قضايا اقليمية

السلام نقيض المصلحة الإسرائيلية العليا
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في ألشؤون ألإسرائيلية

المؤسسة العسكرية الإسرائلية هي آخر مؤسسة في الدولة يمكنها ان ترضى بإلغاء عسكرة المجتمع الذي بذلت جهداً لعسكرته

 

يفيد التقدير الاستراتيجي العام للعلاقة التبادلية ما بين اسرائيل والدول العربية، بأن اسرائيل تهرب أو تتهرب دائماً من السلام وهذا يرجع، بطبيعة الحال، لأسباب وحوافز موضوعية كثيرة، منها الديني الإيديولوجي ومنها الأتني ­ الحضاري ومنها العسكري ­ الاستراتيجي. فالسلام بالنسبة لإسرائيل، إنما يعني في المحصلة النهائية، تراجعها أو تخلّيها عن أراض احتلتها عام 1967، سواء بصورة جزئية أو كلية، وهو بالتالي يعني التخلي عن السيادة عن جزء مما يسميه الإسرائيليون المتدينون، " أرض إسرائيل التوراتية " التي لا يمكن التنازل عنها، ولهذا السبب قتلوا رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق اسحق رابين. وحيث أن القوى الدينية الأصولية يزداد ثقلها الحزبي والسياسي بصورة لولبية، وحيث أنها جنباً لجنب مع القوى اليمينية الشوفينية باتت تشكل كتلة حرجة تتجاوز في أهميتها القوى اليسارية الداعية للتسوية، فإنه بات بمقدورها الآن الوقوف بوجه أية محاولات جدية للوصول الى تسوية سلمية بالمقاييس العربية أو الدولية. وقد سبق للرئيس الإسرائيلي السابق عيزر وايزمان أن لخص هذه الحقائق بالقول: "من الواضح أنه ينبغي لنا أن نمر بنوع من التحوّل النفسي قبل أن نتمكن من الإيمان بعملية السلام ونمضي فيها. فنحن العسكريون، ربينا جيلاً كاملاً ليكون من المقاتلين. وينبغي على الأجيال القادمة أن تعلّم شعب إسرائيل، بطريقة رشيدة وذكية، أن يؤمن بضرورة اتفاقيات سلام بيننا وبين العرب. وذلك أصعب بكثير من خوض المعارك. فأنت في ميدان المعارك... تحقق نتائج مباشرة. وعندما يتعلق الأمر بالسلام، تصبح الأمور أكثر غموضاً وإبهاماً ". من هنا يمكن الاستخلاص بأنه حتى لو افترضنا وجود " جبهة سلام " أو ما يشبه جبهة سلام في إسرائيل، ترغب بإنهاء حالة الحرب والصراع المميت بين الشعبين العربي والإسرائيلي، فإن المؤسسة السياسية، التي هي في الواقع ليست سوى المؤسسة العسكرية ذاتها المتخفية في ثياب مدنية، لن تسمح لهذه الجبهة أبداً، بأن يكون لها الرأي الفصل في قضية مصيرية من هذا المستوى. والجميع يدرك ويوقن بأن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية هي آخر مؤسسة في الدولة يمكنها أن ترضى بإلغاء عسكرة المجتمع الذي طالما بذلت الجهد والعناء لعسكرته بهذا القدر من الإتقان والكمال. فالسلام من شأنه أن ينحي كبار العسكريين من هيكلية القرار في الدولة، ويأتي بجيل جديد من السياسيين الذين لا يفكرون فقط من زاوية الأمن والفتوحات التوراتية. ولهذه الأسباب لم تؤد الإتفاقيات " السلمية " التي وقعت بين العرب والإسرائيليين منذ كامب ديفيد عام 1978 وحتى اليوم، الى إحلال السلام الإقليمي المأمول، ولم تؤد الى تطبيع وضع إسرائيل تجاه العرب، لان الأطماع الإسرائيلية بالأرض العربية كانت وما تزال هي الهدف الحقيقي من أية تسوية تعزل هذه الدولة أو تقيد تلك الدولة، من أجل استفراد هذه الجبهة العربية أو تلك. وبالتالي لم تطبق إسرائيل من كل الاتفاقيات التي وقعتها سوى الجانب الذي يريحها وينفعها، فالسلام البارد والزائف مع مصر مثلاً كان هدفه فتح نيران جهنم على كل من اللبنانيين والفلسطينيين عام 1982، والطغمة العسكرية الإسرائيلية المتمثلة بشارون وإيتان في تلك الحقبة لم تأخذ قرار التراجع وإعادة الإنتشار الا في أعقاب الخسائر الفادحة التي منيت بها في الأرواح والعتاد، وهي تواجه التجربة ذاتها اليوم مع انتفاضة الأقصى. من هذا المنطلق رأت الباحثة الإسرائيلية آرياستيف أن ما جرى خلال العقد الأخير من عملية سياسية تسمى جوازاً " مسيرة السلام " إنما هي "نقيض المصلحة الإسرائيلية على طول الخط. وهذه العملية هي بمثابة إكراه استراتيجي يحدث عندما تنهار أمة تحت وطأة ضغط كتلة كبيرة من تهديدات العدو، تكون هذه الأمة غير مهيأة وغير قادرة على مواجهتها أو تحملها ". وتضيف هذه الباحثة انه في مثل هذه الأحوال والأوضاع: " يأخذ مضمون الوجود القومي نفسه بالتفتت، ويتفتت معه بالتوالي والتعاقب المضمون الروحي والمادي للشعب. وفي لحظة ما تبدأ عملية انهيار ذاتي، تتجلى في التعاون التكتيكي مع العدو، وإذا كان العدو بالقدر الكافي من الذكاء والفطنة، فإنه لا يُقدم على عمل منفرد، بل يفضل استغلال نتائج وتأثيرات الإكراه الاستراتيجي حتى النهاية ". وما من شك في أن إسرائيل اليوم، وبعد تجاربها المريرة والقاسية في كل من لبنان وفلسطين، وعلى الرغم من كل مظاهر إبداء القوة واستعراض الجبروت بكل أنواع الأسلحة المتطورة في البر والبحر والجو، إنما هي واقعة في حالة " الإكراه الإستراتيجي " المشار إليها آنفاً، خصوصاً بعد أن فشل شارون المعروف بالغطرسة والدموية المتوحشة، في الإيفاء بوعوده التي انطلق على أساسها في تولي رئاسة الحكومة. وهذه الوعود كانت تعني القضاء على ارادة الشعب الفلسطيني وإخماد انتفاضته خلال مئة يوم لا أكثر. وفي هذا السياق لا ننسى غرور الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون نفسه عام 1982، الذي وعد الإسرائيليين باحتلال لبنان بواسطة الفرقة الموسيقية خلال بضع ساعات أو أسابيع على الأكثر. وحيث أن الطغمة العسكرية الموجودة في الجيش وفي الحكومة في إسرائيل قد استنفدت كل ما لديها من خيارات العنف والغطرسة، فإن الحديث يدور اليوم حول ضرورة التنازل على صعيد الأراضي المحتلة، والخلاف يدور حالياً بين القيادات الصهيونية على النسب المئوية لا على أصل التنازل بحد ذاته. كما وأن الحديث يدور أيضاً، وفي الوقت نفسه، حول خيار الفصل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني " نحن هنا وأنتم هناك "، مع كل ما لهذا الفصل من تداعيات سلبية على الإقتصاد الإسرائيلي والأطماع الإسرائيلية. ولقد بدأ المحللون الإسرائيليون، في هذه المرحلة من الصراع، وعلى أساس ما تقدم من اعتبارات، في الحديث عن النتائج السلبية للتسويات المرتقبة ومنها: فقدان ما يسمونه " الممتلكات الاستراتيجية " في الضفة الغربية والجولان، وفقدان غاية الوجود القومي اليهودي بالتنازل عن قطاعات من الضفة وتفكيك المستوطنات وتقسيم القدس، وفقدان أولوية وأفضلية كون إسرائيل ثروة استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للولايات المتحدة ومواجهة احتمال تراجع قيمة المساعدات الأميركية المالية والعسكرية والأمنية؛ ومن ضمن هذه الحسابات، يخلص المحللون الإسرائيليون الى أن السلام في النهاية هو بمثابة إصابة المشروع الصهيوني بعوارض الشيخوخة وترقق العظام، أو هو بمثابة قبول أمة بالانتحار. وبـناء عليه فإسرائيل اليوم بقيادة شـارون، تبـدو أكـثر إحساساً بالإحـباط والخيبة من أي وقت مضى، على الرغم من مخزون القوة المادية الهائل الذي تملكه، وهي باتت تدرك تماماً أنها انما تدير سياسة عبثية عاجزة عن تحقيق ما يطلبه المجتمع الإسرائيلي سلماً أو حرباً.