب الكفاءة, كما أنه من المستحيل فصل أية عوامل مهما كانت مبررات الفصل منطقية. وهو يقترح في هذا المضمار ان تتم خصخصة الشركة عبر بيع أسهم وليس عبر بيع الشركة بالكامل الى شركة اجنبية, لأن ذلك يحفز المساهمين من خلال إشراكهم في أرباح الشركة. إلا ان الخصخصة ليست برأينا الحل الأوحد للآفات البيروقراطية آنفة الذكر. وتدل التجربة البريطانية على انه بدل أن تساهم الخصخصة في تصغير حجم قطاعات الدولة بإزالة الضواغط البيروقراطية عنها, فإنها ساهمت في ظهور أجهزة بيروقراطية جديدة بروتينها والعبء المالي الذي تمثّله, وكمثال على ذلك فإن فتح باب المنافسة أدّى في بريطانيا الى ظهور اجهزة جديدة مثل: & Office of Telecommunications

Office of Fair Trading & Monopolies and &  Office of Gaz Supply Mergers Commission . اما التجربة الكندية فتدل برأي Laux (1987) على ان الحواجز البيروقراطية مصطنعة إذ يلاحظ انها تبرز في الوقت الذي يقوى فيه الخطاب الأيديولوجي لصالح الخصخصة. ويعود ذلك الى خوف الموظفين من فقدان امتيازاتهم ونفوذهم نتيجة انتقال الملكية.
وبما ان اللامركزية تعتبر أحد أركان الخصخصة وبالتالي أحد آليات تفعيل أداء المنشأة فقد اتخذت على هذا المستوى مبادرات حكومية تقضي بإنشاء أجهزة(2) شبه حكومية اختصاصية واستشارية شبه مستقلة عن منطق عمل القطاع العام. اما الهدف من إنشاء هذه المؤسسات فيقضي بتوفير خدمات محددة وواضحة المعالم بفاعلية اكبر مما كانت توفره تقليدياً وزارات الدولة التي تضطلع بمهام متعددة ومتشعبة الأبعاد. أما ما يفسر هذه الفعالية المرجوة وما يبرّر وجود هذه المؤسسات فهو بعدها عن رقابة وتدخل السلطة التنفيذية وبالتالي بعدها عن العقلانية السياسية التي تحكم أداء هذه الأخيرة. أما الإشكالية التي تطرحها هذه الأجهزة فهي من ناحية, محدودية مساءلتها من قبل الجمهور بسبب الإستقلالية التي تتمتع بها, ومن ناحية أخرى إضعافها للدور التقليدي الذي كانت تلعبه مؤسسات الدولة التقليدية إن على المستوى المحلي أم على المستوى المركزي.
اما بالنسبة لعنصر الإستقلالية فإن هذه الأجهزة ليست معدومة المنافذ على السياسيين الذين وإن ابدوا تحفظاً في التعاطي معها إلا أنهم يمسكون بها من خلال تخفيض أو زيادة موازنتها, إضافة الى إلزامها بالتوجّه العام لسياسات الدولة العامة. أما بالنسبة للمساءلة, فإن هذه الأجهزة التي تتمتع باستقلال نسبي في إدارتها لشؤونها, ليست مسؤولة امام البرلمان, انما من يخضع للمحاسبة Accountability امام هذا الأخير هو الوزير. ففي بريطانيا يقول

 (Turner , in Axford et al 1997) إن هذه الأجهزة لا تخضع بمعظمها للمحاسبة البرلمانية. ولو كان الحال عكس ذلك لتدخل السياسي حتماً في عملها ولفقدت بالتالي مبرر وجودها. بالمقابل, فإن تكاثر عدد هذه الأجهزة في غير دولة من الدول المتقدمة صناعياً أثار جدلاً كبيراً لجهة عدم الحيادية التي رافقت عملية تعيين أشخاص فيها من قبل السلطة التنفيذية. هذا التسييس الذي يتناقض كلياً مع مبدأ حياد الإدارة, خصوصاً في دول كبريطانيا, وفّر للحكومة إمكانية التأثير على عمل هذه الأجهزة ودفع بالتالي الـCommite on Standards in Public Life البريطانية الى القول بضرورة وضع حدّ للأموال التي تصرف على العاملين في هذه الأجهزة وعلى ان يكون الإقتناع بأهمية خدمة الشأن العام هو المبدأ المعمول به وليس البحث عن تحقيق مصالح نفعية. أشارت اللجنة أيضاً الى الخطورة التي تتمثل في بروز ظاهرة تعارض المصالح نتيجة لهذا التدخل(3). ودفعت هذه الإشكاليات أنصار الخصخصة في بريطانيا الى الترويج لمبدأ المنافسة لتفعيل أداء القطاع العام. يقول هؤلاء بأن مبدأ المنافسة الذي اعتمدته الحكومة البريطانية والذي شجّعت عليه, أدى الى تطوير أداء السلطات المحلية من خلال توفير الأكلاف المترتبة على توفير الخدمات للمواطن, وذلك على الرغم من محدودية الخدمات التي انخرط في التنافس عليها القطاع الخاص. بمعنى آخر فإن البيئة التي ساهمت المنافسة في خلقها هي التي أدت الى هذه النتيجة. لقد عملت الحكومة البريطانية على تقليص دور السلطات المحلية من خلال الحدّ من حجم الخدمات التي توفرها وأيضاً من خلال شراكة اكبر مع القطاع الخاص والمنشآت غير الحكومية والمنظمات الطوعية. ذلك ان الجهاز البلدي كان سيعمل في الحالة المعاكسة على توظيف الوقت للتحقق من تقيّد الخدمات بالأنظمة والقوانين المرعية أكثر من اهتمامه بنوعية الخدمات التي يوفرها للمواطن. بالمقابل فإن النزعة الإلزامية التي اتّسمت بها عملية التلزيم من قبل الحكومة كانت غير عادية, وهي أدت الى تقليص دور السلطات المحلية على مستويات عدة كالتعليم ما بعد الثانوي والتعليم الجامعي, إضافة الى أنها ساهمت في تكاثر منظمات غير حكومية لا تتمتع بالمشروعية الدستورية كونها منظمات غير منتخبة (Grant, (1997, 363, 364 in Axford et al, 1997 . لكن اذا كان لتغييب العنصر النقابي عن هذه المعادلة التي أرستها السياسة التاتشرية على مستوى الحكم المحلي, مبرراته السياسية والإيديولوجية, إلا أنه ليس له برأي كل من & McDavid  Shick(1987) مبرراته الإقتصادية أو تلك ذات العلاقة بالفعالية الإدارية, وتدل دراسة قام بها الباحثان أنه من الممكن للقطاع النقابي كما للإدارة المحلية المتمثلة بالبلديات أن تتعاون تعاوناً مثمراً. وتدلّ الدراسة أيضاً على أن الإدارة البلدية ليست أقل إنتاجية من القطاع الخاص. كما أن المنافسة هي حافز أساسي لتحسين إنتاجية العام والخاص على حد سواء. وتبرز الدراسة نتائج تجربة حصلت في بلديتين: بلدية شمال فانكوفر وبلدية غرب فانكوفر. إحدى هاتين البلديتين تعتمد بشكل دوري عن طريق المناقصة, على تلزيم شركة خاصة مهمة جمع النفايات المنزلية. اما البلدية الثانية فهي تعتمد على الطاقم البلدي المتوفر لديها للقيام بالمهمة نفسها. ودلّت الدراسة على أن البلديتين إستطاعتا, بفضل المنافسة, ضبط إرتفاع كلفة جمع النفايات كما استطاعتا رفع مستوى الإنتاجية.
وتخلُص الدراسة الى القول بأن اندفاع موظفي البلدية المكلفين جمع هذه النفايات ساهم في توفير خدمة أفضل للمواطن بكلفة أقل, داحضاً في الوقت ذاته النظرية التي تعتبر الخصخصة كحل أوحد لمعالجة مشاكل الدولة الخدماتية. وبرأي الباحثين (ص 468) فإن ما يفسر مقاومة بلدية شمال فانكوفر لموجة الخصخصة هو تأثير النقابة على المجلس البلدي بفضل روحها النضالية وقوتها التنظيمية. وهذا لا يعني بأن النقابة كانت تتصرف إنطلاقا من خلفية ايديولوجية, انما بدافع الواقعية. ان ظروفاً ماكروإقتصادية ضاغطة تتمثل بشراسة منافسة القطاع الخاص حمل هذه الأخيرة على تبني موقف اتسم بالبراغماتية من خلال موافقتها على الإختصار من عدد العاملين البلديين لكي تستمر البلدية بمنافسة الشركة الخاصة, وأيضاً لتفادي احتكار هذه الأخيرة لعملية جمع النفايات في كل المنطقة.
بالمقابل, تقول النظريات الإقتصادية للسياسة والإدارة Economic Theories of Politics and Bureaucracy بعدم فعالية أداء موظفي القطاع العام بسبب غياب الحوافز المنهجية وبسبب عقلانية الفرد القائمة على البحث عن اكبر قدر ممكن من المنافع الشخصية مقابل الإضطلاع بأقل الأكلاف الممكنة. وقادت هذه المسلّمة الى تفسير العجز المالي الذي تعاني منه قطاعات الدول الغربية الرسمية بالإعتماد على دراسة سلوك الموظف الإقتصادي أي ذلك السلوك القائم على تبرير أكبر قدر ممكن من النفقات من أجل توسيع رقعة النفوذ والمحافظة على الإمتيازات(Niskanen, 1971 & 1975) وهذا ما اصطلح على تسميته في لبنان بالإهدار او هدر المال العام والذي يمكن ان يعود لأسباب إضافية. يقول احد موظفي وزارة الصحة اللبنانية الكوادر ان المؤسسات الإستشفائية التي تتعاقد مع الوزارة تنتهج سلوكاً يثير كثيراً من الشكوك, إذ تنتفخ الفواتير بشكل يثير الشك. اما الوزارة فهي عاجزة عن ضبط هذا السلوك بسبب طبيعة الدور العلاجي التي تستند اساساً الى تقديرية واستنسابية المنشأة المعالجة.
يحذر رئيس لجنة الخصخصة الأميركية من هذه العقلانية ويقول بالتلزيم كإحدى أدوات الخصخصة ويضيف ما مفاده انه اذا افترضنا ان الشركات المتعاقدة تتصرف بحسب العقلانية الإقتصادية المعرّف بها آنفاً, فإن هذه الشركات ستعمل خلال تنفيذها للعقود على إخفاء أيّ نقص يحصل خلال عملية التنفيذ من دون ان تتمكن الحكومة من محاسبتها (Seidman, 1990, 25).
باختصار فإن للبيئة العامة المتمثلة برقعة المنافسة وبطبيعة التقنين الحكومي وبالإطار العام المتعلق بمحاسبة وتحفيز قياديي المؤسسات العامة وبدرجة التعاون بين كل من العام والنقابي... وليس لطبيعة الملكية, أثر كبير على فعالية المنشأة.
 

في الملكية ونفوذ العام والخاص
يقولSeidman (Ibid) في تعقيبه على الحالة الأميركية بأن الشركات الخاصة تشكّل جماعات ضغط تتمتع بنفوذ سياسي يؤثر على الأداء الرسمي في مجال المراقبة والمحاسبة. وللخصخصة في الولايات المتحدة مضاعفات من نوع آخر. يقول Seidman بأن مسألة تملّك القطاع العام لقطاعات حيوية ليس على حساب القطاع الخاص كما انه غير ذي علاقة بأي بعد عقائدي أو جدلي. ان المنشآت العامة في الولايات المتحدة لا تهدف الى منافسة القطاع الخاص, والعلاقة بين هذين القطاعين هي علاقة متداخلة متكاملة تخدم مصالح الطرفين. يوفّر القطاع العام في الولايات المتحدة للقطاع الخاص خدمات كثيرة كفرص الإستثمار والقروض والتلزيم. ما هو موضع بحث واهتمام هو مسألة كيفية تطوير ادارة الشأن الخدماتي وليس مسألة تحديد ما الذي يجب تطويره. وما هو موضع جدل في الولايات المتحدة, هو درجة توغّل القطاع الخاص في القطاع العام, أي درجة تأثّر سياسات هذا الأخير بهذا التوغل. يستشهد Seidman (p,20) بـ Federally Funded Research and Development التي تربطها علاقة خاصة بالحكومة الفيديرالية. ان هذه العلاقة الخاصة البعيدة عن المحاسبة البرلمانية أعطت مراكز الدراسات, برأي مكتب المحاسبة العامة, نفوذاً متعاظماً على سياسات الدولة وبرامجها الإستراتيجية, ما يتعارض مع التعليمات الحكومية التي تمنع القطاع الخاص من القيام بمهام ذات طابع حكومي. لقد اشتكت من جهة أخرى لجنة التمليك البرلمانية Representatives Appropriations  The House of

Commite من ضخامة أجور موظفي مراكز البحوث ومن المصاريف العامة التي تترتّب على هذه العقود. كما رأت اللجنة في التعاقد مع هذه الشركات طريقة غير مباشرة لتجنّب تقليص جدول أجور موظفي القطاع العام, وأوصت بمزيد من الرقابة الحكومية على عمل هذه الشركات.
إلا ان السلطة السياسية ليست بمنأى عن الإعتبارات المصلحية, إذ تتحكم في أدائها عقلانية سياسية في أولوية اعتباراتها الخسارة والربح السياسي. في دراستهم المقارنة لسياسات الخصخصة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا, يرى كل من Chris & Jeffery R. Hening  Hammet & Harvey B. Feigenbaum (1988) في الخصخصة استراتيجية حكومية وأداة إنتخابية تهدف الى التأثير على مصالح الناخب وعلى سلوكه. وبرأي هؤلاء, فإن البيئة السياسية وليس الإقتصادية هي التي كان لها كبير الأثر على سياسات هذه الدول في مجال الخصخصة. ومن الدلائل على ذلك تواضع المبالغ التي جلبتها سياسات الخصخصة في كل من الولايات المتحدة وفرنسا. أما في بريطانيا حيث جلبت الخصخصة مبالغ مهمة نسبياً لخزينة الدولة, فإن دلائل تشير الى انه حصلت صفقات خاسرة لأسباب سياسية. زد على ذلك ان المنافسة كما الفعالية لم يُعمل بهما في بريطانيا بشكل منهجي, بل ان الحكومة اعطت امتيازات تجارية شبه إحتكارية quasi-monopoly form لبعض الشركات مثل British Telecom محررة إياها كلياً تقريباً من الضوابط الحكومية. كذلك فإن الحكومة لم تفتح باب المنافسة في غير حالة كما حصل مع British Gaz حفاظاً على قيمة المنشأة الشرائية(4).
اما في الولايات المتحدة فإن الإدارة الأميركية لم تتمكن من خصخصة اكثر قطاعات الدولة عبئاً على الخزينة ­نظام الضمان الإجتماعي­ بسبب ضغوطات جماعات المصالح. والخصخصة في الولايات المتحدة الأميركية التي هي انعكاس لخيارات الحكومات المحلية, أقل تسييساً من مثيلاتها الفرنسية والبريطانية بسبب المضمون الإداري الذي تتميز به Policy Management. لكن على الرغم من هذه المعطيات فإن البعد السياسي للخصخصة في الولايات المتحدة كان برأي Henig et al (1988) كلّي الحضور حيث كان للعدوى البريطانية اثر كبير على الخطاب السياسي هناك.
اما في فرنسا فإن الحكومة لم تحرر المنشآت المخصخصة من الضوابط خوفاً من تحكم رأس المال الأجنبي بالسوق, ولتجنيب المواطن شتى عقابيل الإنتاج غير المضبوط الذي يمكن أن ينتج عن السوق. وفي فرنسا أيضاً كانت الخصخصة استراتيجية انتخابية الهدف منها إيجاد حلول للأزمة المالية القائمة ولتحسين فعالية المنشآت العامة ذات الطابع التجاري. وما هو مثير للغرابة في التجربة الفرنسية, إنتخاب حكومة ذات برنامج سياسي يحثّ على تبني مفاهيم السوق بينما غالبية الشعب الفرنسي برأي الكاتب هي مناهضة لهذه المفاهيم.
بالمحصّلة فإن استراتيجية الخصخصة السياسية تستند الى منطق اقتصادي والى منطق ايديولوجي. ان أزمة المشروعية التي تعاني منها الحكومات دفعتها الى تبنّي خطاب ايديولوجي نيو­ليبيرالي من اجل إقناع الناخبين بحسن إدارتها للشأن العام من جهة, ومن جهة اخرى, لإغراء الأسواق المالية بهدف التمكّن من الإقتراض. وبما ان استقطاب الإستثمارات يؤدي الى خلق فرص عمل والى تحسين مالية الدولة, فإن هذه الإستراتيجية شكّلت بالنسبة للحكومات أداة استقطاب شعبية مكّنت الطاقم الحاكم من البقاء في السلطة Laux (1987).
ما هو مدى أهمية الأبعاد التي تم تناولها في هذا الفصل على الحالة التي سنتوقف عندها في الفصل الآتي؟ وهل من دروس أخرى يمكن الإستفادة منها؟


الفصل الرابع: المؤسسة العامة لتطوير النقل العام في مقاطعة أونتاريو­كندا
نتوقف في هذا الفصل عند حالة كندية تعالج إشكالية العلاقة بين العام والخاص بشأن خصخصة قطاع النقل العام في مقاطعة أونتاريو الكندية. يقسم هذا الفصل الى أربعة أجزاء رئيسية: نستعرض في الفصل الأول نشأة المؤسسة وأهدافها. نبرز في الجزء الثاني مواقف الأحزاب السياسية من الموضوع. نستعرض في الجزء الثالث خصوصية المبادرة الحكومية وكيفية إتمام هذه العملية, ونتوقف في الجزء الأخير عند الإستنتاجات التي توصلت اليها الدراسة.

نشأة المؤسسة وأهدافها(5)
أنشئت هذه المؤسسة عام 1974 وتمت خصخصتها عام 1986. لقد أرادت حكومة أونتاريو أيضاً إشراك الحكومة الفيديرالية في المنشأة, إلا ان هذه الأخيرة ترددت في مشاركة لن تكون منصفة لها بسبب تشظّي قطاع النقل في كندا بين حكومة أونتاريو وحكومة كيبيك الداعمة لشركةBombardiers وحكومة ألبيرتا التي تستفيد من خدمات توفرها شركة المانية في هذا المجال, لكنها كانت ترى بعين إيجابية ما توفّره تجهيزات قطاع النقل من إمكانيات تصدير الى الخارج.
تُعنى هذه المؤسسة بصنع التجهيزات التكنولوجية الخاصة بالنقل العام, كما تُعنى بتوفير الأسواق لهذه التجهيزات. أما الدعم السياسي والمالي الذي كانت تحظى به فقد ساهم بإعطائها قدراً كبيراً من الإستقلالية. لقد تبوّأت هذه المؤسسة موقعاً إحتكارياً بالنسبة لكل ما له علاقة بالنقل العام في المحافظة. اما مسألة خصخصتها فلم تحصل دون إثارة جدل. فقد أُثير جدل حول إهدار أموال تعود لهذه المؤسسة في سبيل منافع ذاتية إستفاد منها بعض الموظفين, كما أُثير جدل حول عدم جدوى بعض المشاريع التجارية التي قامت بها.
كانت علاقة الحكومة بالمنشأة مميزة, اذ سبق لها سنة 1977 ان أرغمت مجلس تورنتو للنقل الذي هو جهاز حكومي يعمل على المستوى البلدي, على رفض عرض Bombardiers الأفضل سعراً لصالح شركة محلية عرضت سعراً اكثر ارتفاعاً مقابل الإلتزام بدفع الفارق للمجلس. وكان لموظفي المجلس تحفّظ على الأسعار المعروضة, اذ سبق للمنشأة ان عرضت, بحسب المجلس, على Santa Clara, California  , سعراً أقل, ما أدى الى عرض الخلاف على التحكيم الذي نجهل عمّاذا تمخّض. لقد دعمت الحكومة المنشأة من خلال عقود ذات طابع استشاريResearch Contracts لزّمتها لوزارة النقل والإتصالات مقابل إتاوة Royalty على بيع ICTS ومن خلال دعم مجموعة من الأجهزة الحكومية منها Board of Industrial Leadership and Development كما دعمت المنشأة بصورة غير مباشرة عبر تغطية 50% من العجز الجاري في مجال النقل على المستوى البلدي, و 75 بالمئة من النفقات, فضلاً عن الـ 500 مليون دولار ضمانات مالية على المبيعات. لقد كانت هناك ضمانات مالية ايضاً لكل من ديترويت وبوسطن وسانتا­كلارا­كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية وتورونتو­كندا. ان مجموعة هذه السلوكيات هي التي دفعت بالدرجة الأولى الحكومة الليبرالية باتجاه خصخصة المنشأة.

مواقف القوى المعنية
بالنسبة للحزب الديموقراطي الجديد المعارض وهو اشتراكي النزعة, كما بالنسبة لنقابات العمال, كانت المواقف معارضة لخصخصة المؤسسة وذلك لدوافع أيديولوجية وسياسية.
اما موقف الحزب الحاكم المحافظ, فكان وعلى الرغم من منطلقاته الأيديولوجية النيوليبرالية, ضد خصخصة هذه المؤسسة بسبب مردوديتها المالية ولأسباب سياسية أيضاً, علماً بأن الحكومة لم تكن موحدة الموقف في هذا المضمار. اما بالنسبة للحزب الليبرالي, فقد كان ولأسباب سياسية وعملية ايضاً مع خصخصة المؤسسة. لقد كانت لديه رغبة بالتمايز عن المنحى الذي اتخذه آنذاك الحزب الحاكم أزاء هذا الموضوع خصوصاً وان الرأي العام كان مهيأ لتقبّل هكذا فكرة. مع العلم بأن الحزب الديموقراطي الجديد كان متآلفاً سياسياً مع الحزب الليبرالي.
أما على المستوى الإداري, فقد كان لرئيس المنشأة موقف مناهض بالمبدأ للخصخصة, الا أنه غيّر رأيه في ذلك لأسباب نستعرضها لاحقاً. بالمقابل, كان هناك تحفظ من قبل بعض الأجهزة البيروقراطية الحكومية للدعم الحكومي غير المشروط للمنشأة.
أما بالنسبة للرأي العام, فقد كان متحفظاً على الطريقة التي تمّت بها إدارة المنشأة والتي كانت تسبّبت بهدر أموال عادت بالنفع لبعض العاملين فيها.

المبادرة الحكومية
عزّز الميل الرسمي باتجاه الخصخصة دراسة جدوى اقتصادية للمنشآت العامة بعنوان The Gracy Report , وقام وزير مالية الحزب بتفويض Donald Gracy مسؤول الحزب عن الإدارة والإتصالات, القيام بها. توصّل صاحب الدراسة في تقريره الى نتيجة مفادها ان المنشآت العامة تؤثر سلباً على الإنتاجية الإقتصادية, وبأن الخصخصة تساهم, إضافة الى تحسين الإنتاجية, بجعل النظام الضريبي أكثر مرونة من خلال تخفيض النفقات العامة, وبتطوير الأداء الإداري وتحقيق أفضل لسياسات الدولة العامة.
الا انه تبيّن بأن استمرار الحكومة بدعم المنشأة يعود الى المسؤولية المالية وبالتالي القانونية عن 500 مليون دولار كندي أودعت في المنشأة لقاء ضمانات عن عقود بيع. هذا المبلغ الذي يفوق بكثير أي مبلغ يمكن أن تتقدم به أية شركة خاصة, دفع الحكومة الى الإستمرار بدعم المنشأة.
أبرز تقرير Gracy فوائد الخصخصة وتطرق في أحد أجزائه السرية لـUTDC. وحدد المفوض الحكومي مجموعة من المعايير لكيفية التعاطي مع موضوع الخصخصة ولمسألة توقيت هذه العملية, كما يلي:
­ إتمام الخصخصة بشكل انتقائي وليس بشكل شامل, إذ يجب ان تتم خصخصة كل منشأة على حدة أي بمعزل عن غيرها.
­ عدم قدرة المؤسسة على تحقيق اهدافها التي انشئت من اجلها أي: 1) تنمية التكنولوجيا المتطورة. 2) إيجاد اسواق ملائمة لمنتجات المؤسسة. 3) توفير فرص عمل وحمايتها.
­ نضوج الصناعة في هذا القطاع الذي يتمثل بمقدرة المنشأة على تصدير منتوجها الى أسواق غير محلية.
­ العبء المالي الذي تتسبب به المؤسسة لخزينة الدولة.
اما John Kruger المستشار في شؤون الخصخصة الذي تم تعيينه من قبل الحكومة الجديدة والمعروف بخبرته الإدارية وبجزمه في التعاطي مع المشاكل التي تعاني منها المنشآت البلدية, فقال أمام هيئة الحسابات العامة Public Accounts Commite جواباً على سؤال وجّه اليه من قبل المعارضة بأن خصخصة المنشأة تمت بناء لمعيارين: 1) إمكانية تحقيق أهداف المنشأة السياسية بفعالية أكثر من قبل القطاع الخاص. 2) نضوج الصناعة في الحقل المتخصصة فيه المنشأة أي صناعة تجهيزات خاصة بالنقل العام.
اما الدافع باتجاه الخصخصة فهو يعود برأيه الى: 1) الحدّ من المسؤولية المالية التي تضطلع يها الحكومة ازاء المنشأة العامة. 2) الإستفادة من سياسة دعم الصادرات التي توفرها الحكومة الفيديرالية. 3) حماية فرص العمل التي توفرها المنشأة.
بالمقابل, كانت الحكومة السابقة ­حكومة الحزب المحافظ­ ترى انه من غير المجدي خصخصة المنشأة لا سيما وانها أصبحت مربحة بعد سنوات من الدعم المتواصل. إلا ان هذه المردودية اعتبرت لاحقاً مفتعلة. لقد تمّ التشكيك من قبل الشركة المزايدة او الشارية بصحة هذه المردودية بسبب الطرق المحاسبية التي اعتمدتها المنشأة.
أما بالنسبة لرئيس المنشأة Kirk Foley فقد كان له موقف مبدئي متحفظ على الخصخصة لأسباب يفسّرها برأينا المنطق البيروقراطي المقاوم لتغيير يمكن ان يكون على حساب المصالح والنفوذ والإمتيازات التي توفّرها المنشأة العامة. الا انه اتخذ في النهاية موقفاً متجاوباً من خصخصة المنشأة خصوصاً وان الدعم الحكومي لها تضاءل برأيه دراماتيكياً مع مجيء الحكومة الجديدة التي ألغت بالفعل مشروعاً(10) يقضي بتكييف ICTS مع حاجات قطاع النقل في جنوب مقاطعة أونتاريو, وليس فقط في مدينة تورونتو. كما يعود تجاوبه لأسباب براغماتية إذ انه لم يكن بالإمكان مواجهة تصميم الحكومة الجديدة على خصخصة المنشأة باعتبار أنها حكومة مناهضة للحكومة السابقة التي عمل في ظلها وبرعايتها.
شددKruger على أهمية الشفافية التي تمتّعت بها خصخصة المنشأة في ظل الحكومة الجديدة مقارنة بما حصل في عهد سالفتها, اذ تمّ في 28 كانون الثاني وفي 24 آذار 1986 إستجواب كل من Foley وبعض موظفي مكتب المفوض المالي في المقاطعة, كما جرى استطلاع آراء الفعاليات النقابية المعنية وآراء سياسيين محليين, وجرى في آذار 1986 وضع كل المعلومات بتصرف الجمهور(6), مع العلم بأن هذه الهيئة كلّفت المفوّض الحكومي في أونتاريو القيام بتقييم مستقل لقيمة المنشأة تحفّظ في خلاصته على القيمة التي حددتها شركة المحاسبة التي وقع اختيار الحكومة عليها لدراسة عملية خصخصة المنشأة, علماً بأن ما قدّمته الشركة لشراء المنشأة العامة كان سعراً أفضل بكثير مما اقترحه رئيس المنشأة الذي تمّ استجوابه من قبل المفوض الحكومي.
شددGracy على ضرورة إنجاح عملية الخصخصة القائمة لكي تسهل مشاريع الخصخصة اللاحقة. في الحالة المعاكسة, ستتعقد الخصخصة بسبب الرأي العام الذي سيتكوّن نتيجة هذا الفشل.
واقترح من أجل ذلك ما يلي:
-­ التعاقد مع شركة خاصة تعمل في مجال الإستثمارات او في مجال المحاسبة على ان تكون الأفضلية للشركة التي لها خبرة في مجال الخصخصة.
-­ ان يتولى عملية الخصخصة جهاز حكومي واحد وذلك بهدف تجنّب تكاثر وتشابك الأدوار والصلاحيات.
-­ ان تتم الخصخصة بسرعة معقولة تجنباً لأية أعباء إضافية.
-­ تفويض هيئة حكومية باستطلاع آراء المعنيين وباستجوابهم عند الحاجة.
ودخلت في عملية المناقصة ثلاث شركات: هي شركة Versatile Corporation of Vancouver , وشركةLavalin الكيبيكية, وشركة Bombardiers الكيبيكية.

على من وقع الخيار ولماذا؟
طلب من كل متقدّم إيداع مليون دولار كندي كضمانة مالية, مع الإلتزام بإرجاع المبلغ بالكامل اذا تقدّمت الشركة للمناقصة بنزاهة , أما في الحالة المعاكسة فيتمّ حسم 100 الف دولار من الضمانة المالية المودعة. وقد طُلب من هذه الشركات التوقيع على اتفاق يتمّ بموجبه التعهد بعدم تسريب أية معلومة ذات علاقة بعملية المناقصة.
إنسحبت Versatile Corporation of Vancouver من المناقصة, ووقع الخيار على شركة Lavalin للأسباب التالية:
-­ الفارق الملحوظ في العرض.
-­ تكامل صناعةLavalin مع صناعة شركةUTDC بينما صناعة شركة Bombardiers غير متكاملة مع صناعة هذه الأخيرة بل تعتبر نسخة عنها.
-­ ليونة موقف شركةLavalin النسبي بخصوص وضع الموظفين, مع العلم بأن الشركتين تحفّظتا على هذا الموضوع.
-­ تجنّبت الحكومة باختيارهاLavalin إعطاء امتياز احتكاري لـ Bombardiers يشمل كل كندا بخصوص تصنيع عربات المترو.
-­ التزام الشركة التي وقع عليها الإختيار بتنويع منتوجها جعل العرض الذي تقدّمت به اكثر اغراء.
ونقول أيضاً انه وقع الخيار علىLavalin ربما لأن علاقة حكومة أونتاريو بالشركة الأخرى لم تكن علاقة ودية, إذ سبق للحكومة سنة 1977 ان أرغمت مجلس تورنتو للنقل Toronto Transit Commission على رفض عرض Bombardiers الأفضل سعراً لصالحUTDC التي عرضت سعراً أعلى. والتزمت بدفع الفارق للمجلس.
بالمقابل كان لـBombardiers مآخذ على المنشأة أبرزها: 1) عدم صلاحية مصنع ومعدات المنشأة في منطقةThunder Bay . 2) التزام المنشأة بعقود رتبت عليها مسؤوليات كبيرة تجاه زبائنها في الوقت الذي لا تترتب فيه على مموّنيها مسؤوليات كبيرة 3) طلبت الشركة من الحكومة الإلتزام بتوظيف 15 مليون دولار من أجل تحديث التجهيزات, على ان يتم حسم هذا المبلغ من أي مساعدة فيديرالية لاحقة.
اما الفائدة التي كانت ترجوها الشركة من كل هذا المشروع فكانت تقضي بـ: 1) توحيد سوق أونتاريو وكيبيك. 2) الإستفادة من دعم الحكومة الفيديرالية والحكومة الإقليمية في مجالي تشجيع صادرات الشركة وتحديث بنيتها التكنولوجية, الأمر الذي كانت تشاطرها إياه الشركة الأخرى. 3) الإستفادة بعد الخصخصة من وضع المنشأة الإحتكاري على مستوى المقاطعة والذي شاطرتها ايضاً فيه الشركة الأخرى.
 

على ماذا تمّ الإتفاق؟

أعلن وزير النقل والإتصالات بتاريخ 7 آذار 1986 قبول عرضLavalin على ان يجري إتمام الإتفاق في الأول من أيار 1986 تجنباً لإطالة المفاوضات. وحصل الإتفاق في 14 تموز ليصبح ساري المفعول في 17 أيلول 1986.
وتم الإتفاق على إلغاء الإمتياز الإحتكاري للسوق الأونتارية في مجال التجهيزات المتعلقة بالنقل العام خصوصاً من قبل Toronto Transit Commission على ان تكون حماية فرص العمل التي توفرها المنشأة مرتبطة بعقود العمل التي يتم الحصول عليها لاحقاً, وهذا ما التزمت بهBombardiers أيضاً.
وتم الإتفاق على تقسيم الأصول والحسومات, وعلى ان تقسّم المنشأة الى جزأين, تمتلك الشركة الجزء التجاري منها وهيUTDC Inc التي اصطلح على تسميتها New UTDC)) وتعود الى شركة Lavalin تكنولوجية المنشأة ومصانعها وكل البيانات غير اللازمة لإتمام العقود الجارية. اما الجزء الآخر فيبقى ملك الدولة وهو عبارة عن منشأة محدودة المسؤولية أو ما اصطلح على تسميته Existing UTDC)) وهي منشأة مسؤولة عن تنفيذ العقود الجارية تلتزم في اطارها الحكومة بالإضطلاع بمسؤوليتها عن 500 مليون دولار كندي liabilities وُظفت في المؤسسة لضمان إتمام مشاريع تم الإتفاق عليها سابقاً.
كما تم الإتفاق أيضاً على ان تدفع الحكومة للشركة مبلغ 10 ملايين دولار بدل أتعاب لقاء إدارة العقود الجارية, وعلى ان يتم دفع 2,75 مليون دولار شهريا على فترة 18 شهراً لقاء مصاريف عامة, ومبالغ اخرى لقاء مصاريف اخرى لم تتضح لنا معالمها. اما الحكومة فتحصل مقابل ذلك على الأرباح المترتبة على هذه العقود.
بالمقابل, تدفعNew UTDC الى الحكومة مبلغ 10 ملايين دولار وتدفع أيضاً سندات بقيمة 20 مليون دولار تقسّط على عشر سنوات. أما بالنسبة للفائدة المترتبة على هذه المبالغ فقد استبدلت بدفع 25 % من الأرباح تلتزم بها الشركة امام الحكومة. هذا يعني انه في حال عدم تحقيق ارباح لن تتلقى الحكومة شيئاً بالمقابل. مع العلم بأن الحكومة لم تتمكن من اقناع الشركة بضمان حق الموظفين في الإحتفاظ بوظائفهم بشكل دائم. الا انها التزمت باستخدام أجراء بالساعة لمدة اربع سنوات,(7) كما التزمت بعدم نقل الموظفين خارج مقاطعة أونتاريو وبدفع 10 % اضافية الى الحكومة من ارباح المنشأة اضافة الى ال 25 % المتفق عليها مسبقاً في حال عدم تنفيذها لهذا البند.
وتم الإتفاق أيضاً على ان توظف الحكومة في البحث والتنمية في المنشأة خلال السنوات الثلاث التي تلي التوقيع, مبلغاً يساوي ذلك الذي وظّفته خلال السنوات الثلاث التي سبقت الخصخصة, وعلى ان توفر الحكومة للشركة الجديدة عقداً مع المنشأة الحكومية الفيديرالية في مجال النقلVia Rail كشرط لإتمام العقد(8).
بالمقابل تلتزم الشركة بإنفاق مبلغ 10 ملايين دولار على المنشأة في السنوات الخمس التي تلي السنوات الثلاث آنفة الذكر, وعلى أن تعيّن الحكومة 25 % من أعضاء مجلس الإدارة, مع إعطائها أفضلية .first refusal on New UTDC shares 


إستنتاجات
ما يجب التأكيد عليه هو ان خصخصة المؤسسة هي عملية تغيير في أدوات إدارتها, وهي تمثل انتقالاً جزئياً للملكية لصالح القطاع الخاص. فبينما كانت الإدارة وأدوات الإنتاج تعود الى الدولة قبل الخصخصة أضحت بعدها مزيجاً من ملكية حكومية وملكية خاصة. وتعكس هذه العملية تسوية بين مصالح مشتركة قائمة بين الفريقين. فقد تبين انه ليس من مصلحة الحكومة الإنسحاب الكلي من المشروع لصالح الفريق الآخر, ولا من مصلحة الشركة تملّك المنشأة بالكامل. فالحكومة توفر من ناحيتها سوقاً مضموناً للشركة, اما الشركة فتلتزم من جانبها بإدارة العملية الإنتاجية وبتوفير وحماية فرص العمل.


ماذا على المستوى التقني؟

تم أعلاه استعراض معايير خاصة بتوقيت الخصخصة وبشروط إنجاحها لن نعود اليها مجدداً. ما يهمنا الآن هو ما يلي:
-­ يمكن القول بأنBombardiers (الشركة التي لم يقع الخيار عليها, بطلبها من حكومة أونتاريو الإلتزام بتوظيف ما قدره 15 مليون دولار لتطوير وتنمية المؤسسة) أظهرت رؤية نوعية, اذ ان مسألة تطوير وسائل الإنتاج تشكل أحد أهم شروط المنافسة. إلا ان السعر الذي تقدمت به كان أقل من ذلك الذي تقدمت به الشركة الأخرى.
-­ ان التكامل والتنويع في الإنتاج وفي أدواته يساهم أيضاً بتوسيع سوق الإنتاج وبالتالي بتحسين مردوديته. لقد شكل هذا العامل حافزاً للحكومة لاختيار Lavalin, بينما إن تجهيزات الشركة الأخرى لا تتكامل مع تجهيزات المنشأة, لا بل تعتبر نسخة عنها.
- إن اختيارWood Gundy بصفتها شركة مختصة بالمحاسبة بدل شركة مختصة بالإستثمار هو خيار جيد. ولو تم اختيار شركة متخصصة بالمجالين معاً لكان أفضل. إلا اننا لا نعلم ما اذا كان لهذه الشركة خبرة في مجال الخصخصة أم لا. والجدير ذكره ان اختيار هذه الشركة كلّف الحكومة مصاريف باهظة لم نستطع الإطلاع عليها وهي تعود برأي البعض الى بطء عملية الخصخصة.
-­ أبدتLavalin الشركة التي وقع الخيار عليها تحفّظاً على الأرقام التي كانت تفيد بهاUTDC بشأن مردوديتها, اذ كانت تعزو السبب في ذلك الى الإجراءات المحاسبية التي كانت المنشأة تعتمدها والتي كانت تساهم برأيها في انتفاخ هذه الأرقام. وهذه الإشكالية هي في غاية الأهمية لأنها تؤثر سلباً على عامل الإستثمار وعلى السعر الذي يجب ان يرتكز على قاعدة العرض والطلب, في مناخ يجب ان يتّسم بانسياب طبيعي وكامل­ أي غير مصطنع­ -  للمعلومات.
-  أشرنا الى ان الفريقين التزما بتوظيف أموال في مجال البحث والتنمية, كما أبديا رغبة في الإستفادة من المساعدات الفيديرالية بهذا الخصوص, يطرح ذلك مسألة مركزية ذات علاقة بالنظام الضريبي. وما يهمنا بهذا الخصوص هو العمل على تطوير هذا النظام بشكل يساهم بتطوير القطاع الخاص لجعله تنافسياً على المستوى الدولي. ان مسألة تطوير الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم, بمساعدتها على عقلنة أدوات عملها وتصريف إنتاجها, هي مسألة في غاية الأهمية. إلا انه لا ينبغي إغفال البعد الرقابي لهذه المساعدات.

ماذا على المستويين السياسي والأيديولوجي؟

سبق لـLavalin ان وقعت عقود عمل مع الحكومة قبل خصخصة المنشأة, ويمكن أن ينتج عن هذه العلاقة مفاعيل جدية أهمها: 1) مراعاة بالسعر للشركة المتقدمة للشراء. 2) مراعاة من قبل الشركة المتعاقدة للشراء, لوضع الحكومة المالي او السياسي من خلال اعطائها هامشاً هاماً من التحرك مقابل عقود مستقبلية. 3) تعاقد الحكومة المسبق مع الشركة التي وقع الخيار عليها في مجالات عدة, يعطي الحكومة هامش مناورة أو وسيلة ضغط.
ان خصخصة المنشأة لا تستند الى خلفية ايديولوجية. لقد كانت الـ UTDC المنشأة الوحيدة التي تمت خصخصتها في عهد الحزب الليبرالي على الرغم من مواقفه الإستعراضية المعارضة للخصخصة بصورة عامة, وعلى الرغم أيضا من موجة الخصخصة التي كانت سائدة في الثمانيات في الدول الغربية. إذ كيف يمكن تفسير سلوك حكومة “محافظة” الداعم مالياً وسياسياً لمنشأة صناعية عامة, في الوقت الذي نرى فيه حكومة ليبرالية أقل تقبلاً أيديولوجيا لفكرة الخصخصة, تسعى جاهدة للخصخصة؟
ولو كان للأيديولوجيا دور في ذلك لكانت تمّت خصخصة منشآت كثيرة أخرى خصوصاً وانDonald Gracy أشار في تقريره الى أن مجموع عائدات المنشآت الأونتارية يمثل فقط 3,9 بالمئة من مجموع رأس المال الموظف, مستنتجاً بأن الملكية العامة تضعف الإنتاجية الإقتصادية على مستوى المنشأة كما على المستوى الماكرو - ­إقتصادي. اما السبب في خصخصة المنشأة فهو سياسي ومالي في آن: السبب السياسي يكمن في رفع يد الحزب المحافظ عن المنشأة. اما السبب المالي فيعود الى إيقاف الهدر المالي الذي تسبّبت به منشأة عبر سنوات طويلة من الدعم الحكومي لها.
لقد تمت عملية الخصخصة لأسباب سياسية وليس فقط مالية. وشكّل تنحّي رئيس الوزراءDavis عن السلطة سنة 1985 أهم مفصل في تاريخ المؤسسة حيث تضاءل دراماتيكياً الدعم المالي والسياسي الحكومي لها.
وطرحت عملية الخصخصة ثلاث إشكاليات رئيسية:
الأولى تكمن في تشابك وتداخل الأهداف لا بل وتناقضها, اذ كيف يمكن العمل على خلق وحماية فرص عمل في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الى خصخصة المنشأة؟ هنا كانت تكمن الصعوبة بإقناع الحكومة بالإنسحاب الكلّي من المؤسسة.
اما الإشكالية الثانية فكانت تكمن بدورها في قدرة المؤسسة قبل عملية الخصخصة على تصدير صناعاتها الى المقاطعات الكندية الأخرى. هذا المعطى كان عكس مستوى هاماً من النضوج كانت تتمتع به المنشأة, وشكّل بالمقابل حجة قوية لمعارضي مشروع الخصخصة, اذ كيف يمكن تبرير خصخصة المنشأة في الوقت الذي اصبحت فيه مربحة؟
اما الإشكالية الثالثة فقد تمثلت بالدعم الحكومي المالي الكبير. هذا الدعم الذي ساهم الى حد كبير في رفع قيمتها التجارية وحال في الوقت ذاته دون قبول الحكومة بالإنسحاب كليا من المنشأة لصالح القطاع الخاص.            
في العقد الأول من الثمانينات تقبّل الرأي العام فكرة الخصخصة ولا سيما ان الدعم المالي­- السياسي المتزايد لهذه المنشأة كان موضع جدل. وقد انتهجت الحكومة الجديدة بعكس سالفتها التي لم تكن موحدة الموقف(9), منحى إتّسم بالشفافية من خلال وضعها كل ما يلزم من معلومات بتصرف الشركات المنخرطة في عملية المناقصة, وأيضاً بتصرف الجمهور. ومنحى كهذا ساهم, على الرغم من تعارضه مع عقلانية السوق الإقتصادية, في دقرطة عملية خصخصة المنشأة من خلال جعل مساءلة العامة للحكومة أمر في المتناول. وإضافة الى استجواب إداريين كرئيس الـ UTDC, جرى استطلاع آراء ممثلين نقابيين وسياسيين محليين فيKingston & Thunder Bay حيث يوجد مجموع المنشآت والمباني والتجهيزات التابعة للـUTDC ما أشرك الجميع بشكل او بآخر في عملية اتخاذ القرار, وذلك بعكس الحكومة السالفة, واستطراداً الحكومة الفيديرالية.
والمثير للملاحظة هو رغبة المنخرطين في عملية المناقصة الإحتفاظ بوضعية هذه المنشأة الإحتكارية. ويمكن الإستنتاج بأن الغاية من خصخصة المنشأة لم تكن تعزيز قانون السوق ولا كان خياراً أيديولوجياً, انما استراتيجية سياسية­مالية تهدف الى تعزيز مالية الدولة. اما عمل الحكومة على الإبقاء على حضورها في المنشأة (25 % من اعضاء مجلس الإدارة) فهو ذو خلفية “وطنية”(إقليمية) واجتماعية سياسية, ويعود الى رغبة الحكومة بإبقاء السوق الأونتارية للصناعات الأونتارية ولليد العاملة الأونتارية, كون الشركة التي وقع الخيار عليها هي شركة كيبيكية, أي انها تنتمي الى مقاطعة أخرى وهي مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية. والإضرار بهذه المسألة الحيوية يقود الى مضاعفات اجتماعية وسياسية­انتخابية جدية. ان رغبة الحكومة بعدم التخلي كلياً عن المنشأة يحمل نوعاً من المدلول التنموي­المناطقي, الى مدلول سياسي­ثقافي تفسرهما طبيعة النظام السياسي الذي هو نظام فيديرالي, وأيضا الى الثنائية الثقافية الإنكليزية­الفرنسية التي تشكل إحدى أهم سمات هذا النظام. والجدير ذكره في هذا المجال أن أحد أهم أهداف خصخصة المنشأة يكمن باعتراف الفريقين في الإستفادة من الدعم الحكومي الفيديرالي في مجال البحوث والتنمية بالإضافة الى المساعدات التي توفرها الحكومة الإقليمية في هذا المجال. أضف الى ذلك سياسة الحكومة الفيديرالية الداعمة للصادرات. ذلك ان الصناعات التي تنتجها المنشأة هي معدة أساساً للتصدير.


استنتاجات عامة ومنظورات مستقبلية
الخصخصة هي انعكاس لحراك الاقتصاد العالمي ولوضعية الاقتصاديات الوطنية الماكرو-إقتصادية, ولطبيعة العلاقات السياسية الدولية. وهي أيضاً نتيجةً لخياراتٍ سياسيةٍ. وتخضع الخصخصة لتأثير ثقافات البلدان السياسية وللمؤسسات الدولية الاستشارية والنقدية وللأوساط الأكاديمية وللرأي العام ولوسائل الإعلام, ولموظفي الدولة الكوادر. والخصخصة هي أيضاً نتيجةً لطبيعة العلاقة القائمة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
انها فعل سياسي وانعكاس لإرادة تغيير فوقية (النخب الحاكمة), كما انها انعكاس لضواغط تغييرية قاعدية المنشأ, وهي شمولية المحتوى ومتشعبة الأبعاد. فهي أسلوب يرمي الى عقلنة موارد الدولة البشرية والمادية, وتشكل محاولة لإعادة التعريف بدور الدولة وبرسم حدودها من جديد.
لا بد من القول إن انتقال الملكية عبر الخصخصة ليس دائماً الحل لمشاكل الدولة المالية او الإقتصادية او الإدارية العالقة. وبما ان الخصخصة ليست دائما فعلاً اقتصادياً, فهي لا تخضع فقط لقانون السوق او لاعتبارات إيديولوجية, انما أيضاً لحسابات سياسية, وتهدف من هذه الزاوية الى:
­- إستقطاب أكبر شريحة من الناخبين من خلال إقناعهم بجدية الطبقة الحاكمة في حلّ المشاكل التي تعاني منها الدولة.
-­ إرضاء الأوساط النقدية بهدف ضمان الحصول على السيولة الضرورية عبر الإقتراض لسدّ الديون وللتمكن من الإقتراض لاحقاً.
-­ إرجاع حدود الدولانية-DEETATISM- إرضاءً للطبقة الإقتصادية التي تخشى الضواغط القانونية وغير القانونية التي تقيّد أنشطتها.
وفي الوقت ذاته وبشكل متناقض ظاهرياً, فإن العقلانية السياسية التي تأبى اتخاذ قرارات غير مربحة سياسياً, لا تسمح مثلاً بالشروع بإلغاء مؤسسات او بتسريح موظفين, لأن قراراً كهذا له مضاعفات سياسية جدية. من هنا فإن الحكومات في الدول الديمقراطية, تواجه إشكالية العلاقة بين تقليص القطاع العام والرأي العام, اذ كيف يمكن لها إختزال عدد موظفي هذا القطاع من دون إثارة نقمة شعبية ومن دون وضع مشروعيتها على المحك؟ من هنا يستوجب الأخذ بالإعتبار عند كل عملية انتقال للملكية, مصالح المعنيين كافة.

في تقويم عناصر مؤثرة في الملكية العامة والملكية الخاصة
الخصخصة هي عبارة عن مجموعة عناصر متجانسة يمكن في الميسور الإنتقال باستمرار من واحد الى آخر فيها. وهي تعني الإنتقال الكلي أو الجزئي للملكية العامة لتصبح ملكية خاصة, وتعني أيضاً تبنّي القطاع العام لمنطق القطاع الخاص في ادارة شؤون منشأة عامة بهدف تحسين الإنتاجية. اما مبررات ذلك فهي تعود برأي دعاة النيوليبرالية الى ضرورة تحرير الإقتصاد من الضواغط التقنينية ومن الملكية العامة اللتين تؤثران سلباً على الإنتاجية والفعالية الإقتصادية. ومن الممكن للدولة برأي هؤلاء تحقيق سياساتها العامة بفعالية أكبر عبر القطاع الخاص, وأيضاً من خلال الدعم المباشر لهذا القطاع, ما يسمح استطراداً بتقويم أكثر عقلانية للأكلاف والمنافع, ما يجعل الأكلاف المترتبة على هذه السياسات أكثر وضوحاً للجمهور. وبإمكان الحكومات الإستمرار بالعمل على تحقيق أهداف المنشأة بعد حصول الخصخصة من خلال شراكة مع القطاع الخاص في إدارة شؤون هذه الأخيرة أو من خلال تلزيم القطاع الخاص إدارة شؤون منشآت عامة. وبإمكان الحكومات أيضاً تحقيق سياساتها بإشراك الجمهور من خلال بيعها أسهم المنشأة مع حجب حق التصويت عن الجمهور (Non-Voting Shares) أو إعطائه هذا الحق, أو من خلال تصفيةwinding up))

المنشأة العامة وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص لملء الفراغ الحاصل, او من خلال حوافز توفّرها الحكومة كعقود يلزم القطاع الخاص تنفيذها أو أيضاً عبر الدعم المباشر أو عبر ضمانات مالية. لكن سعي الحكومات للحصول على افضل العروض لشراء المنشأة قد يتعارض مع مبدأ المنافسة. ذلك ان لطبيعة الأنظمة والقوانين المعمول بها أثرهما الكبير في تحديد مستوى مردودية المنشأة وفي تحديد قيمتها. وبمعنى آخر فإن منشأة عامة تتمتع بموقع احتكاري وفّرته لها الدولة يعطيها قيمة شرائية اكبر بمعزل عن عدد المتنافسين في السوق ويستوجب اذن الأخذ بعين الأعتبار, قبل اية عملية انتقال للملكية, فعالية الملكية الأداتية-­INSTRUMENTAL-EFFICIENCY أي تحديد آلية التدخل الحكومي التي تسمح بتحقيق الأهداف الوطنية والإجتماعية بأقل كلفة ممكنة.
لا تضمن الخصخصة خدمة أفضل في جميع الحالات وذلك لأسباب أيديولوجية وإقتصادية, ويتجنب مؤيدو الملكية الخاصة الأخذ بالإعتبار البعد الإجتماعي والوطني للمؤسسات العامة, ويعزون ذلك الى لا ربحية هذه الأخيرة بسبب انعدام الجوّ التنافسي وبسبب سلوك الموظفين البيروقراطي. ان تبنّي الحكومات لأسلوب الـBOT , أي تلزيم شركات خاصة إدارة واستثمار قطاعات غير منتجة, على ان تعاد الى الدولة بعد تفعيلها بعد فترة زمنية يتفق عليها, او ان يترك للقطاع الخاص مهمة إدارة منشآت أو مهمة تولّي قطاعات انتاجية معينة, يعطي المبادرة الحكومية البعد العقلاني البريء من الخلفية الأيديولوجية. وهذا ما هو شائع في الولايات المتحدة الأميركية والى حد ما في بريطانيا. إلا ان لهذه الآليات سلبيات عدة أهمها العقلانية الإقتصادية للشركات الملزّمة والقائمة على البحث عن أكبر قدر ممكن من المنافع مقابل الإضطلاع بأقل التكاليف. هذه الإشكالية دفعت بالإدارة الأميركية وبمجلس النواب الى إتخاذ إجراءات تدبيرية-­إحترازية أهمها تعزيز الرقابة الحكومية على العقود التي يتم توقيعها بين الإدارة والقطاع الخاص من ناحية, وتعزيز المساءلة البرلمانية للحكومة بهذا الخصوص من ناحية أخرى. أما في بريطانيا حيث الخلفية يغلب عليها الطابع الأيديولوجي, فقد تم الإنتقال الكامل لملكيات عامة عديدة, ما أخرج الموضوع من دائرة الرقابة الحكومية والمساءلة البرلمانية.
واذا اردنا تقويم مستوى فعالية شركة خاصة مقارنة بمستوى فعالية مؤسسة عامة, ينبغي عدم عزل أهمية مردودية المؤسسات العامة الإجتماعية عن مجموع ارباحها. ولو تم دمج البعد الإجتماعي في عملية التقويم لكانت اختلفت النتائج جذرياً. ان الشركة الخاصة غير ملزمة بالإضطلاع بمسؤوليات من هذا القبيل, الأمر الذي يساهم في الإيحاء بأن حجم ارباحها هو اكبر بكثير من حجم ارباح المؤسسة العامة. وللمؤسسات العامة وقع ايضا على الإنماء الإقتصادي يتم من خلال توفير فرص عمل ومن خلال توفير عقود عمل للقطاع الخاص, ومن خلال دعم القطاعات النامية, ما يوفر لها مقومات النمو ويطور قدراتها التنافسية.
ويجب الأخذ بعين الإعتبار كلفة عملية انتقال الملكية. فقد دلت الدراسة على ان كلفة انتقال الملكية العامة الى القطاع الخاص كانت باهظة في غير حالة, ان بالنسبة لقيمة الدعم الحكومي لعمليات “التطهير الإدارية” من اجل “نفخ” القيمة الشرائية للمؤسسة العامة, أم بالنسبة لكلفة الإستشارات عبر وكالات السمسرة, أم بالنسبة للأكلاف الناتجة عن التسويق الإعلامي. إن اعطاء شركات معينة امتيازات تجارية بشكل يحدّ من التنافس, يستوجب أخذه بالحسبان خلال عملية التقويم.
ولتقويم الخصخصة يجب الأخذ بالحسبان, ليس فقط العناصر التي يمكن تقويمها إحصائياً أو رقمياً كالموجودات, ورأس المال, والمردودية, وعدد العاملين في المؤسسات الاستراتيجية, والإمتيازات التجارية التي تتمتع بها بعض المؤسسات, والأنشطة الإقتصادية التي توفرها, انما يجب الأخذ بعين الإعتبار أيضاً العناصر غير القابلة للتقويم الرقمي او الإحصائي, والتي هي بالغة الأهمية, كالإستقرار الإقتصادي القطاعي, بل أهمية ممارسة دور قطاعي ريادي, والإنماء المناطقي, والإستقرار السياسي والأمني والتشريعي والقضائي, وبيروقراطية الدولة, والنظام الضريبي المحفّز للأنشطة الإقتصادية والإستثمارية... والثقافة السياسية والعدالة الإجتماعية.
ان انتقال الملكية عن طريق بيع أسهم للمواطنين تزداد شعبية, وإيجابية عملية انتقال الملكية بهذه الطريقة تكمن في انها اجتماعية الخاصية ولاسيما عندما يُحدد سقف لا يمكن تخطيه (10 أو 15 % مثلاً) بغية محاربة ظاهرة التركيز المالية. ولهذه العملية إيجابية أخرى تكمن في إقبال المساهمين على المشاركة من اجل رفع مستوى ربحية الشركة. بالمقابل, فإن لهذه العملية خلفية أيديولوجية تقضي بجعل الشروع في أية عملية انتقال للملكية بالإتجاه المعاكس -­ أي باتجاه القطاع العام­ مستحيلة. وهذه الإستحالة تكمن في توسيع رقعة المشاركة والمساهمة الشعبية في المؤسسة, وهو ما اصطُلح على تسميته بالرأسمالية الشعبية, إلا ان للمسألة وجهاً آخر أيضاً, اذ تدل المعطيات المتوافرة على ان الإقبال الجماهيري على شراء الأسهم اضمحل في غير حالة كـ British Telecom حيث باع أكثر من 2,2 مليون مساهم الأسهم التي يمتلكون (يوازي هذا الرقم حوالى ربع عدد المساهمين) على الرغم من محاولات السلطات الرسمية إغراء هؤلاء بالإحتفاظ بحصصهم, كذلك حصل مع British Aerospace حيث لم يبقَ بعد عشرة اشهر من عملية عرض الأسهم إلا 27 ألف مساهم من أصل 150 الفاً. ويعود السبب في ذلك الى قيام الحكومة بتخفيض قيمة الأسهم إصطناعياً في اول عملية بيع حصلت, لدفع المواطنين إلى الإقبال على الشراء, الأمر الذي جعل الراغبين في المشاركة في عمليات البيع اللاحقة يشعرون بالغبن بسبب ارتفاع بل رفع أسعار هذه الأسهم اصطناعياً. والخوف من سوء مردودية الشركة الناتج عن اضطراب الأسواق المالية العالمية, يساهم أيضاً بالتأثير سلبا على ثقة المساهم بالشركة كما بغيرها من الشركات الخاصة.
ان انتقال الملكية او عدم انتقالها يتعلّق بالثقافة السياسية للشعوب. ان لبنان مثلاً لم يعرف دولة عناية او دولة حامية بالمعنى الدقيق للكلمة -Welfare State - Etat Providence   منذ استقلال الجمهورية, واعتاد العيش في ظل نظام اقتصادي حرّ غير مدعوم منهجياً من قبل القطاع العام والسلطة السياسية, واستطاع أيضاً من خلال مجتمع مدني فاعل, سدّ حاجات إجتماعية بالغة الأهمية. إن الإقتناع بأهمية الملكية العامة هو ملك نخبة مثقفة وشرائح اجتماعية لا إمكانيات مادية لديها تخوّلها إيجاد بدائل افضل. ويتعزز الإقتناع بجدوى الملكية العامة بقدر ما تترسخ العدالة ممارسة, لتنعكس سلوكاً ونهج حياة لدى المواطن.
ان توقف مؤسسة عامة عن إنتاج المنافع العامة, أي عندما يفتقد وجودها مبرره الإجتماعي يجعل خصخصتها أمراً مطلوباً, إلا ان الإشكالية تكمن, كما أشرنا, في تقويم الأهداف والوظائف غير ذات النفع المادي, كالإنتماء الوطني او العدالة او الأمن الإجتماعي. ولرفع مستوى انتاجية المؤسسات العامة وجعلها بالتالي مربحة تجارياً, يجب اخضاعها للمنافسة وتطوير أدائها الإداري. ولقد دلت الدراسة على ان المنافسة ساهمت بجعل العام “غير” أقل ربحية من الخاص, كما دلّت على ان انتقال الملكية لا يؤثر في الإنتاجية, انما اداء هذه المؤسسات الإداري هو الذي يؤثر في ذلك. ودلّت الدراسة أيضاً على ان تعاوناً او توافقاً بين القطاع العام والجسم النقابي هو أمر ممكن بل ايجابي. وقد اتاح هذا التعاون­التوافق فرصة الإبقاء على العديد من فرص العمل التي كانت ستضيع لو لم يحصل التعاون, وبالتالي فإن عقداً اجتماعياً بين هذين الطرفين ­القطاع العام والقطاع النقابي­ يتّسم بالواقعية, يبدو اليوم أكثر إلحاحاً من ذي قبل. اما اذا اردنا التخلص من المؤسسات العامة غير ذات المردودية اجتماعياً وتجارياً, فيجب عندئذ اختيار تلك التي ليس لها قيمة رمزية واضحة, أي تلك التي ليس لها حضور راسخ في الذاكرة الجماعية.
اما بالنسبة للشراكة بين العام والخاص فينتج عنها توتر في العلاقات ونزاعات حادة. ويعود ذلك الى التفاوت البنيوي بين المفهوم العام والمفهوم الخاص للمنفعة. فبينما يرتكز المفهوم الخاص على اعتبارات ذات نفع مادي, فإن المفهوم العام يهدف الى تحقيق أهداف إجتماعية ووطنية, أي أهداف غير ذات نفع مادي, بمعزل عن الكلفة التي يتطلبها تحقيق هذه الأهداف. ان شدة التوتر بين العام والخاص يؤدي, إما الى انسحاب العام لصالح الخاص, وإما الى انسحاب المساهمين تاركين العام يدير المؤسسة بناء لخلفيته واعتباراته. لكن هل من تأثير لغير العام والخاص على دينامية وبُنى الإقتصاد والإدارة والمجتمع؟


في الإقتصاد الوطني الشرعي وغير الشرعي
تتأثر بنية الإقتصاد الوطني بالأنشطة الإقتصادية غير الشرعية. ومن المضاعفات الإقتصادية الناتجة عن ذلك الإختلال في تنفيذ الدولة لسياساتها العامة. اما بشأن السياسة الضريبية فتصبح الدولة ملزمة برفع سقف الإلزام الضريببي على الأنشطة الإقتصادية المصرّح بها من أجل تغطية العجز الناتج عن الأنشطة غير الشرعية. ومن الشائع في الإحصائيات الرسمية للبطالة, عدم تحديد عدد الذين يتعاطون بالإقتصاد غير الشرعي, وبالتالي, فإن ما ينتج عن ذلك هو تضخم في الإحصائيات يتبعه تضخم على مستوى سياسات الدولة العامة. اما على مستوى سياسة الدولة الإقتصادية فالأمر لا يقل خطورة وتعقيداً. ذلك ان وجود الإقتصاد غير الشرعي بما يمثله من تأثير على النشاط الإقتصادي العام(10), يحول دون السماح للدولة باتخاذ قرارات خالية من الإرباك. فلو افترضنا ان نمو الأقتصاد غير الشرعي هو اسرع من نمو الإقتصاد الشرعي, وان اسعار السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها عن طريق الإقتصاد غير الشرعي, هي اقل من اسعار السوق الرسمية, فإن نسبة التضخم ستكون حتماً أعلى مما هي عليه, مع ما ينتج عن ذلك من تضخم في قدرة المستهلك الشرائية. وللإقتصاد غير الشرعي انعكاسات سلبية على وضع الباحثين عن عمل في السوق الرسمي او الشرعي بسبب ملء العاملين غير الشرعيين الأماكن الشاغرة في السوق الشرعي. ويؤدي ذلك ايضاً الى اختفاء وظائف رسمية بالجملة بسبب إرهاق أصحابها بأعباء ضريبية إضافية لسد العجز الحاصل على مستوى واردات الدولة العامة, وهي الظاهرة التي يمكن ان تفرز, إذا ما تنامت, صراعات اجتماعية خطيرة بين طبقتين: واحدة تتعامل بالإقتصاد الشرعي وأخرى بالإقتصاد غير الشرعي.
ان هذا القطاع لا يشكل قطاعاً خاصاً ولا قطاعاً مخصخصاً, انما يشكل وضعية إقتصادية شاذة يجب التعامل معها بكل جدية, لأن من شأن هذا القطاع اذا ما تم تنظيمه وقوننته من خلال دمجه بالإقتصاد الشرعي, ان يشكل رافداً لهذا الأخير وبالتالي للخزينة.

في الديمقراطية ومنطق العمل الجماعي
تساهم الخصخصة عبر أدواتها المختلفة في التأسيس لعلاقة امتيازية بين القطاع الخاص من ناحية والنخب السياسية والبيروقراطية من ناحية اخرى. لقد شكلت عملية انتقال الملكية تاريخياً أرضاً خصبة للمراعاة والمحاباة بين هؤلاء (Henig et al, 1988, p.465), كما ساهمت في جعل جماعات الضغط الإقتصادية ذات تأثير متعاظم على سياسات الدولة العامة. هذه النتيجة­الظاهرة التي أبرزتها الدراسة اعتبرت بنظر غير اختصاصي خطراً على الديموقراطية (Lindblom, 1977; Lowi, 1969 ). ان تساؤلاً كهذا هو ضروري في ضوء الجدل القائم حول الخصخصة. ماذا لو انحصرت عملية الخصخصة ببعض الشركات التي يمتلكها سياسيون؟ إن وضع يد الطبقة السياسية او بعض عناصرها على المؤسسات المعروضة للبيع, يعطي هؤلاء هامشاً متعاظم الأهمية ازاء المواطن, لكن من خارج مؤسسات الدولة الرسمية. بالإضافة الى ذلك فإن فرضية تملّك الطبقة السياسية او بعض عناصرها لقطاعات اقتصادية استراتيجية, يعطيها من النفوذ والقدرة على التأثير, ما يجعل مؤسسات الدولة أداة بيدها ويضع هذه المرة مؤسسات الدولة, وليس فقط الإدارة, في خدمة منطق إقتصادي رأسمالي تسلّطي. ان فرادة بعض الدول كلبنان على سبيل المثال تعود الى “شرعنة” تعاطي رجل السياسة بالأعمال التجارية. هذه “الشرعنة” تجعل عملية الفصل بين الطبقة السياسية والطبقة الإقتصادية, بين النفوذ السياسي والنفوذ الإقتصادي, عملية صعبة بل مستحيلة, كما تجعل الإقتصاد يتحكم سلطوياً بالسياسة وبالمجتمع من دون ان يتفاعل معهما تفاعلاً متناغماً. تبقى الإشارة الى انه من شأن انتقال الملكية, الذي هو أحد أدوات الخصخصة, المساهمة في رفع يد الطبقة السياسية المستفيدة خدماتياً وسياسياً من قطاعات الدولة, لصالح ملكية خاصة لا ترهق المواطن ولا تستنزف الخزينة.
في التأثير على الديموقراطية يعالج (1965)Mancur Olson في كتابه الشهير The Logic of Collective Action إشكالية العلاقة القائمة بين طبيعة المنافع التي تنتجها المؤسسات وسلوك الفرد الإقتصادي المرتكز على الإستفادة من هذه المنافع دون المساهمة في كلفة هذه المنافع. هذه الإشكالية تؤدي برأي الكاتب الى انهيار المؤسسات, عامة كانت أم خاصة, دستورية أم ملكية... برلمانية أم جمهورية. ولمعالجة هذه المسألة, يقترح الكاتب صيغتين: الإلزام والمنفعة القابلة للتجزئة Biens Divisibles)) أي تلك التي تعود بالفائدة على أعضاء المؤسسة المساهمين في أكلاف الإنتاج.
والصيغة الثانية لا تنطبق على المؤسسات العامة بسبب طبيعة المنافع التي لا يمكن تجزئتها. ان الصيغة الأولى صحيحة, إلا ان الإلزام الذي يقول به الكاتب لا يسهّل التأكد من فعاليته خصوصاً اذا كان هذا الإلزام مكرهاً. وتدلّ دراسات في علم الإدارة

(Friedberg, 1977 & Crozier  Crozier, 1963; ) انه كلما ازداد فرض مبدأ الإلزام حدّة, ازداد إقبال الفرد على البحث عن الطرق التي تجنّبه الإضطلاع بالأعباء الناتجة عن مبدأ الإلزام هذا, ما يضع الإدارة في دائرة مفرغة اصطلح على تسميتها “الدائرة البيروقراطية المفرغة. وبناء على ذلك, يجب تعزيز ثقافة الإنتماء الى المؤسسة مع إيجاد الوسائل والآليات المحفّزة على الإنتاجية والضابطة لسلوك الأفراد والجماعات.

في تملّك رأس المال الأجنبي
تطرح الخصخصة عبر انتقال الملكية مسألة مركزية تتعلق بالمفاعيل السياسية والإقتصادية الناتجة عن تملّك رأس المال الأجنبي. ان الخوف من هيمنة رأس المال الأجنبي على مقدرات البلد يحول دون نجاح الخصخصة ويحثّ على ضرورة فرض شروط على أنشطة رأس المال بغية الحفاظ على المصلحة الوطنية عبر تحديد الحصص, والتقصّي عن خلفيات المستملكين الجدد السياسية, والتشديد على احترام قواعد المنافسة والنظام الضريبي وقانون العمل. ويتم ذلك أيضاً عبر تحديد حجم مساهمة رأس المال الأجنبي في تنمية الإقتصاد الوطني والتنبّه خصوصاً الى حجم الأرباح المعادة او الخارجة من البلد, والى أهمية وضرورة توفير تقارير سنوية عن أنشطة هذه الشركات الإقتصادية والمالية المحلية والخارجية للمسؤولين في البلد المضيف. هذا مع التنبه الى الأنشطة الإقتصادية المختلفة التي لا تغطيها دائما الإحصائيات الرسمية مثل الإمتيازات الحصرية واستثمار براءات اختراع تعود لشركات أجنبية. ويمكن الإستفادة أيضاً مما توفره المنظمات الدولية الحكومية (كالمجلس الإقتصادي والإجتماعي التابع للأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الإقتصادية والجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة) من ضمانات للدول النامية بخصوص أنشطة الشركات متعددة الجنسية في البلد المضيف. ان اموراً كهذه ترتبط بالطبع بثقافة البلد السياسية وبشروط العقد وببنية النظام الضريبي وبالخلفية الفلسفية التي يرتكز عليها.
من ناحية أخرى, فإن عدم استقرار الوضع الإقليمي في ظل تعثّر الإقتصاد الوطني, وفي ظل الشروط الدولية المعلنة وغير المعلنة, من شأنه تعزيز ثقافة الإنتماء الى مؤسسات الدولة لما تمثله من ضمانة للمواطن. وقد يحول ذلك دون الإنخراط في مشروع خصخصة وانفتاح اقتصادي على نطاق واسع. بالمقابل, فإن الهوة الإنمائية القائمة بين المركز والأطراف تعزز موقع القوى النابذة للملكية العامة, أي الذهاب باتجاه الخصخصة.
واستطراداً فإن صحة كلا الفرضيتين تدفع باتجاه اقامة علاقات تعاون إقتصادية عربية­عربية وعربية­أجنبية أكثر عمقاً وتوازناَ, تأخذ بعين الإعتبار بنية الإقتصاد المحلي والأبعاد الإجتماعية والتنموية على حد سواء. إلا ان تحقيق هذه الأهداف يصطدم بالمفاعيل السياسية والإجتماعية الناتجة عن الأزمات المالية التي تعاني منها الإقتصادات الوطنية.

في الإقتصاد السياسي
النظرية الإقتصادية النيو­ليبرالية او النيو­كلاسيكية التي ترتكز عليها الخصخصة تقول بالتبادل التجاري على قاعدة المفاضلة بالتناوب في الأكلاف. وتأخذ النظرية الإقتصادية النيو­ليبرالية بعين الإعتبار المفاضلة على أساس كلفة اليد العاملة والعامل النقدي والحواجز الجمركية والعامل التكنولوجي. وهذه عوامل مؤثرة جداً في العملية التنافسية. إلا أن الأخذ بالحسبان للتأثير الدراماتيكي للحواجز غير الجمركية على مردودية التبادل التجاري هو امر هام, كما ان الأخذ بالحسبان لمهنية واحترافية اليد العاملة هو أمر في غاية الأهمية أيضاً.
وترتبط الخصخصة عضوياً بسياسات الحكومات المالية التي تخضع بدورها لسياسات المؤسسات الدولية التسليفية وخصوصاً صندوق النقد الدولي. وتشمل السياسة النقدية, السياسة التسليفية, الإستثمارات الأجنبية, سياسة الموازنة والسياسة الأجرية. ولكل من هذه السياسات آليّاتها ونتائجها المسبقة او المرجوة, ولها أيضاً مضاعفاتها. فإذا كان المبتغى من السياسة الأجرية عبر حصر معاشات الموظفين, تخفيض أكلاف الإنتاج واستقطاب الإستثمارات الأجنبية, فإن لهذه السياسة عبر هذه الآلية مفاعيل خطيرة على المستوى الإجتماعي والإقتصادي. فعلى المستوى الإجتماعي, تؤدي هذه السياسة الى اضطرابات اجتماعية جدية. والتمرد الشعبي الذي حصل في تونس خلال الثمانينات, وفي الأردن خلال التسعينيات بسبب رفع الدعم الحكومي عن بعض المنتوجات الحياتية الأساسية, وبسبب عصر الحكومة للنفقات العامة تنفيذاً لتوصيات صندوق النقد الدولي, يقدمان أدلة واضحة على مضاعفات هذه السياسات الإجتماعية. اما على المستوى الإقتصادي, فإن تبنّي سياسة كهذه يؤدي الى كبح الأنشطة الإقتصادية بسبب تقليص الكتلة النقدية, وبالتالي مستوى الإدخار والإستهلاك. ان محاربة العجز لا تتم بطريقة ميكانيكية من خلال انتقال الملكية او من خلال الخصخصة على اختلاف آلياتها, ولا عبر حصر أو عصر المعاشات, انما عبر عقلنة الأداء الإداري. ان الإصلاح الإداري هو أحد أركان الإصلاح الإقتصادي الأساسية وهما مترابطان عضوياً, اذ لا يمكن الإنخراط في إصلاح إقتصادي دون ان تكون هناك إدارة مواكبة لهذا الإصلاح, لا ترهق خزينة الدولة ولا ترهق نفسها والمواطن والمستثمر بالحواجز التنظيمية والبيروقراطية والقانونية المعروفة.
ما هو مطلوب في خضم التحديات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجهها الدول النامية على وجه العموم, والعالم العربي على وجه الخصوص, هو عقد حقوقي إجتماعي­إقتصادي­سياسي جديد يتّسم بالواقعية ويرتكز على المشاركة الجماعية في إيجاد حلول لا تساوم على المسلّمات, وتمكّن من مواجهة الأزمات التي تتهدد الأمة والتحديات.

 

مراجع باللغة الأجنبية



Axford, Barrie; Gary K. Browning; Richard Huggins; Ben Rosamond; John Turner (1997) , Politics: An Introduction, Bath, UK, Bath Press PLC.

Ayubi, N. Nazih (1990) ,?Etatism versus Privatization: the Case of the Public Sector in Egypt?, International Review of Administrative Sciences, 56, 89-103.

Bishop, Matthew & John Kay (1988) Does Privatization Work? Lessons from the United Kingdom, London, London Bussiness School.

Brooks, Stephen (1989) ,?Evaluation des arguments en faveur de la privatisation? (article traduit en français par Philippe de Lavergne), Politique et Management Publics, 7, 1, 35-55.

Crozier, Michel, (1963) Le phénomène bureaucratique, Paris, Seuil.

Crozier, Michel & Erhard, Friedberg (1977) , L?acteur et le système, Paris, Seuil.

Crenson, M (1987) , ?The Private Stake in Public Goods: Overcoming the Illogic of Collective Action?, Policy Sciences, 20.

Dahl, Robert (1982) , Dilemmas of Pluralist Democracy, New Haven & Yale University Press, USA.

Downs, A (1959) , ?An Economic Theory of Democracy?, New York, Harper and Row.

(1957) , ?An Economic Theory of Political Action in Democracy?, Journal of Political Economy, Vol 65, April, p. 135-150.

Dunsire, Andrew (1990) , ?The Public-private Debate: some United Kingdom Evidence?, International Review of Administrative Science, 56, 29-61.

Fournier, Pierre (1990) , ?La Privatisation au Canada: une analyse critique de la situation dans la province de Québec?, Revue Internationale de Sciences Administratives, 56, 1, 121-142.

Gow, James. Iain (1994) , Learning from Others: Administrative Among Canadian Governments, The Institute of Public Administrative of Canada, Ontario, Canada.

Grant, Alan (1997) ; Politics Below the Nation-State (343-367)

in Axford, Barrie; Gary K. Browning; Richard Huggins; Ben Rosamond; John Turner (1997) , ?Politics: An Introduction?, Bath, UK, Bath Press PLC.
Henig, J. R; Hamnett, C; Feigenbum, H. B (1988) , ?The Politics of Privatization: A Comparative Perspectives?, Governance, 1, 4, 442-468.

Hurl, Lorna. F (1984) , ?Privatized Social Service Systems: Lessons from Ontarion Children"s Services", Analyse des Politiques, 10, 4, 394-405.

Iskandar, Marwan (1996) , The Lebanese Economy: 1995, 16th yearly Eddition, M. I. Associates.

Iskandar, Marwan (1996) , Lebanese Banking and the Financial Markets, M. I. Associates.

Laux, Jeanne. Kirk (1987), ?La Privatisation des Sociétés d?Etat au Canada?, Interventions Economiques, 18, 3, 157-172.

Lindblom, Charles (1977) , Politics and Markets, Basic Books, New York.

Lowi, Theodor J (1969) , The End of Liberalism, New York, Norton.

McDavid, James; C. Shick; K. Gregor (1987) , ?Privatization versus Union-Management Cooperation: the Effect of Competition on Service Efficieency in Municipalities?, Canadian Public Administration, 30, 3, Fall, 472-488.

Merle, Marcel (1988) , Sociologie du Système International, 4e edition, Paris, Dalloz.

Niskanen, William (1977) , Bureaucracy and Representatives Government, Chicago, Chicago University Press.

Niskanen, William (1975), ? Bureaucrats and Politicians?, Journal of Law and Economics, 18, December, 617-644.

Olson, Mancur (1965) , The Logic of Collective Action, Cambridge, Mass, Harvard University Press.

Paquet, Gilles (1988) , The Underground Economy, University of Ottawa, Working Paper 88-33, 1-13.

Rioux, Claude; Beauregard, Robert (1987) , ?La Privatisation de Dofor: Impact sur l?économie Québecoise?, Interventions Economiques, 18, 3, 231-222.

Salvadore, Dominick (1982) , Economie Internationale, Paris, McGraw-Hill.

Salvadore, Dominick (1982) , Macroeconomique, Paris, McGraw-Hill.

Seidman, Harold (1990) , Public Entreprise versus Privatization in the United States", International Review of Administrative Sciences, 56, 15-28.

Société Financière Internationale (1995) , Les Leçons de l?Expérience-la Privatisation: Principes et pratiques, Banque Mondiale, Whashington.

The Europa Year Book (1996) , A World Survey, Vol II, Kampuchea-Zimbabwe.

Tanzi, Vito (1983) , ?l?économie souterraine: causes et conséquences de ce phénomène mondial?, Finances & Développement, Décembre, 10-13.

Tupper, Allan; Doern, G. Bruce (1988)

Canadian Public Enterprise and Privatization? in ?Privatization and Public Policy and Public Corporations in Canada?, The Institute for Research and Public Policy, Halifax, Canada.

Turner, John (1997) ; The Politics of National Government (315-341)

in Axford, Barrie; Gary K. Browning; Richard Huggins; Ben Rosamond; John Turner (1997) , ?Politics: An Introduction?, Bath, UK, Bath Press PLC.

United Nations Development Programs (1997) , Development Cooperation: Lebanon, prepared by the Office of the United Nations Resident Coordinator in Cooperation with the Council for Development and Reconstruction.

Williams, Mike (1987) , ?Privatization?s Progress: What is the British Government?s Denationalization Program for?? Intervention Economiques, 18, 3, 193-211.