أديان ومعتقدات

الصابئة المندائية: ديانة أم معتقد؟
إعداد: العميد الركن المتقاعد دريد زهر الدين

تشير معظم المجتمعات إلى اليهودية والمسيحية والإسلام بتسمية ديانة، بينما تطلق على الطوائف الأخرى ذات الطقوس الخاصة، وإن كانت توحيدية، تسمية المعتقد أو البدعة. ومن هذه الطوائف ما هو مسند لدينٍ إبراهيمي توراتي كالصابئة المندائية، والأيزيدية، والسامرية، والبهائية، وسواها. ومنها ما هو توحيدي مختلف ومستقل كالأتونية، والزرادشتية، والسيخية... في ما يلي إضاءة على معتقد توحيدي إبراهيمي محاط بالغموض وأُثيرت حوله تساؤلات كثيرة بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وخصوصًا تلك التي جرت في بلاد ما بين النهرين.

 

الصابئة معتقد إبراهيمي توحيدي غير تبشيري، شعارها اللون الأبيض، تؤمن بوحدانية الله وتحترم الرسل جميعًا. اختلف اللغويون في أصول التسمية، فمنهم من اعتبر أنّ كلمة صابئة مشتقة من الفعل الآرامي «مصبتا» أي صبغ واغتسل، أو من الفعل المندائي «صبا» أي تعمّد، غطّس، اصطبغ. أمّا العرب فعادوا بالتسمية إلى الفعل المهموز صبأ ويعني خرج وغيّر حالته. والصابئي هو من خرج من دين الضلالة الوثني والتحق بدين الحق، الدين المندائي الموحِّد. ومن هنا، فكلمة «صابئي» تعني المصطبغ أو المتعمّد بالتوحيد والإيمان. أمّا لفظة المندائي فآرامية مشتقّة من كلمة «مندا» أي المعرفة والعلم، والمندائي هو العارف بوجود الخالق الواحد.

 

تاريخ غامض
يلفّ تاريخ الصابئة المندائية الغموض، بسبب انزوائهم وانغلاقهم الديني الشديد بفعل الاضطهاد الذي عانوه لفتراتٍ متعاقبة، ما جعلهم ينغلقون وينزوون للمحافظة على دينهم وتراثهم. من أقدم تسمياتهم المقدسة: الكوشطيون نسبة إلى كوشطا- الحق وهم دعاة الحق الصابئي، والناصوريون، أي الموحّدون، المندائيون واليحياويون نسبة إلى النبي يحيى بن زكريا، الآدميون نسبة إلى آدم، والمغتسلة والمصطبغون والمتنورون وأصحاب الزي الأبيض وغيرها من الأسماء ذات الصفات. تأثّر الصابئة بشكلٍ أو بآخر بمعظم المعتقدات التي احتكّوا بها خصوصًا المسيحية واليهودية والمجوسية، من هنا توزعوا إلى أربع فرق فكانوا من أصحاب الروحانيات والهياكل والأشخاص والحلولية.

 

لغتهم وموطنهم
يتحدّر العديد من الصابئة من شعب آرامي قديم، إذ إنّ لغتهم الرسمية كانت اللغة الآرامية الشرقية المهيمنة على القسم الجنوبي لبلاد ما بين النهرين التي تعرف ببلاد خورستان الإيرانية، وهي اللغة التي يستخدمها الصابئة حاليًا في كتبهم الدينية. استوطن الصابئة قديمًا وسط العراق وخصوصًا المنطقة ما بين بغداد وسامراء ناحية نهر دجلة، وانتشر كثيرون منهم في طيسفون عاصمة الفرس الساسانيين الشرقية، ولهم فيها معابد كثيرة، ونتيجة لفترةٍ من الاستقرار وعدم الاضطهاد، ازداد عددهم فتمددوا نحو الأهواز والخفاجية والمحمرة، وكثُر عددهم في شوشتر والطيب.
تفوّق الصابئة بصناعة الذهب والفضة والأحجار الكريمة والحلى المرصّعة والأواني والساعات التي كانت تُسوّق في المرتفعات الإيرانية، وكانت هذه الصناعات تنحصر بهم لتشددهم في حفظ أسرارها. كذلك امتهنوا الزراعة والفلاحة وقاموا بتنظيم قنوات الري، بحيث أطلق عليهم العرب تسمية أنباط (نبت) كونهم ينبتون الأرض القاحلة، كما برعوا في صناعة القوارب الخشبية والحدادة وصناعة الخناجر.
هاجر قسم منهم مع النبي إبراهيم، الذي آمنوا بتعاليمه واحتفظوا بصحفه إلى حران، ومارسوا فيها طقوس التعميد التي سنّها. أمّا القسم الآخر، فبقي في العراق حيث عرفوا بعدها بحرّاس العهد، وأسسوا بيوت الحكمة والنور على ضفاف الأنهار في وادي الرافدين لعبّاد الله رب العظمة مار أد ربونا، واتخذوا من الشمال قبلة لهم. نتيجة لهذا التموضع تأثرت الحضارات الأكادية والبابلية والسومرية والأشورية بمعتقدات الصابئة المندائية التي تأثرت بدورها بمن عاصرها وجاورها.
إضافة إلى انتشارهم في بلاد الرافدين، كانت فلسطين زمن الرومان موطنًا لهم أيضًا، ولغاية الآن تعتبر بغداد مركز الطائفة المندائية، وعبرها ينتشرون في المحافظات العراقية بالإضافة إلى وجودهم في بعض المناطق الإيرانية.
أدت الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية التي شهدتها السنوات الأخيرة إلى تعرّض الصابئة للقتل والسرقة والاضطهاد، ما اضطرهم إلى الهجرة إلى أوروبا وأميركا وكندا، حيث شكّلوا جمعيات تحافظ على تراثهم وتقاليدهم وهويتهم الأصلية. هنا يشار إلى أنّ هذه الطائفة عُرفت في أوروبا منتصف القرن السابع الميلادي، وقد برع الألمان في الكشف عن معتقداتها وعلومها، وتراثها الفكري والديني، وسُجلت محاولة بريطانية لترجمة معظم الدواوين والمخطوطات المندائية إلى الإنكليزية.

 

المعتقدات
يؤمن الصابئة بسبعة أنبياء هم آدم، شيت، أنوش، نوح، سام، دنانوخ إدريس ويوحنا المعمدان الذي يسمى أيضًا النبي يحيى بن زكريا ويدعى «يها يهان»، و«دنانوخت»، وهم يؤمنون بوحدانية الله المطلقة، ولديهم كتاب مقدس مُنزَل خاص بهم يسمى «جنزا ربا» أي الكنز العظيم. تتميّز شريعتهم بمفاهيم خاصة تشمل حياة الإنسان بأبعادها كلها. ويؤمن الصابئي التقي أنّ القوة الغيبية هي التي تحدد سلوكه وتصرفاته. ويقولون إنّ أي مؤمن موحّد للخالق، إلى أي دين أو معتقد انتمى، يشاطرهم الإدراك والعلم.
يقدّس الصابئة الكواكب والنجوم ويعظمونها كونها مسكن الملائكة المعصومين، ويعتبر الاتجاه نحو النجم القطبي والتعميد في الماء من أهم شعائرهم الدينية. لمعتقد الصابئة فرائض خمسة وهي أولًا «سهدوثا أد هيي» أي الشهادة والتوحيد بالحيّ الأزلي السرمدي الواحد الأحد، وثانيًا «طماشا» و«مصبتا» أي التطهير والتعمّد، وثالثًا «أرشاما» و«ابراخا» أي الوضوء والصلاة، ورابعًا «صوما» أي الصوم، وخامسًا «زدقا» أي الصدقة. للصابئة شعار ومعبد، يسمى شعارهم الديني «الدرفش» وتعني باللغة الفارسية العلم وهو صليب مصنوع عادة من الخشب، ملقى على خشبته الأفقية قطعة قماش بيضاء. يتوسط الصليب عند التقاطع أغصان من شجر الآيس وهو «الحمبلاس» أو الريحان. وأمّا معبد الصابئة فيسمى المندى الذي يحوي كتبهم المقدسة. يقام «المندى» عادة على ضفاف نهر مع وجوب اتصاله بالماء الجاري عبر قناة خاصة به، وله باب واحد من الجهة الجنوبية حصرًا لكي يستقبل الداخل إليه نجم القطب الشمالي.
للصابئة المندائية كتب مقدّسة خاصة بهم، أُنزلت على الأنبياء السبعة وفق معتقدهم، من آدم إلى يحيى، وتندرج في ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى للتعاليم الدينية الأساسية، المجموعة الثانية للمراسيم والطقوس الدينية، والمجموعة الثالثة للمعرفة والعلم والتاريخ.
كأي دين آخر، للصابئة محرّمات أهمها الكفر والتجديف باسم الخالق، وعدم أداء الفروض الدينية، والسحر، والارتداد عن المعتقد. كذلك يُحرّم الختان والتغيير في خلقة الله، وشرب الخمر وكل منقوع من الفاكهة مضى عليه 24 ساعة لاحتمال فساده بالتخمير. كما يُحرّم تلويث الطبيعة والأنهار، والإجهاض والانتحار وتعذيب النفس والعمل يوم الأحد على أهل الميت والندب والبكاء والحزن على الميت، فالموت مدعاة للسرور، ويوم المأتم هو أكثر الأيام فرحًا.

 

الأعياد
للصابئة أعياد مختلفة تمامًا عن أعياد المحيط الذي يعيشون فيه، وهي: العيد الكبير أو «دهوا ربا»، وهو عيد رأس السنة المندائية ومدته يومان. العيد الصغير أو «دها هانينا»، أي عيد الأزهار، ومعناه ظهور الحياة على الأرض بأمرٍ من الخالق ومدته يوم واحد. عيد التعميد الذهبي وهو عيد تعميد النبي يحيى ومدته يوم واحد، عيد المصبتا الذهبي ويصادف اليوم الثاني والعشرين من الشهر الحادي عشر للسنة المندائية وفيه تمّ تعميد الملاك هيبل زيوا للأنبياء آدم، شيت، سام ويحيى يها يهان. عيد الخليقة أو«البارونايا» ويتألف من خمسة أيام. وتعتبر الميتولوجيا المندائية أنّه في تلك الأيام ولد آدم وحواء أول البشر، وسكنا الجنة قبل أن يقذف بهما الحي العظيم إلى الأرض بعد الخطيئة، من طقوسه، لبس ثوب «الرثة المندائي»، والتعميد بالماء الجاري وتحضير طعام الفقراء وتناوله.
الصابئة بطبيعتهم مسالمون، ودينهم غير تبشيري ينحصر بهم. واللافت في تقيّتهم، أنّهم لم ينشروا أخبار أي مذابح أو انتهاك أو اغتصاب تعرّضوا له، ولم ترتفع أصواتهم احتجاجًا على المظالم التي وقعوا فيها، فهم يستغفرون الرب بصمتٍ، ويتّقون صارمين أنقياء في ذواتهم، ثابتين في اعتقادهم بأنّهم أول الأديان في التاريخ وأقدمها.