كلمتي

الشعور الإنساني
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

يواجَه الحزن بالزمن، كما يقولون، أي بمرور الأيام وتوالي المشاهد على صفحة الذاكرة بحيث يحلّ مشهد محل آخر، فيخفّف من سطوته وإن يكن لا يلغيه. هناك أمور عديدة تكبر مع الزمن، أما الحزن فيتراجع بعد أن يحفر ما يمكنه حفره من معالم الذكرى في النفس والفؤاد. إنه يتناقص ويهدأ، وقد يليه فرح ما، مَن يدري، ففي الحياة صفحات مختلفة، بعضها مضيء وبعضها مظلم ظالم عميق الألم، وهذه هي حكمة الخالق في خلقه.
أما عن الآثار التي تركتها مأساة الطائرة الأثيوبية في النفوس، بآلامها وأوجاعها ومتاعبها وقساوتها وغرابتها، وتفسيراتها العلمية والتقنية، فإن الزمن لم يمرّ بعد. ويعرف الجميع أنه من الصعب جداً أن ينجو راكب في مثل هذه الكوارث، كما يعرفون أن الموت يترافق مع حالات قاسية يصعب تحمّلها في أحيان كثيرة، ويصعب وصفها ايضاً، من هنا ما توجّهنا به الى وسائل الإعلام من ضرورة العناية باختيار العبارات في تحديد الأوصاف والتبشير بالمصاعب والترهيب من الأهوال والآلام.
كان بين هموم المؤسسة العسكرية وهي تعالج نتائج الكارثة، إضافة الى سحب الضحايا، والتفتيش عن الصندوق الأسود، وتجميع ما يمكن تجميعه من الحطام تسهيلاً للتحقيق، كان بين تلك الهموم الحرص على مشاعر الأهالي، واتباع الأصول الإنسانية والاجتماعية في الكلام عن رفات الأعزاء الراحلين. لم تكن الوفاة على فراش في عيادة أو مستشفى، كما أنها لم تكن في البيت أو بين الأهل والأحبة. كانت في المجهول من الدنيا، بين الأرض والسماء، لا بل بين ثنايا الغيوم التي تطلقها البحار نحو الأعالي، أو بالأحرى عند سطح الماء بعد التلاطم الرهيب الذي جرى، وقد تكون حاصلة في جزء ختامي منها تحت الماء ايضاً بعد لحظات عسيرة من مواجهة عتمة الليل وظلام القعر المحتوم. في النتيجة، تخطّت بشاعة الفاجعة حدود المعقول، نالت من الأجساد كل منال، ولولا الإيمان بالله والتسليم بأمره، والاطمئنان الى العلم، والثقة بأبطال الجيش، والشمولية في مأساة توزّع حملها على الكثيرين، لكان من الصعب دفن أي ضحية تحت التراب. وهل لأم أن تودّع ابنها من دون أن تراه، أو لرفاق أن يهدهدوا كفن فقيد من دون أن يشعروا بوجود جثمانه في الداخل؟ إنّ الأحوال مختلفة كثيراً مع هذه المأساة، والواقع مرير، ويقتضي الأمر ضبط الألسنة وتنظيم الأقلام، وبسط الستائر، بالقماش حيناً... والحياء حيناً آخر.