الصحافة اللبنانية ودورها في أزمنة السلم والحرب

الصحافة اللبنانية ودورها في أزمنة السلم والحرب
إعداد: أ.د. نسيم الخوري
مدير سابق وأستاذ في كلية الإعلام والتوثيق

 مع نشر هذه الدراسة تكون الصحافة اللبنانية قد بلغت المئة وخمسين سنة من عمرها. وقد يمكننا اعتبارهذه الصفحات نوعًا من الإحتفاء، غير المقصود، بذكرى مرور قرنٍ ونصف على إصدار أول صحيفة لبنانية هي "حديقة الأخبار"، التي أصدرها خليل جبرائيل الخوري العام 1858.

قلنا غير المقصود، لأنّ الدافع الأساسي لهذه الدراسة ليس تأريخًا للصحافة اللبنانية، لكنه طموح وطني مشروع وواجب علمي، في الأساس، يهدف الى تناول الدور الكبير، ولربّما الخطير، الذي اضطلع ويضطلع به بعض وسائل الإعلام اللبنانية في الأعوام المنصرمة، والذي يساهم بفعالية كبرى في إذكاء مناخ الفتن والصراعات في ما بين الفئات اللبنانية، بما يحوّل الوطن الى ساحة صراعٍ جاذبة للقوى الخارجية.

وإذا كان للصحافة دور بارز، ولها وقعها الظاهر في الحياة اللبنانية السياسية طوال هذا التاريخ، فإن ما يحصل اليوم من تجييش وتحريضٍ عبر وسائل الإعلام، وخصوصًا المسموعة - المرئية منها، يجعل من هذه الوسائل منابر للشتيمة والتحقير والتخويف والتعمية. قد تثير المادة الإعلامية وجهات نظر مختلفة متباينة، وقد ينخرط الإعلاميون أطرافًا في النزاعات الحاصلة، لكنّ الخطير جدّاً هو أن تتحوَّل الشاشات عن وظائفها في التسلية والتثقيف والتوعية الى جلد الناس والمشاهدين، فتتراجع المسؤولية، بالمعنى الوطني والأخلاقي للمهنة، خصوصاً وأنها وسائل يفترض أن تعرف أكثر من غيرها مكامن الألم ومخاطر إذكاء الفتن. ويفترض الإقرار بأن الشاشات اللبنانية باتت تشكّل منبعًا للمخاطر والفتن عندما تجاوز بعض المحللين السياسيين والإعلاميين رجال السياسة، بعد صدور القرار 1559 العام 2004، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث تصاعدت نبرة الإعلاميين وعلا وطيسها إثر انسحاب القوات السورية من لبنان، وبان الوطن مهدداً فعليًا بالإنقسام بعد حرب تموز/يوليو 2006، وما سبقها أو رافقها أو أتى بعدها من صراعات في ما بين 8 و14 آذار، لم تأخذ طريقها بعد الى الحلول الجذرية. ولربّما نتلمّس هذه الحلول في أعقاب الإنتخابات النيابية المرتقبة المنتظر منها تجديد الحياة السياسية في لبنان، ولربما حسم مسائل جذرية باتت على ارتباطٍ وثيق بهوية لبنان وخياراته السياسية. يمكن القول، براحة ضمير، إنَّ عالمًا من فقدان الثقة قائمًا بين الأفرقاء في لبنان، ويلمسه اللبنانيون عند أي فكرة أو طرح بسيطًا كان أم كبيرًا، وهذا ما يعانونه حيال تشكيل الحكومات التي تتوخّى الوحدة الوطنية، أو صوغ البيانات الوزارية أو الموقف من المقاومة أو من سوريا.. إلخ من الأمور المصيرية التي باتت تفتح يقظة العديد من السياسيين اللبنانيين على الأزمات التي يمكن أن تطرح لديهم ضرورات التعديلات الدستورية عن طريق القانون أو العرف.

وقد تكون الصدفة قويّة إذا ما ربطنا بين ما يحصل اليوم في السياسة والإعلام في لبنان مع ما حصل في حوادث العام 1860 الطائفية بين اللبنانيين أي بعد عامين على ظهور"حديقة الأخبار" مضروبًا بعشرة أو بعشرات. تبدو تلك الأحداث القديمة، وكأنها ما زالت تجرجر أذيالها، وتتجدَّد في كلام الإعلاميين، كما تستيقظ بشراسةٍ أقوى في ذاكرات اللبنانيين وثقافاتهم وحروبهم المتكرِّرة كل عقدين أو ثلاثة. لنقل إنها مسائل معقّدة جدًّا هي في أساس البنية اللبنانية والهوية اللبنانية. وهي تظهر، اليوم، بشكلٍ صارخ في الكثير من البرامج الإعلامية والممارسات السياسية التي تعتمد الشحن الطائفي، والنفخ في الجروح.

قد لا أبالغ إن اعترفت بأنّ الدافع المباشر لتوضيب هذه الدراسة، كان النشرة التوجيهية التي عمّمتها قيادة الجيش- مديرية التوجيه، في 30 حزيران/يونيو 2008 بعنوان: "وعيكم ضمان وحدتكم"، وقد جاء فيها:"... يستمرّ بعض وسائل الإعلام في نقل الأخبار مضخّمة وعلى غير حقيقتها، مّا يؤدّي إلى تضليل المواطنين، وإثارة الغرائز لديهم، وإشعال نار الفتنة والتحريض، كما يلجأ عدد من السياسيين والمحللين الى التصريح بمعلوماتٍ مغلوطة، والإدلاء باقتراحات تعبّر عن تشكيكٍ بدور الجيش، وتدخل في شؤونه الداخلية وتفاصيل مهمّاته العملانية، في محاولةٍ لاستمالته الى جانب فئةٍ من دون أخرى، وزجّه في الصراع السياسي والمذهبي الذي تشهده البلاد". وتدعو النشرة إلى "عدم إعارة آذان صاغية لما يتداوله بعض سائل الإعلام والسياسيين والمحللين، من أخبار وآراء وانتقادات ومواقف فئوية لا تخدم الإستقرار العام، ولا صيغة العيش المشترك بين اللبنانييين... ولطالما ناشدت القيادة المعنيين بضرورة التحلّي بالمسؤولية الوطنية في ممارسة العمل الإعلامي والسياسي، وحذّرتهم من أنّ ما يقومون به يتعلّق بوطنهم، وليس بوطن الآخرين، وبأنّ النار لو اشتعلت لشملت الجميع من دون تمييز..".

ليس أكثر من هذا النص تعبيراً عمّا نحن فيه، وهو ليس النص الأوّل من هذا النوع، إذ طالما دأبت مديرية التوجيه في أكثر من مناسبة في توخّي الدقة والموضوعية في تناول الأحداث والأخبار. وإذا كان كاتب هذه النشرة التوجيهية، قد وضع الإعلاميين ووسائل الإعلام قبل السياسيين، في صوغ النص، كما نلحظ لو أعدنا قراءته، لازددنا يقيناً بأنّ الإشكاليات التي تطرحها تلك الوسائل الإعلامية على الكيان اللبناني كبيرة وعسيرة الحلول. صحيح أنّ السياسة والإعلام صنوان متلازمان، لكن من حقّ الباحث طرح السؤال حول الصحافة اللبنانية ودورها أو تأثيرها في أزمنة السلم والحرب على قاعدة احترام الحريّة وتحمّل المسؤولية.

  مهلاً! قد يستدرج البحث في هذا الموضوع، حول لبنان بين صحافتي الحرب والسلم، خشيةً منهجيّةً من أن يشوب هذا الطرح شوائب أو نواقص ناتجة عن الصعوبة في تناول الأطر والمظاهر الصحافية، والتي وضعتنا في فضاء واسع يصعب شموله والإحاطة به كونه يتجاوز قرنًا ونصف القرن من مشقّة اللبنانيين وتكبُّدهم الخسائر الجسيمة تحت مظلّة الحريات المظلمة بشكلٍ عام، ناهيك عن تقديس اللبنانيين، وبشكل غير مسؤول وعشوائي مسائل دقيقة مثل الحرية في التعبير والكتابة والنشر بشكلٍ خاص.

قد يختلط التأريخ بالتحليل، وتقوى الفوارق بين معاني الصحافة اللبنانية والصحافة في لبنان مثلاً، وهناك فرق كبير بين الأمرين، كما هناك فروقاتٍ بين بلدٍ وآخر عربيًا كان أم أوروبيًا أو آسيويًا بسبب من الإختلافات في مسائل جوهرية مثل الحرية في حركة الحبر والمجتمع والحرية والديمقراطية والمقاومة والإرهاب، وغيرها من المصطلحات الكثيرة الخلافية. يفترض بالصحافة أن تكون لبنانية، ولكن عن أيّ لبنانٍ تستشرس هذه الشاشة أو تلك في الدفاع والتحيّز والتضليل وإخفاء الحقائق؟ ويفترض بالصحافة، أيضاً، أن تتناول شؤون الخارج كلّ الخارج، لكن أن يتحوّل الخارج الى مسيّرٍ ومموّلٍ ومتدخّلٍ، فيقوى على الداخل أيّ داخل، فهنا يكمن لبّ المعضلة الإعلامية إذ تنتفي الموضوعية، وتصبح الأوطان مهدّدة أومعرّضة للإنهيار والتفكك والتخلّف. ولا خجل من القول بالحبر الملآن، بإنّ وسائل الإعلام والإعلاميين يتحملّون النتائج الوطنية الوخيمة التي ترخي بظلالها على البلاد.

هل يمكن اعتبار تلك الظاهرة في الإستباحة الإعلامية جديدة على اللبنانيين؟ قطعاً لا. إنّها ملازمة لتاريخ لبنان ومن قبل نيله استقلاله بزمنٍ طويل، وهذا ما سنحاول التركيز عليه بحثًا عن مشقّة اللبنانيين الإعلامية.

 

ينظر اللبنانيون، منذ القدم، إلى بلدهم وكأنّه ساحة حبرٍ ورسولية مفتوحة على العالم، لا بل يسمّونه بالساحة التي لا ضوابط لها، وكأنّ الله حباها قوّةً في التعبير تربك به الأوطان الأخرى. ولنا أن نتخيّل للحظات المعاني التي تختزنها الساحة كمصطلح يؤشّر إلى مكان لا حدود له ولا ضوابط ولا قرار ولا مسؤولية. وتبدو التسمية مألوفةً وملازمةً للبنان في الخطابين الرسمي والشعبي، بينما تتشبث شعوب وأنظمة أخرى، من دون جدوى، بالأطر والقوانين والسلطات الرقابيّة متوخّيةً ضبط وسائل الإعلام وتوجيهها وتنظيمها وتقنين أخبارها وفقاً لما هو حاصل في مجمل الدول العربيّة الأخرى، وكذلك في أعتى الدول ومنها الولايات المتّحدة الأميركية في إبّان "عاصفة الصحراء" (16 كانون الثاني/يناير 1991)، وسقوط البرجين في 11أيلول/سبتمبر 2001 وغزو العراق العام 2003(يراجع بهذا الشأن دراستنا المنشورة في مجلّة الدفاع الوطني بعنوان "إنقلاب الصورة في معارك الصور العربية الأميركية" العدد54، تموز/يوليو 2003).

ولو شئنا اختصار المحرّمات في الكتابة الصحافية اللبنانية والعربية بالطبع، لقلنا إنها تكاد تنحصر بالنسبة إلى المخضرمين من الصحافيين في مثلث من المحرّمات ونعني بها الجنس والسياسة والدين وهي تفرض احترامها وعدم المساس بها. والمفارقة الغريبة هنا هي لو أنّك جمعت الأحرف الثلاثة الأولى لهذه الكلمات الثلاث، لوجدت نفسك أمام مصطلح الجسد الذي يمثّل قمة المحرّم العربي وفضائه المحكوم بالقيود والمعايير والتقاليد والعادات الثابتة التي لا يزحزحها زمن أو تغيير، مهما كان شكله وقوته.

هكذا يجد الباحث عن الصحافة في لبنان، نفسه، إذاً، في عالم من دون سياج قابل لكل دخول فكري، وثقافي، وإعلامي، ومالي، وسياسي، وحزبي. وقد لا نجد في بعض هذه الصحافة بحثاً عن لبنانيتها سوى لبنان كمكانٍ يتيمٍ لمركز صدورها حيث التسهيلات القانونية والمالية والتقنية أمام الرساميل الأجنبية التي تتنعّم بسريّة المصارف. إنّنا في العالم المصغّر أو الساحة الاتصالية الاعلامية أو لبنان دولة الإعلام، مع العلم أنّ مسالة البث والصدور باتت اليوم سهلة، وتتخطّى مجمل عوائق المكان والزمان، بفضل تقنيات العولمة الإعلامية. وينعكس معنى الساحة في لبنان قوةً وضعفًا، اتساعًا وانتشارًا وضيقًا، وفقاً للظروف الداخليّة الصعبة التي لم تفارق تاريخ هذا الوطن في مناحيه السياسيّة والفكريّة، والتي كانت لها نتائجها الملموسة وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية والسلوكية والسياسية والكيانية على الأمن والاستقرار الوطنيين.

لقد منحت هذه الرؤيا على اتّساعها، لبنان، صورةً ومفاهيم خاصة، وصفات أبرزها التميّز والتمايز عن العرب، كمسألة ملازمة لطبيعته الجغرافية والبشرية. وقد علقت في أذهان اللبنانيين مقولة وهمية أساسية تجعل من وطنهم همزة وصل بين الشرق والغرب، أو مفصلاً جغرافيًا تسترشد به قارّات آسيا وأوروبا، وهي مقولةٌ يعتدّون ويتمسّكون بها، وتأخذ حيّزها الكبير في أفكارهم ومناهجهم التعليميّة وأساليب لباسهم وعيشهم ولغاتهم وطرائق تخاطبهم، ومواقعهم الإعلاميّة والسياسية.

ونتصوّر أن هذه المسائل ما زالت تؤهّل لبنان وسياسييه لأن يضطلعوا بأدوار أكبر بكثير من أحجامهم وحجم وطنهم الجغرافي، بل أبعد من تاريخه. وهم إذ كانوا يكبّرون أحجارهم في وجه الأنظمة العربية الكثيرة، كانوا يحوّلون وطنهم الصغير إلى ساحة قتالية يتنفّس فيها العرب ويتصارعون ويتحاربون إن لزم الأمر، وعدّتهم في ذلك تلك الأوهام اللبنانية في التمغرب أو التفرنخ أو التباهي والتشاوف. ونستدرك القول بإنه إن كانت هناك دول أخرى راحت تقاسمه هذه السمات، بعدما زالت الحدود والفواصل بين الشعوب والدول في ميادين مختلفة، فإنّ تاريخه كان وما زال، معجناً نموذجياً في احتكاك الفئات المتعدّدة وتفاعلها وتناغمها، وكذلك في تلاقح الأفكار واللغات المتعدّدة وصوغها وفقًا لطبيعة تختلف في تباينها وتباعدها أو تقاربها، باختلاف الظروف والتحالفات. وكانت النتيجة، على الدوام، وطنًا محكومًا بهواجس التحوّل والإهتزاز بدلاً من الثبات والطمأنينة. وهنا، تبرز ملاحظةٌ قوامها أنّ هذا النموذج اللبنانيّ المتميّز صحافياً واتصالياً بالأجنبية، يبدو سهل التأثر بنتائج ومستلزمات التقنيات، فتقوى الصحافة فيه. وقد يدفعه فتونه بالغرب المنتج والغريب إلى انهيارات في ما بين مواطنيه في موضوع الهويّة اللبنانية كمثار تجاذب وتنازع وانقسام على مختلف المستويات، بما فيها النظرة إلى الثقافة والإجتماع.

في ضوء هذه المقدّمة، نتناول في دراستنا نقطتين:

النقطة الأولى عابرة، تتناول الذكرى التي سقطت على هذه الدراسة وعنوانها "الريادة الخورية"، ونعني بها الإحتفال في "الدفاع الوطني" بـ "حديقة الأخبار" بعدما فشل لبنان الرسمي من الإحتفال المئوي بولادة هذه الجريدة الأولى، وهنا سأخرج من تفاصيلها كصحيفة بدأت ملتزمة معضلة تشظّي اللبنانيين بين شرق وغرب منذ ما قبل صدورها، الى ما هو أثمن وأكثر تعبيرًا في نظري، كونه يرتبط بإشكاليات مشابهة كبرى مستمرّة ما زلنا نعاني تشظياتها صحافيًا وإعلاميًا على مستوى الشاشات وعلى مستوى لبنان. أعني بذلك أوّل رواية عربية بعنوان "وي... لست بإفرنجي" أي نعم لست بإفرنجي الصادرة العام 1859 بعدما كان قد كتبها ونشرها الصحافي الأوّل خليل أفندي الخوري في "حديقة الأخبار".

أمّا النقطة الثانية، فمحاولة مطوّلة نتناول فيها دورالصحافة في الأزمات والصراعات اللبنانية التي عرفها اللبنانيون، وجيرانهم من العرب، خلال قرنٍ ونصف، وذلك في منهجٍ تصنيف هذه الصحافة في تيّاراتها الكبرى، ومناحيها العريضة العامّة، ومحاولة الإعراض عن التفاصيل التأريخية المملّة.

 

النقطة الأولى: الريادة "الخورية"

يعتبر خليل جبرائيل الخوري من مدينة الشويفات (1836-1907 ) رائد أوّل رواية عربية حديثة هي " وي... لست بإفرنجي"(1859)، مع الإشارة الى تباينات بين النقّاد في تثبيت هذه الريادة، حيث نجد من يعتبر الأسبق في هذا المجال، رواية "غادة الزهراء" لزينب فوّاز (1899)، أو "علم الدين" لعلي مبارك( 1882)، أو" الهيام في جنان الشام"( 1870) لسليم البستاني، أو "غابة الحق" لفرنسيس المرّاش( 1865). لكنّ الريادة الخورية تكمن ليس فحسب في أنّ خليل الخوري هو صاحب الرواية الأولى تاريخيًا، وإنّما لأنها الرواية الأكثر نضجًا في تلك المرحلة، كما كتب مكتشفها محمد سيّد عبد النوّاب، ولأنّ إتقان الخوري للغتين التركية والفرنسية أظهرت حبره متأثّراً بمفهوم الرواية الأوروبية في نمط بناء الشخصيّات وتتبعه لأحداث الرواية في سلاسةٍ لغوية راقت للقرّاء العرب، كون الكاتب رفع من مرتبة العادات والتقاليد الشامية في ذلك الزمان منتقدًا التفرنج أو "التمدّن الوهمي" كما عبّر عنه خليل الخوري في روايته هذه، أو ما يعرف بالفرانلبنانية في التخاطب والسلوك والزي. وأهمّ من هذا كلّه،أنّ روايته جاءت متسلسلة على مدى 18 شهراً، نشرها في صحيفته الشعبية المذكورة "حديقة الأخبار"، الجريدة العربية الأولى في المملكة العثمانية خارج الآستانة، والتي كان قد أسماها "الفجر المنير" ثمّ عدل عنه الى "حديقة الأخبار". وكان كلّ ما سبقها جرائد حكومية تنشر آراء الحكومات من دون غيرها. وكان أوّلها"التنبيه" أوّل صحيفة عربية في العالم استعان نابليون بونابرت في حملته على الشرق بمترجمين لبنانيين اعتمد عليهما في إصدارها.

إضطلعت "حديقة الأخبار" بدور كبير بسبب تغطيتها نشوب حوادث العام 1860 الطائفية، كما ألمحنا، والتي منحت الدول الكبرى فرصة إحداث نظامٍ سياسي جديد لجبل لبنان، الذي أصبح في ما بعد متصرفية مستقلة تمامًا تابعة مباشرة للباب العالي. هذه حوادث ما زالت تدمغ الذهن اللبناني وتتكرّر بمآسيها فتتوسّع وتتغيّر حتّى اليوم. ولولا تلك الصحيفة الرائدة لما كان دلف المتصرّف التركي فؤاد باشا ليجعلها جريدةً نصف رسمية ثمّ تبعه فرانكو باشا ليكرّسها جريدةً رسميّةً بالكامل استمرّت في صدورها حتّى بعد وفاة صاحبها خليل الخوري بعامين.

بكلمتين، يمكن القول أن الراوي في "وي...لست بإفرنجي" ضاع بين الفرنجة والعربية فسقطت أحلامه في ترددها، وأضاع معه إبنته الصبية التي أغراها بالمناخ الإفرنجي. فأضاعت حبّها وأخذت الدير طريقًا لعزلتها بسبب هذا الضياع. فالمقدمة في الرواية تشبه في مضمونها النصوص التي نشرها الخوري في جريدته وقارن فيها بين الشرقيين والغربيين في العادات والتقاليد والمعارف والعلوم، ملحًّا على فكرةٍ رائدة تقضي بأن يكون العربي عربيًا والفرنسي فرنسيًا والإنكليزي إنكليزياً، "فلا يجب أن نستهجن كل شيءٍ لأنه افرنجي، ولا نستحسن كلّ شيءٍ لأنه عربي. فإنّ لكلّ قومٍ إحسانات وإساءات لا تخفى عمّن تمعّن بالحقائق. وعلينا معشر العرب أن نحدّق النظر، ونتأمل بفكرٍ خالٍ من شوائب الغرض، بأبناء عمّنا بين البشر القاطنين القارة الأوروبية، ونأخذ عنهم فقط ما كان واسطةً لتقدّمهم علينا بدرجات التمدّن والتهذيب "فلا نسرق ولا نقتبس بل نختار ما يتناسب" مع الروح الأهلية لكلّ أمة".

وكأني به يقف على خطوط الزمان اللبناني الميبس الذي يدور مثل حجر الرحى في أزماته، بعدما رآه الأديب مارون عبود في تعليقه على هذه الرواية الرائدة بأنه الواقف "... على شاطىء البحر الكبير الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد".

إنّها الحريّة الملازمة لتاريخ لبنان، النقطة المضيئة فوق بيضاوية البحرالمتوسط، لطالما تجذّر اللبنانيون الأحرار باستلال حبرهم من أسماكه أصيلاً. وهل هناك من هو أشدّ حريّةً من السمك في المحيطات؟ اللبنانيون من تلك الفصيلة المعاندة في حريّة اللسان والحبر حتّى ولو أدمنوا الحروب والنزاعات في ما بينهم عبر التواريخ.

 

النقطة الثانية: دور الصحافة اللبنانية وتأثيرها

الواقع، أنّه مهما اختلفت وجهات النظر، في لبنان، حول الصحافة والإعلام، ومهما اتّسعت الساحة اللبنانية كمنصّةٍ تؤذي أهلها وجيرانها، يمكن القول إن لبنان عرف أشكالاً أربعةً من الإعلام. تتداخل كلُّها لتشكّل تاريخه الإعلامي والسياسي الطويل والمميَّز، وتتمثَّل، اصطلاحاً، في أربعة مباحث:

أولاً – صحافة الإستقلال

ثانيًا – صحافة التأسيس للحروب.

ثالثًا- حروب الصحافة والصحافيين.

رابعًا – لبنان بين إعلام السلام وإعلام المقاومة.

تغطي هذه المحطات المتداخلة الأربع تاريخًا أساسيًا وواسعًا من نهضة لبنان الإعلامية المعاصرة، المترافقة والوثيقة الارتباط، مع محطات نهضته وانهياره على مختلف المستويات. لكن قبل التطرق إلى معاني قفز لبنان بين نيران الحروب وإعلامها المدفوعة عدًّا ونقدًا، ومناخ السلام والإستقرار وإعلامه المدفوع أيضًا عدًّا ونقدًا، أي من المال إلى المال، يفترض الاشارة إلى أن محاولة تحديد وسائل الاعلام في لبنان باتت محكومة بالإخفاق في الوقت الراهن، وهي كانت ممكنةً في لبنان في الربع الأخير من القرن العشرين. وسبب الإخفاق واحد هو سقوط الحواجز والحدود في ما بين الشعوب والبلدان، ولأنّ تلك الشعوب ما عادت تقف على رؤوس أصابعها للحاق بركب المكتشفات والحضارات، إذ يكفيها أن تنخرط في زمن مكتشفات العولمة الإتصالية. فالإنسان جُبل أساساً من عناصر أربعة هي التراب والماء والهواء والنار. وقد حقّق منذ ظهوره عنصره الأوّل أي ثلث الكون عبر حضاراته الترابية الزراعية وكلّ ما نشهده على وجه البسيطة، كما حقق عنصره الثاني أي ثلثي الكون عبر حضاراته المائية في اكتشاف مياه المحيطات والبحار فتواصل مع من هم من ورائها من شعوب وحضاراتٍ أخرى، وهو اليوم يحقّق عنصره الثالث الذي لا حدود له ولا أحجام عبر أقصى تجلياته الفضائية التي لم تتجاوز الربع قرنٍ وتفتح العقل الى ما لانهاية في عالم التواصل بين شعوب العالم. نحن بالمعنى الإعلامي نعيش في الفضاء، ونتواصل عبر الفضاء، ونعمّر الحضارة المقبلة عبر الأثير.

 

أولاً:  صحافة الإستقلال

تبيّن دراسة التاريخ اللبناني الحديث أن الصحافة اللبنانية منذ بدء انتشارها العام 1858 وحتى أواخر القرن التاسع عشركانت مفتونةً بالمسائل الدينية واللاهوتية المغلَّفة بالوطنية واليقظة القومية والطموح الى الإستقلال، لكنها كانت محكومة بالقيود إذ لم يكن هناك قبل قانون السلطان عبد العزيز العام 1864 أي قانون للصحافة لا في لبنان ولا في البلدان الخاضعة للسيطرة العثمانية ولمزاج الباب العالي في اسطنبول الذي كان محصورًا بوزارتي المعارف والداخلية. ويبدو أن زيارة عبد العزيز الى باريس قد طبعته بعراقتها الديمقراطية، بغضّ النظر عن تقديسها للحريّات، وحرية الصحافة المسؤولة، ما جعلنا نشهد ظهور 6 صحف و10 مجلاّت في بيروت بين العامين 1865 و1876. وقد منح خلفه السلطان عبد الحميد العام 1876 الصحافة وهم الحرية عندما كرّسها في المادة 12 من الدستور العثماني والذي جاء إعلانه العام 1908، وصدر بعده العام 1909 القانون العثماني للصحافة الذي منح حريات أوسع للصحافيين. قلنا وهمًا لأن مدحت باشا رئيس وزرائه ما لبث أن كمّ الحبر والأفواه، وحلّ البرلمان وأبعد أهل الصحافة والأدب إلى الخارج، وصولاً الى طغيان الأحكام العرفية مع اندلاع الحرب التركية - الروسية العام 1877.

برزت الصحافة الوطنية الجامعة، إذن، مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر في لبنان ومصر وسوريا وغيرها من البلدان التي كانت تابعةً للسلطات التركية العثمانية أو للنفوذ والسيطرة الغربيّين. وقد اضطلعت هذه الصحافة بأدوار وطنية بارزة، ساهمت جذريًا في الاستقلال الذي كان العرب يسعون إليه. وحملت معالم التغيير بالرغم من القوانين الخاصة بالمطبوعات التي كانت تضيّق على الكتابة، وتحول دون انتشار الأفكار التحرّرية. ويمكن القول إن الصحافة كانت أداةً فاعلة في النضال للتخلّص من السيطرة الأجنبية. وفي المقابل، علت الروح المناوئة للإحتلال العثماني والمطالبة بالإستقلال بعد إعلان الدستور العثماني بين العامين 1908 و1914 حيث نعمت الصحف اللبنانية بعهدٍ واسعٍ من الحرية وكان التشهير علنًا بالعثمانيين. ثمّ دفعت أحداث العام 1860 بالعديد من اللبنانيين الى مصر.

لماذا مصر؟

لأن عودة بعثات الخديوي اسماعيل إلى الخارج، فتحت أبواب أرض الكنانة للحضارة الغربية، ولأن الصحافة شهدت في عهده عصر انبعاثٍ ونهضة. فقد تعزّز العمل الصحفي بعدما حصلت البلدان العربية على استقلالها تباعاً، وذلك باستخدام التقنيات "الالكترونية" للإذاعة والتلفزيون إلى جانب الصحافة المكتوبة. وكنا نجد "أن بعض الإذاعات العربية قد احتلَّ... مكانة مرموقة لم تضاهِها مكانة أخرى إلا مكانة بعض القادة في قلوب الشعوب. وأبرزت الصحافة مكانة الإذاعة التي لم تنسَ فضلها، فبقيت حتى يومنا هذا تقرأ أقوال الصحف من استوديوهاتها [وعبر شاشاتها أيضًا]. ولتعزيز مواقعها عمدت السلطة إلى وضع قوانين جديدة للمطبوعات والنشر عملت كلُّها في محصلتها النهائيّة على تقييد الكلمة، وتمجيد السلطة، وعدم السماح بتوجيه النقد لها"([1]). وقد يخرج لبنان عن هذا الإطار، فنجد تلازمًا في الصحافة بين القطاعين العام والخاص المتقدم بشكل ملفت في التاريخ.

وفي خلاصةٍ سريعة، يمكن القول بأنّ الصحافة العربية واللبنانية، نشأت أدبيةً ثقافيّة علميّة أكثر منها سياسيّة محضة بالمفهوم الراهن. وكانت الحريّة همًا كبيرًا أساسيًا في قداسة الوجود والشكل والنص.

فالنص سلطة أساسًا، وهو بهذا المعنى فرض تقديس التعبير ووجوب احترام العربية. وبهذا نفهم لماذا أورثت الطباعة في العالم الإسلامي خوفاً على الحرف العربي، يجوز فيه النسخ ولا تجوز فيه الطباعة، إذ منع الباب العالي طباعة الحرفين العربي والتركي لسلامتهما "ونقاوتهما من الدنس"([2]).

وإذا كان هذا طور ولادة الصحافة العربية، فقد راح النظام السياسي المعجون بالحرية، يجذب الإرساليات الغربية بأعدادٍ كبيرة. وراحت تفتح المدارس والمطابع، وتصدر النشرات ثمّ الجرائد والمجلات. وأخذت الصحافة "ترتقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على أيدي كتّاب كبار مثل سليم البستاني([3]) (الذي أصدر "الجنّة" في بيروت العام 1870، وكانت أسبوعية تجارية أدبية. وقد اتفق المعلم بطرس البستاني صاحب "الجنان" وسليم البستاني صاحب "الجنة" وخليل سركيس صاحب "لسان الحال" على ضمّ هذه الصحف مجتمعة في صحيفة واحدة)، وأحمد فارس الشدياق([4]) الذي أصدر"الجوائب" في اسطنبول العام 1860، وأديب اسحق([5])، وابراهيم اليازجي([6])، ويعقوب صرُّوف([7])، وفارس نمر([8])، وعبد الرحمن الكواكبي([9])، وخليل سركيس([10])، وسليم سركيس([11])، وجرجي زيدان([12])، وكل ذلك في سبيل الإستقلال الوطني والتماس الحريّة.

وامتدّت مرحلة النمو من أواخر القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى حيث استقام أسلوب الصحف بفضل الأدباء الذين التمسوا الصحافة وسيلةً للأدب([13]) النضالي والتحرّري. واستمرّ الأدب يقود الصحافة إلى ما بعد منتصف القرن العشرين. "وفي الثلاثين سنة الأخيرة منه سارت الصحافة نحو الانحدار. وتسلّم زمامها الصحافيون الهواة والمحترفون، حيث قادوا الأدب من يده، وأنزلوه إلى مستواهم مرسخّين مرحلة الصحافيين المتأدبين"([14]). والمعروف أنّ جرأة حبر بعض هؤلاء الصحافيين اللبنانيين دفعت بهم الى حبال المشانق حيث أعدم الأتراك ستة عشر منهم العام 1916، منهم أحمد حسن طبارة، عبد الغني العريسي، بترو باولي والشيخان فيليب وفريد الخازن وسعيد فاضل عقل.

 

ثانيًا: صحافة التأسيس للحروب

يُعتبر لبنان الظاهرة الإعلامية، أو المقصد الإعلامي للعرب. اختلفت وتباينت ظروف نشأة وسائل الإعلام فيه وتطورها حتى نشوب الحروب الأخيرة العام 1975. وقد ساعد في ذلك تكريس الدستور اللبناني الحرية في إبداء الرأي قولاً وكتابةً، وحرية الاجتماع والطباعة([15])، كما كرّست حرية الإعلام، ووضعت نصوص تنظيم الصحافة، ورعاية شؤونها وفقاً للقانون([16]).

ولم يكن لبنان الرسمي قد بلور مفاهيمه الخاصة بالإعلام والحرية والحقوق وغيرها، كوطن محصَّن بقدر ما بلورها مفاهيم مترجمة مستوردة عن التجربة الفرنسية وغيرها، وهي قد كانت لا تتطابق مع واقعه، ما جعل إعلامه الرسمي غير ثابت أو مستقر على هوية أو خيار، وجعل مساحته، بفضل ما للحرية من قيمة في الممارسة أكثر منه في الدستور، رقعة صالحة للتعبير والمناهضة والنضال العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. كان يصعب رصد الإعلام الخاص بالمعنى الكمّي حتى لا نقول النوعي. وكان يستحيل تحديد معناه الرسمي، وكأنها استحالة غير قابلة للضبط، على الرغم من كل الدساتير والقوانين والتعديلات والمراسيم. هكذا اضطلع الإعلام الرسمي، في بُعده عن الواقع، وانحيازاته المتعددة، بدور ساهم كثيراً، ربما، في نموّ المؤسّسات الصحافية الخاصة التي تقود قراءة مضامينها إلى الكلام عن حروب الإعلام كعنوان لمرحلة أولى، لا ينظر إليه مرآة تعكس الواقع، بقدر ما هو واقع كان يهيّئ ويحضّر ويكتب للانفجارات والانهيارات التي كان لبنان ميدانها الواسع والحاضن.

وفق هذه النظرة، اتخذت هذه المرحلة من تاريخ الصحافة اللبنانية عنوان التحضير أو المشاركة في التحضير للانهيارات، في استفادة من الحرية في الكتابة والمعارضة، من دون ضوابط. وكانت تنتشر الصحافة، في بعض الأحيان في لبنان، لا لتخاطب أحداً فيه من اللبنانيين، بل لتخاطب أسيادها أو مموِّليها المباشرين، أو مناهضيهم في الأنظمة العربية والأحزاب والعقائد والايديولوجيات المتصارعة الكثيرة.

 

1 - لبنانية الصحافة

لبنانية الصحافة هي من لبنانية لبنان. لكن الصحافة اللبنانية لم تكن، إذاً، لبنانية كاملة على الإطلاق، بل صحافة في لبنان من مجمل الهويات الأخرى، يكفل الدستور حريتها. لكنّها، بالرغم من هذه الكفالة، لم تكن حرّةً كثيرًا بقدر ما كانت مرهونةً لأصحاب الأموال من العرب، لا بل مستأجَرة منهم. وبطبيعة الحال، كان "لا يمكن للصحافة المستأجرة أن تخالف عقد الإيجار لأن على المأجور، عقارًا كان أم إنسانًا، أن ينفّذ الشروط السريّة والعلنيّة المتفق عليها في العقد... فتشبّه الصحافة اللبنانية حالة سائق السيارة الخاصة عند الشيخ أو الأمير... حيث يبدو السائق ظاهرياً يقود السيارة حرًا ويحرّكها بيديه ورجليه لكنه عمليًا ليس حرًا لأنّ كل حركاته تأتيه، همسًا لطيفًا أو أمرًا جافًا، من سيّده العربي المرتمي على المقعد الخلفي"([17]).. ويبدو الصحافي يكتب للمموّل لا للقارئ... وينظر إلى العالم من خلال المال، وليس من خلال الوقائع واحترام الموضوعية في وسائل الاعلام.

تكاد لا تُحصى معالجات الأخبار، والتعتيم على النشر لحقائق كانت تؤكد رضوخ الصحافة اللبنانية في مجملها للمال لا للحرية. ويتضح هذا الأمر في مواثيق الشرف التي كانت تحظّر، في لبنان، من التعرّض إلى المصارف أو الملوك والرؤساء العرب، بينما نراها تحظّر، في دول أخرى من التعرّض للجيوش، وأمن هذه الدول، أو من التعرّض إلى المقدسات الدينية، على اعتبار أن الدين لا يتعاطى في الشؤون السياسيّة أساسًا، مع العلم أنّ رجال الدين في لبنان، بسببٍ من تركيبته الطائفية، يتعاطون كثيرًا وبمغالاةٍ  صارخة في السياسة.

فكيف يمكننا القول إن الصحافة اللبنانية كانت حرّة، إذا كان يحظَّر عليها تناول الأنشطة المالية والدينية والسياسيّة والأنظمة ومسؤولي الدولة؟

لا يمكن فهم المسؤوليات الخطيرة التي تلقى على عاتق الإعلام، ومعنى مطالبة الدولة اللبنانية بمراقبة مصادر وسائل الاعلام المالية، بعد مرور ربع قرن على هذه الوقائع والآراء التي نسوقها على الرغم من ظرافتها ومرارتها، إلا لأنها مثّلت واقع الإعلام اللبناني في ذلك التاريخ. ومهما خففنا من غلوائها، ومن مدى تعميمها وشموليّتها، فإنها تُستعاد، اليوم، وتصيب صحافة الحروب الأخيرة في الصميم حيث الطائفية والمعالجات السطحية والمذهبية تبدو شديدة الوضوح. أليست الطائفية، بالرغم من الإنقسام الوطني الذي يعانيه اللبنانيون، الآن، هي المحرّك الأساسي المتجدد والمثير للخلافات السياسية؟

إنّ أفضل الحلول للخروج من هذا الواقع المرير، كانت الدعوة إلى إلغاء احتكار الامتيازات الذي يحول دون الكتّاب من إصدار صحف لنشر أفكارهم وآرائهم، بعيداً عن قيود الأنظمة العربية والقيود الاعلانيّة. وإذا كانت حجة الدولة، على الدوام، هو ازدياد عدد الصحف في لبنان، فأمر منافٍ للواقع، والعكس هو الصحيح، لأنّ أصحاب الصحف متمسّكون بصحفهم بسبب هذا القانون الذي يؤمن بسهولة ثرائهم، وحيث العقار والأرض صنوان، وحيث العجز الفاضح للدولة في تطبيق قانون الكشف على الحسابات الماليّة للصحف والمجلات. "فالجريدة التي كانت تطبع مئات النسخ من العدد الواحد، لا توزع منها أكثر من سبع نسخ: واحدة لصاحب الجريدة، والثانية لسكرتيره، والثالثة للمحرر، والرابعة للمحاسب، والخامسة "لفرَّاش" العمارة، والسادسة لوزارة الأنباء لحفظ الامتياز في حقوقه الكاملة، والسابعة للأرشيف،.. كيف تعيش جريدة من هذا النوع إن لم تبع ما تطبعه شكلاً الى نظام عربي مقابل مخصصات مالية كبيرة؟ أليست صحفنا في معظمها مستأجَرة من جهة ما غالباً ما تكون أجنبيّة، الأمر الذي كان يجيز إقفالها بموجب القانون([18]) الذي يشترط في صاحب الجريدة أن يكون غير محكوم عليه بجنحة وألاّ يكون في خدمة دولة أجنبية"([19]). وبعد ربع قرن كان وزير الاعلام يتساءل: "كيف ننظم الاعلام لتجنّب ارتهان الشركات الاعلامية إلى التمويل الخارجي؟"([20]).

لا تضيف هذه النظرة المرّة، المضحكة والمبكية، إلى الصحافة اللبنانية، سوى الإمعان في تفصيل وضع لبنان الصحافي، حيث لم يكن لوسائل الاعلام الخاصة، في معظمها، من معرفة بلبنان سوى "ساحة الصدور"، كما ألمحنا، وهي توفّر فسحات الحرية المستباحة غير المسؤولة، وحيث أن الوضع الرسمي الاعلامي لم يكن سليمًا من النواحي المادية والمهنيّة والوطنية.

وإذا كنا نغاير هذه النظرة الواقعية إلى الإعلام والصحافة اللبنانيّة بوصفها صحافة فنية أكثر منها سياسيّة، فلأنها تجافي أو تتجاهل مضامين ولغات 52 مطبوعة يومية سياسية و42 مجلة أسبوعية وشهرية خاصة، إضافةً إلى عدد كبير من المطبوعات الأخرى غير المنتظمة الصدور، والتي كانت في معظمها تنطق بوجهات نظر أحزاب وأنظمة تجعل من لبنان عالَماً مصغرًا ممثلاً بأحزابه، وعقائده وتوجّهاته، وخصوصًا أنظمته في أشكالها العربيّة منها([21]). لقد ضمّ لبنان سياسات العرب كلّها، والأنظمة المختلفة في معالجات ومؤسّسات متعدّدة امتهنت الصحافة. وقد لا يدرك الباحث مدى التباين الحاصل بين بُعدي الاعلام الرسمي والخاص من حيث الشكل والمحتوى، وطرق الأداء، إلا بقراءة متأنية "للاستدراك" الرسمي القانوني الذي جاء متأخرًا جدًا يعدل مهام وزارة الإعلام، وينمّ عن الشعور بعظم المسؤوليّة التي نجمت عن النظرة الرسميّة الأفقيّة للإعلام، والأثمان الباهظة التي جاءت نتيجة عدم اكتشاف أبعاد الإعلام في لبنان، أو عدم استيعاب روافد الثقافة التغييرية في كل اتجاهاتها. ولم يبدُ لبنان الرسمي قادرًا على مواجهة التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة، والإيديولوجيّات المتراكمة المتفاعلة لتوليد أزمة لبنانية أمعنت تدميرًا في الوطن والتاريخ والمجتمع اللبناني برمّته.

لم تتمكّن "الحدود" و"الموانع" و"المحظورات" ومواثيق الشرف التي وشّى بها المشترع اللبناني، حرية الاعلام في لبنان، لجهة حماية أمنه القومي أو نظامه العام، أو علاقاته بالدول والملوك والرؤساء الأجانب، من معالجة الحالات السياسية والعسكرية الخاصة والطارئة التي كان يتعرّض لها في علاقات طوائفه ومجموعاته، أو في علاقاته مع الخارج.

وقد تجاوز الواقع الاعلامي في طبيعة لبنان المركَّبة "البازلية"([22]) هذه الحدود والقوانين تجاوبًا مع التنظيمات غير القانونية التي كانت تمثل فرقاء الصراع وإيديولوجياتهم، فسقطت هيبة النصوص القانونية المترجمة والمنقولة، أو المبتكرة، ووضعت حدود لحرية الاعلام هي اللاحدود أو انفلات كامل لم يعر مسألة المسؤولية شأنًا كبيرًا، ولم يتمكن القانون من أن يطاوله، وخصوصًا السياسي منه، وبانَ الهجوم عنيفًا على تقصير الإعلام الرسمي وحياده أو انحيازه في صراعات الأفكار.

وتوقَّف بقاء الإعلام الرسمي موحدًا ووحيدًا، إلى حد بعيد، على سلطة الدولة في الانتظام العام، والقدرة على ضبط قوى الصراع المختلفة، ولو إعلامياً من ناحية، وعلى تعددية رؤية رموز هذه السلطة إلى الأمور وفهمها واستيعابها كظواهر تعكس أزمة سياسيّة أو إتنية اجتماعية.

هكذا بدت السياسة تتأرجح جدليًا بين الدولة والمجتمع اللذين برزا منفصلين في مسائلهما ومشاكلهما. وبدا الانفصام واضحًا في الخطاب الرسمي الميسّر "المساير"، الذي كان قد ظهر متنافرًا مع كمّ هائل من الخطب والنصوص والمقالات والتعليقات المتنافرة شكلاً ومضمونًا، والتي كانت أبواقًا للخارج أو البلدان الخارجيّة، ما زاد في تعقيد الوضع اللبناني وتهديده.

هكذا بدت السياسة الإنبائيّة خجولة ومبسّطة حيال سياسات الإعلام الخاصة العقائدية، وراحت الأزمات تعبر عن نفسها بالأحداث والدماء والإنقسام، وليس كالإعلام في أشكاله وأبعاده المختلفة من أعطى لهذه الأحداث أبعادها ومراميها، فتلاشت سلطات القانون وأفلت هيبة الدولة غير الواضحة تماماً لتقع في قبضة سلطات الأمر الواقع.

 

2 - ضوابط الصحافة

وإذا ما تساءلنا عن الضوابط، فلا بدّ من الإشارة إلى القرارات الوقائيّة الحرّة التي تمثّلت بالمواثيق، والرقابة الذاتية، وهي خاصية ليست لبنانيّة على الإطلاق.

بدت الرقابة في لبنان مسألة قليلة الجدوى في مجال ضبط التباين بين الصحف وطبيعة النظام اللبناني الحر، فكان لا بدّ من اللجوء إلى اعتماد المواثيق، كمادة تخلق نوعًا من التوازن بين ضرورات المهنة واحتياجاتها والمجتمع، بين هاجس الحرية ونشر الحقائق وبما يحفظ حدود العلاقة الدنيا بين الصحافة والسلطات العامة.

وقد قضى عهد الشرف الأول([23]) في لبنان بوقف الحملات الإعلاميّة التي تغذِّي الأزمة اللبنانية، والانطلاق في حملة تهدئة تحضّ على المصالحة الوطنية، والتركيز على الوجه السياسي لهذه الأزمة كي لا يتمّ استغلالها طائفيًا، والإحجام عن نشر الأخبار التي تثير الفتن، وتذكي الحرائق، وتسهيل توزيع الصحف والمطبوعات من مختلف الاتجاهات والميول في مختلف المناطق اللبنانية... إلخ. وحتى العام 1970 والمناوشات مع الفلسطينيين، بدا اللبنانيون منقسمين ومعهم صحافتهم على المستوى السياسي بين التيار الاشتراكي (مصر، سوريا، العراق... الخ)، والبلدان المحافظة (المملكة العربية السعودية، الكويت، الأردن... الخ). وهكذا انتظمت الصحف في الصراعات العربية بين مدافع عن النظام الليـبي (السفير، الكفاح العربي، اللواء) أو المصري (الشعب، النضال، السياسة) أو السوري (الشرق، اللواء) أو العراقي (بيروت).. الخ.

وكانت السلطة اللبنانية تتصرّف إزاء هذه الصراعات، والإعلام الممهِّد لها، من دون انحياز كامل، إلا في ما ينحصر في قمع أي معالجة مؤذية تحقّر الملوك والرؤساء العرب([24]).

هكذا بدت الصورة تتقدَّم نحو الانفجار الواضح في الصحف والواقع، ما حدا بنقابة المحررين إلى وضع ميثاق شرف ثانٍ([25]) يحدّ من المساجلات وحدة نتائجها في الصحف على الوحدة الوطنية، ويحمل المحررين المسؤوليات الجسام في الصراعات الواضحة على صفحات المطبوعات الصحافية.

وقد دعا هذا الميثاق إلى المعالجة الموضوعية والواعية للصراعات والمشاكل العربية من دون التدخل في شؤون الدول الشقيقة، أو تناول ما يمسّ أمنها وسيادتها والحفاظ على سريّة المعلومات المرتبطة بالجيوش العربية، والإحجام عن نشر ما ينتهك خصوصيّاتها وأسرارها لمصلحة العدو، وكذلك الحفاظ على الوحدة الوطنية اللبنانية من كل ما يهدّدها ويضعفها أو يذكِّي الصراعات الطائفية. وطلب الميثاق أن تكون الكتابة في السياسة العربية نابعة بالنسبة إلى مختلف الفئات اللبنانية، مهما اختلفت انتماءاتها، من إملاء الشعور بالوحدة والوعي اللذين يحولان دون أية حملة صحافية تطاول البلدان الصديقة([26]).

يمكن القول، إنّ تحوّلاً كبيرًا كانت ترسمه صحافة ما أسميناه إعلام الحروب. وتدلّ القراءة المتأنّية لكل هذه المواثيق، على الهواجس الكبرى التي كانت تطمح إلى درء الأخطار عن لبنان الوطن في الممارسة الاعلامية، في الوقت الذي كانت تولّد فيه الأوطان العربية الدائمة الصراع والتنازع، مادةً دسمة لجذب الصحافة اللبنانية وتعميق صراعاتها، بينما المطلوب التقريب في ما بينها وفقًا لمبادئ المواثيق ومهادنتها. ليست هواجس، بقدر ما هي صعوبات وإغراءات كانت تحول دون جمع المتناقضات، حيث حرية الرأي إلى جانب مجافاة الحقائق الموضوعية ومرتكزات الصراع وغياب التضامن أو الإساءة إلى وحدة اللبنانيين، الذي هو الوجه الآخر للوحدة الوطنيّة، وكأنها الممارسة في حقل من الكتابة الصحافية العسيرة أو المستحيلة.

هكذا برزت الصحافة اللبنانية معرضاً أو يافطةً ملوّنة للبلدان العربية، تعكس مختلف الاتجاهات والميول والأفكار السياسيّة وتتّخذ مواقف تجعل المسائل الموضوعيّة نظريةً بحتة.

وإذا كان هذا الأمر غير معبّر عن الواقع كلّه، ولا تقرّ به الصحافة الملتزمة باستثناء عدد منها، فإنّ النسيج الغالب والصورة الشاملة للصحافة اللبنانية، لا تخرج عن إطار الحروب الحتميّة والمنتظرة التي عرفها اللبنانيون في ما بعد، وذاقوا مراراتها. وقد يكون في الأمر مبالغة تصل إلى اعتبار الصحافة من مسبِّبات الحرب الرئيسة الكثيرة أو هي وجهها الواضح.

يمكن القول، إنّ إعلام الحروب كان ممثَّلاً، في الدرجة الأولى، بالصحافة الرسميّة المتحيّزة التي ما تخطَّت حدود جمع الأنباء والرقابة النظرية، وكان عاجزًا عن الخروج من ديوان الدولة. وفي الدرجة الثانية، وفي تجاوز للأولى، كان ممثلاً بالصحافة الخاصة "القتالية" العقائدية أو المتحفزة "للقتال"، أو "البترولية" المربحة جدًا. وكانت هذه كلّها عاجزة، على الأقل بالمعنى اللبناني، عن الخروج من ديوان المال.

كانت وسائل الصحافة، بشكل عام، عاجزة عن الخروج إلى ميدان الناس أو القضايا العامة التي كانت تهمّ المواطنين اللبنانيّين (باستثناء "الملتزمين" والمنتفعين منهم) الذين كانوا يتسلّون ببرامجها، ويتلهّون بأخبارها، لا يثقون بها، أو يصدقونها كثيرًا. وكل ذلك أمام ضعف الدولة وتوجُّسها، وتوجُّس أصحاب المصالح المحليّين والعرب من سلطاتها الابتزازية المقلقة. كان هناك غياب شبه كلّي عن "مؤامرة" الانفجار والانهيار التي جاءت بصيغة الجمع، وما تمكّن اللبنانيون من نزعها من خطبهم وألسنتهم بعد ربع قرن.

وكانت هذه الحالة من الحالات السيّئة القليلة التي تصل فيها الصحافة إلى هذا المستوى في زمن معيّن وبلد "محدد" مثل لبنان انتقل من الديمقراطية في الممارسة إلى ديمقراطية القتال، ومن مال الأنظمة الصحافية إلى أموال الحروب والنتائج التدميرية الكبرى.

فكيف تحوّلت وسائل الاعلام إلى أدوات تدميريّة بعدما كانت تختزن أسباب الدمار؟

 

ثالثاً:  حروب الصحافة والصحافيين

لا يمكن فهم عنوان من هذا النوع من دون التدقيق في تفاصيل مرحلة أساسيّة شكّلت تاريخ لبنان المعاصر، امتدّت منذ العام 1975 حتى العام 1991، وما زالت آثارها تنسحب على واقع اللبنانيين حتى اليوم.

كما لا يتكامل الكلام على إعلام الحروب الذي كان مقتصرًا على الصحافة الرسمية والخاصة، التي أشرنا إليها، إلا بتناول حجم هذا الملف الإعلامي الضخم الذي انقاد إليه مجمل العرب واللبنانيين.

وإذا كان معروفًا أن الحروب تخاض بالسلاح، كما تُخاض بالكلمات، منذ فجر التاريخ، فتقوى وتتجاوز في فتكها فعاليّة الأسلحة، فللتدليل على حجم التخوف الذي يجعل الكلمة مقصلة قادرة على القتل، وتهيئة المعارك وإذكائها عن طريق تشويه الصور، وحقن النفوس، والتحفيز على التدمير. وهذا أمر أيضًا في صلب الصراعات العسكرية والسياسيّة، ويدرَّس في الجامعات مادةً أساسيّة في الدعاية السياسية والحروب النفسيّة وعلم الإشاعة وتضليل الحقائق وتشويهها كباب في هزيمة الآخر وإعادة إحيائه.

بدت الصورة في لبنان نموذجيّة في بشاعتها وآثارها التدميريّة، وتحوّلت الكلمات في الغالب إلى أفواج فعالة، ووسائل شرسة في القتال وخرق الجبهات، وإدارة المعارك وربح الجولات. وهي لشدة تميّزها في هذا المجال كانت توازي خصوصية لبنان وتمايزه اللذين شكّلا مفصلاً أساسيًا في ضخامة الحروب وبسالة الدفاع عن حضور لبنان ووجوده وتمايزه وتميّزه.

وفق هذه النظرة، تبدو دراسة ملف الإعلام في لبنان، في "تقاتل" وسائله، مسألة شديدة الدقة، نزلت فيها الكلمة بكل الوسائل والصيغ الى ساحات المعارك عدّة فعليّة في القتال، ووصلت إلى حدّ تدمير ذاتها نوعًا وشكلاً وتعبيرًا عبر تمثيلها للطوائف والمذاهب والأحزاب والوطن الرسمي وفرقاء الصراع.

وإذا كنا، في مجال النظرة الأفقية إلى هذا الإعلام، ما زلنا نشهد انقسامًا في الرأي، بين تبرئة الإعلام مما حصل فعلياً كونه جاء انعكاسًا للواقع، وبهذا لا يعود الإعلام إعلام حرب بقدر ما هو إعلام تبليغ، وبين انجراف الإعلام في تفجير الواقع، وهو بهذا يتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤوليات الحروب والأحداث، ما يرسِّخ النظرة الحادة التي تحمّل الإعلام إذكاء الفتن الطائفيّة ونتائج الحروب، فإنّه انقسام يصبّ مجدّدًا بين مقولتَي التفريق مجددًا بين الإعلام اللبناني والإعلام في لبنان.

وإذا ما بدا هذا الانقسام منحسرًا نوعًا ما في الوقت الراهن، فلأن تجلّيات العولمة جاءت امتدادًا وتبريرًا لحجم الكوارث التي أصابت الخطاب اللبناني. فما إن راحت الأصوات ترتفع وتلملم أشلاء الحروب، وترصد نتائجها حتى رحنا ندخل بوتيرة متسارعة، في "الدولة العالميّة" و"اللغة العالمية" و"وسائل الاعلام العالمية" ما قد لا يجعل البعض يدرك أو يجافي مدى ما حصل. لقد تهنا مثل غيرنا في عصر الفضاء، وتضاعفت مفاهيمنا للساحة والحريّات الى درجة أن بعض الفضائيات اللبنانية والعربية، كان هو الحافز المباشر الذي دفع وزراء الإعلام العرب يقرّون وثيقتهم في تنظيم البث الفضائي العربي في القاهرة في 13 شباط/فبراير 2008، الأمر الذي تحفظت عنه بيروت وقطر، ولم يأخذ طريقه الى التنفيذ بعد.

ومهما اختلفت هذه المواقف التي تمتص صراعاتها التقنيات الجديدة، والتي لا تقيم اعتبارًا لأية خصوصيّات، فإن هذه المقاربة لا تبدو واضحة إلا في قراءة العقود المقبلة من تاريخ بلدٍ متميِّّز مثل لبنان، في حروبه وسلامه، واندفاعه نحو أشكال المعرفة الحديثة، وكخروج من إحباطاته الكثيرة وأهمّها ذاك الإحباط المتنقل بين الفئات اللبنانية الذي جعل تاريخه تاريخ تسويات وتوازنات متكرّرة.

لقد استمرّ هذا الشكل من الانخراط الإعلامي في الحروب اللبنانيّة ما يقارب الخمس عشرة سنة(1975 - 1990). ولا يغفل الباحث كيف أن اللبنانيين الذين دخلوا في القتال، استولوا على محطات وتجهيزات الإعلام الرسمي، أو أرسوا معهم وسائل إعلامهم، وصحافتهم المتأهبة القديمة أساساً لهذه المهمات، أو أنهم راحوا يوجدون وسائلهم المرئية المسموعة والتي اتخذت حدّها الأقصى العام 1985.

كان الإعلام في شراسته يتقدّم على المعركة العسكرية حيث "يبدو المقاتلون الحقيقيون مدجَّجين بالكلام والكتابة، أو بتلك القوة في شحذ الهمم والحميّة، التي غالى لينين في اعتبارها. وكان يدرك هذا القائد للثورة البولشفية أن الكلمات وحدها تظفر بالحروب أحياناً... وها هي تقود في لبنان إلى الكوارث والتدمير. ولقد أوضح المثل العربي قبل عصر الاتصال بكثير أن أفواه المدافع أقلّ خطورةً بكثير من أفواه الوشاة والصحافيين"([27]).

كانت أجهزة الإعلام في مجملها مع نهايات هذه المرحلة أسلحة حادة في وجه الدولة في ظلّ غياب كامل لوسائل الاعلام اللبنانيّة الرسميّة، وحتى الخاصة منها، باستثناء مرحلة قصيرة شغل فيها أحد الحكام المسؤولين شاشة التلفزيون الرسمي([28])، وكانت من أقوى الأسلحة بين يديه، بدا اللبنانيّون من خلالها منصبّين على الإعلام الرسمي خلافاً لخمسة عشر عاماً من تاريخهم كادوا خلالها ينسون تلفزيون لبنان، شاشتهم الوحيدة التي تشظّت مع تشظي الوطن.

يمكن القول، إنّ مرحلة من الحروب اللبنانية جاءت بين العمين 1975 و1982 لتدفع بالحياة الحزبية في صراعاتها إلى أوجها، حيث اتّخذت طابعًا عسكريًا "ميلشيويًا" ظهر في كتلتين ضخمتين شكّلتا الصورة العامة: الجبهة اللبنانية (أحزاب الكتائب اللبنانية، والوطنيين الأحرار، والقوات اللبنانية التي برزت خطًا مميزًا داخل الجبهة سرعان ما تسلّم القرار والمسار العسكري، وحرّاس الأرز)، والحركة الوطنيّة التي ضمّت التوجهات اليسارية والعروبية، والتطلعات الإسلامية، بالاضافة إلى تجمعات سياسية وحركات وتكتلات أفرزتها الحرب كالتجمع الإسلامي، والحزب الديمقراطي الاشتراكي وغيرها بالإضافة أيضًا إلى البنى الحزبية الطائفية كالمرابطين والتنظيم الناصري وحركة أمل وحزب الله، وما تلا الثورة الإيرانية من نزعات عقائدية. وبين هاتين الكتلتين، كانت الصعوبة هائلة في رصد الأحزاب والتجمعات والجمعيات التي انخرطت في الصراع فتشابهت، وتنافرت واكتنفها الغموض. فلقد أحصينا على سبيل المثال 719 حزبًا سياسيًا وجمعيّة في لبنان حتى العام 1976، ولا نعرف المؤسسات والأحزاب والجمعيّات التي قامت بعد هذا التاريخ، وكان عدد كبير منها قد انخرط في الأوضاع اللبنانية على أصعدتها المختلفة([29]).

الخلاصة، إذاً، أنّ السياسة في مضامينها المختلفة قد شكَّلت أساس حياة اللبنانيين خلال هذا الربع الأخير من القرن الذي انهار فيه وطنهم، وخضع لتحوُّلات كبرى متعددة، وفي محطات أساسيّة شكّلت ملامح لوحة الانهيار.

ولكي ندرك خطورة هذه القضايا، وأخرى غيرها متفرِّعة عنها نسأل: ماذا عن ملف الإعلام في لبنان في تلك المرحلة؟

 

1 - صراعات الصحافة

كانت الصحف في بدايات الحرب أي في حرب السنتين تقريباً 1975 - 1976 بالإضافة إلى الإذاعة والتلفزيون الرسمي تشكل ملف الإعلام كلّه. وكانت هذه الصحف في مطبوعاتها المتنوِّعة من يومية وأسبوعية وشهرية تعاني وتمثِّل عددًا من المواقف والتعقيدات لا مثيل لها حيث كان يصح طرح علامات الاستفهام حول دورها: هل هي شريك في التطور والرقي الوطني أم أنها باب للمنافع غير السياسية، وببساطة كلية أداة للنفع الشخصي غير السياسي الذي "لم يكن يؤدي إلا إلى طغيان الفوضى والإساءة الى النظام اللبناني بكل مقوماته وتقويض دعائمه"([30]).

يشهد القارئ لتلك المرحلة، في مجال الصحف، أن سقوطًا كاملاً لمقوّمات الأخبار والتعليقات والمقابلات جعل الصحافة موجهة. وزالت الفروقات المهنيّة والكتابيّة بين الأخبار والآراء، وبدت عناوين الصحف ومضامينها وغلافات المطبوعات أسلحةً فعليّة تجعل من الصحافة صحافةَ التزام في مجملها بوجهات النظر المتناقضة في توجهاتها الطائفيّة المتناقضة بحيث انحسرت الوقائع والحقائق وغابت مفاهيم مثل الديمقراطية التي بدت وكأنّها تقنيّة تسهل فرض الآراء ووجهات النظر بالقوة.

لقد اعتمدنا في تكوين صورة واضحة عن تلك المرحلة، مجموعة من الأرقام([31]) الخام فقرأناها وقارنّا في ما بينها واستخرجنا بعض المعطيات والحقائق التي تساعد في رسم صورة تلك الفترة من حروب الإعلام: أحصينا في لبنان في تلك المرحلة (حتى العام 1977) 99 مطبوعة سياسية بين يومية وأسبوعية وشهرية وغيرها (ونعني المطبوعات التي كانت تصدر مرّة أو أكثر في العام الواحد للحفاظ على حقّها في الصدور، أي امتيازها) تتوزع بين 36 ناشرًا من الطوائف الإسلاميّة مقابل 63 ناشرًا من الطوائف المسيحية. ويجد الباحث من بينها 29 مطبوعة اعتبرت مستقلّة أي أنها غير منتمية إلى أية جهة حزبية محلية أو إقليميّة أو دوليّة بقدر انتمائها إلى لبنان، مقابل 70 مطبوعة أخرى صُنِّفت وفقاً للهويات الآتية: يسارية، شيوعية، مصرية، عراقية، يمينية، سعودية، جبهة وطنية، علمانية (تابعة للحزب السوري القومي الاجتماعي والتي صنفها الباحث في جداوله أيضًا مسيحية وفقاً لطائفة مؤسس المطبوعة)، بعثية، ليبية، نجادة (تابعة لحزب النجادة)، غربية، فدائية (تابعة للفصائل الفلسطينية المتعددة)، نقابية، مهاجرة. ويعطي هذا التصنيف، بالرغم من مجافاته للموضوعيّة، صورة واضحة تمثّل، ربّما، لوحة صراعات الصحافة المكتوبة في لبنان.

استطاعت الكلمة في الحروب، إذاً، بين الوطنيين واللبنانيين في انشقاقاتها العامة أن تبتكر مجموعات من الأوصاف والاتهامات التي ولَّدها رجال السياسة أحيانًا، وروّجت لها وسائل الصحافة في أشكالها المتعددة، أو أن الصحافة هي التي أوجدتها ورسختها في أذهان السياسيين والمواطنين وهي أورثت كمّاً من الأحقاد والحروب، والتفسخات السياسية والاجتماعية والإقتصادية والفكرية، حيث تعدَّدت الخطب في الشكل والمضمون فتنافرت و"تقاتلت". وبدت صورة لبنان مشوّهةً تضم مجموعة هائلة من المصطلحات والتسميات مثل "الانعزاليون"، "الفاشيون"، "الرجعيون"، "المسيحيون" و"التقدميون المسلمون"، "اليمين المسيحي"، و"المسيحيون المحافظون"، ميليشيات اليمين" و"ميليشيات اليسار"، "أعداء الداخل" و"أعداء لبنان"، "المارونية السياسية" و"صهاينة الداخل" و"المقاومة الوطنية" و"المقاومة الاسلامية" و"المقاومة اللبنانية" و"المقاومة الإسلامية" و"مشاريع الطائفية والتقسيم" و"الطائفية السياسية" و"الفدرالية" و"التعددية" و"العلمنة" و"الدويلات" المسيحية أو المسلمة.

وقد جاءت هذه التسميات مع نشوب الحرب، لكنّها كانت قد تجذّرت في خلافات وتجاذبات الأحزاب، ووسائلها الإعلامية حول مسائل صارت ملازمة للنص اللبناني، ونعني بها الوحدة العربية ومسائل أخرى مثل السيادة، والاستقلال، والحرية، والامبريالية الغربية، والاشتراكية، والصداقة مع الاتحاد السوفياتي وتحرير فلسطين، والوحدة الوطنية، والديمقراطية، وقد تشظت كلّها بالفكر الطائفي. فقد بدت الطائفيّة مسألةً واضحة في الصحافة اللبنانية، "استطاعت في ما بعد أن تقدم لبنان إلى الخارج وطنًا مقسمًا بين ديانتين وطوائف ولغتين متغايرتين، مسيحية ومسلمة، مع أن الواقع غير ذلك، لأنّ سبع عشرة طائفة تشكّل نسيج لبنان وموجودة فيه([32]) على "انه البلد الأكثر تعددًا في طوائفه في الشرق كله"([33]).

وكنا لا نجد صحيفة في لبنان خرجت عن مجال التطرُّق إلى المعضلة الطائفية ومسبِّباتها ونتائجها ومخاطرها. وتخفّ درجة الاهتمام في موضوعية المعالجات أو عدمها وفقًا لانتماءات الصحيفة وجمهورها وتوجُّه ناشريها ومموّليها. ومَن يستعرض تاريخ المطبوعات وتنقُّل الامتيازات في الصحافة اللبنانية لا يجد فواصل على الإطلاق بين صحيفة وأخرى. فقد نجد مطبوعة تحمل إسمًا معينًا في أقصى اليمين، وتكتب لمصلحة مذهب أو طائفة ما، ونجدها في زمنٍ آخر تكتب لمصلحة آخر مناقض تمامًا للأول، أو لطائفة أخرى([34]). وما أكثر الأمثلة من هذا النوع التي تدل على تحكّم المال في هويّة الصحافة اللبنانيّة.

ويقود الاطّلاع على صحافة ما قبل العام 1975، إلى تلمّس تعدّدية في أنواع الصحف وطرائق صدورها من ناحية، كما إلى تنوّع في تقديم الآراء وتناقض كان يوسّع لدى الصحافيين دائرة الاهتمام بالطائفيّة من الانخراط التام في سمومها إلى الإسقاطات في الكتابة والاملاءات التي لم يكن التخلّص منها سهلاً بعد ذلك، في الاعلام المرئي والمسموع، بل أصبح استعمالها مقصودًا إلى درجة تشويه اللغة وبقصد إنكاء الآخر.

كان من الممكن رصد صحف([35]) طائفيّة مثل "الشراع"([36]) و"نداء الوطن"([37]) و"العمل"([38]) و"الجمهوريّة"([39]) وغيرها، وكلّها ذات توجّه مسيحي، مقابل "صوت العروبة"([40]) و"بيروت المساء"([41]) و"اليوم"([42]) وغيرها، وهي ذات توجّهات إسلاميّة. وفق هذين الاتجاهين العريضين كنا نشهد حماسًا إعلاميًا سياسيًا في مجمله ينضح بردود الفعل المذهبية والطائفيّة، وخصوصًا في هذه المطبوعات، التي اتخذناها على سبيل المثال لا الحصر، والتي كادت تنسي الصحافيين المهمة الرسولية التي تتمّ تأديتها أساسًا في أبعادها الراقية. لقد تعمّقت الهوّة بين الثقافتين العربية والإسلامية من جهة، واللبنانية والغربية من جهة أخرى، وآلت إلى خلق ثقافة خاصة بلبنان لا يمكن النظر إليها بسلبيّة أو دليل تناقض وتنافر وحسب، بل يمكن رؤيتها من زاوية إيجابيّة أيضًا كونها أغنت الوحدة الوطنية وتفاعلاتها.

 

 2- الصحافة والحروب المتنقّلة

وفقاً لهذه الصورة تكون الصحافة المكتوبة وغيرها قد ساهمت في ترسيخ معالم الصراع، ودفعه بين الأفكار والعقائد، في الوقت الذي كان يُنظر إليها فيه على أنّها دليل نموّ المظاهر الديمقراطية، وهو صراع كما شهدنا أخذ معه رجال الدين، والمجموعات اللبنانية والأجنبية الضاغطة، وأضعف السلطة والسيادة الوطنيّة.

نعم ساهمت الصحافة في الحرب لأنّها كانت وسائل موجّهة ومسيَّسة ومحازبة ومُعسكَرة، فكان "هناك قصف إعلامي للناس والوطن والقيم والمجتمع واللغة، إلى جانب القصف المدفعي. لقد استعملت أجهزة الإعلام كالسلاح في الحروب اللبنانية، ولا يمكن تسميتها أساسًا بأجهزة إعلام بل أجهزة مليشياوية ومخابراتية، وهذا لا يوفر أبدًا الوسائل التي استعملت من قبل أشخاص وأحزاب لإثارة النعرات وتفجير الأحقاد وزرع البلبلة..." ([43]).

وقد أفرزت أحداث الأزمة اللبنانية ما يمكن أن يتوافق على تسميته "بإعلام الطوائف" إلى جانب "إعلام الأحزاب"، كما أفرزت "إعلام الميليشيات" إلى جانب "إعلام المناطق". وإذا كان التشرذم الاعلامي موضع خلاف في وجهات النظر بين كونه سببًا من ناحية، أو نتيجةً من ناحية أخرى، فإننا نميل إلى الاعتقاد أنه سبب ونتيجة من عدد كبير من الأسباب والنتائج التي شكّلت الحرب. ونستطيع عبره تكوين صورة عن واقع هش استغلّه كثير من اللبنانيين وغيرهم لتكريس هذا الواقع، و"كما كان في الأعلام منابر لدول عربية، فإن فيه منابر متعدّدة لدويلات لبنانية تنتهي، ومعها يُفترض أن ينتهي عهد إعلام هذه الدويلات"([44]).

 

رابعاً- لبنان بين إعلام السلام وإعلام المقاومة والممانعة

بدت قصة لبنان مع الاتفاقات وأوراق العمل والمشاريع، التي رمت إلى طيّ صفحة الحرب المدمّرة، طويلة، فقد سقطت كلها أو ذهبت أدراج الرياح لعدم توافر ظروف الحياة لها. هكذا ترك حبل الصراعات بين اللبنانيين على غاربه في حروب متتالية لم توفِّر شيئًا من السقوط. فضربت الدولة، وأضعفت مؤسّساتها وفكّكتها، كما ضربت المجتمع وأفقدته استقراره وتوازنه. وضربت الشعب فقتلت من قتلت، وأسقطت لدى الكثير ممّن بقي على قيد الحياة، معظم الفضائل والصفات الخلقيّة والوطنية، وأشعرته بأنّ كلّ شيء مباح، وأن لا رادع يمنعه من الإقدام على ما يريد، وكأنّه يعيش من دون سقف. و"بات أي حلّ سياسي غير كافٍ لترميم الإنسان واللسان والأقلام في لبنان"([45]).

لكنّ هذه الأوراق المتعدّدة كانت تحمل مجموعات من الأفكار والمشاريع المتراكمة النظرية. ويستنتج مَن يعيد قراءتها، أن صياغتها كانت تتمّ في مناخ واحد كان يجمع الأفرقاء على الرغم من صراعاتهم وحروبهم، وبشكل يسمح بالجمع، بسهولة، بين ما ورد من أفكار في الوثيقة الدستورية مثلاً ووثيقة الوفاق الوطني اللبناني([46])، التي شكّلت الورقة - الأساس، أو النصّ الرسمي الأول في محاولة إدخال لبنان مرحلة من السلام والهدوء.

هكذا بدأت مرحلة انتهاء الحروب العام 1990 - 1991 وتوحَّد الجيش وحُلَّت الميلشيات، وتسلّمت الدولة المرافئ والمرافق العامة والمؤسّسات، وكان هذا يرضي قسمًا كبيرًا من اللبنانيين. ويساعد على قراءة ملامح الجمهورية الثانية، في الوقت الذي يُغضب فريقًا آخر منهم كانوا معارضين لهذه الملامح والأفكار، تمكنوا من الصمود قليلاً أمام إعادة بناء سلطات الدولة من جديد وتعزيز حضورها.

وإذا قلنا إنّ الدساتير تولد من النقاش والحوار ومن روح الإعلام والتواصل، فإنّ مقارعة الفكر بالفكر والطائفة بالطائفة والموقف بالموقف قد تمّت في مدينة الطائف وانبثق اتفاق جديد بحثًا عن المثل اللبنانية العليا المشتركة، وذلك بإرادة دوليّة([47]) من خلال رعاية سورية مباشرة، ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، ومع توافق صامت أوروبي وإخراج عربي وقبول لبناني أثمرت وثيقة الوفاق الوطني بين أيدي اللقاء النيابي وثيقة غدت دستورًا مكرَّسًا بديلاً عن صيغة 1943.

 

1 - الإعلام والوفاق الوطني؟

حدّدت وثيقة الوفاق الوطني الأطر والمبادئ العامة للإصلاح والنظام والإعلام، وجاء فيها: "أن معالجة الإعلام في لبنان، وجعله حريات مسؤولة من واجب الدولة اللبنانية القادرة. وعليه يجب إعادة تنظيم جميع وسائل الإعلام السمعية والمرئية في ظل القانون، وفي إطار الحرية المسؤولة بما يخدم التوجُّهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب". لكن الدعوات إلى إنهاء حالة الحرب لم يكن لها الصدى بالمعنى الإعلامي. وانحسرت الحروب لتظهر أشدّ شراسة عبر وسائل الإعلام، وبرزت الوسائل الإعلامية "سلاحًا قاتلاً" في وجه قيام الدولة بعد إقرار الطائف مباشرة، وفي ظلّ غياب شبه كامل للإعلام الرسمي.

وإذا كانت الدويلات المتعددة التي عرفها اللبنانيون خلال حروبهم الطويلة، قد راحت منذ العام 1990 تخلع أعلامها وأناشيدها ومسلّحيها ومرافئها ومطاراتها وقضاتها وكتبها والمقتنيات الضرورية المستوردة لقيامها عند عتبة الجمهورية الثانية، ودخلت كلُّها أو بعضها إلى الوطن، فإنها لم "تخلع" مدارسها وجامعاتها، وأجهزتها الإعلامية، وخصوصًا التلفزيونية منها، ببرامجها ولغاتها الخاصة قطعًا، بل دخلت الدولة في "استمرارية" لمناخ حروبها وتعويضًا عن "أمجادها" الغابرة. يمكن القول إنّها أُخلعت أو أُدخلت طوعًا إلى الجمهورية أو أنها لم تفعل لا هذا ولا ذاك بالمعنى العملي، وما حصل كان من مستلزمات وضع الأمور في "ثلاجة" المتغيِّرات والمراهنات الكثيرة التي اعتاد عليها الأطراف اللبنانيون من حيث قدّرتها على قلب الأمور، بعدما تأكد لهم أن الظروف الدولية قلبتها أكثر من مرّة وسقطت ثوابتها. وقد لا يكون واضحًا، آنذاك، بالنسبة إلى البعض سقوط فلسفة الانتظار والمراهنة، وخطأها في تلمّس ملامح المستقبل.

وفقًا لهذا المفهوم، صار اللبنانيون يلحظون اختلالاً في ما سُمي اتفاق الطائف، وحكومة الوفاق الوطني وهي صفة مستجدة في الدستور اللبناني الذي لم يأخذ في إعلامه معنى الوفاق الوطني، بل عاد يثير مجددًا أسئلة واجتهادات كثيرة في أذهان اللبنانيين رسخت الأبعاد الطائفية قبل أن تخبو نار حروبهم الطائفية بشكل ثابت.

ونتوقَّف، هنا، باهتمام أمام ثلاثة معطيات أو محطات إعلامية كبرى:

أ - بدا الإعلام متمحورًا في ظاهرة "المؤسسة اللبنانية للإرسال" التي ظهرت منذ نشوئها متميّزة في تجهيزاتها التقنيّة، وراحت تجذب وتستقطب في هذه المرحلة وغيرها من المراحل مجموعة كبرى من المضامين والأصوات المعترضة أو المدافعة عن منجزات الطائف. واصبحت برامجها وطرائق أدائها ولغتها العامية محط أنظار ومتابعة المشاهدين من اللبنانيين.        ب- أطلق العماد ميشال عون([48]) معاركه العسكرية السياسية والوطنية عبر شاشة تلفزيون لبنان (محطة الحازمية وتمّ نقلها إلى Centre Ivoire في سن الفيل) مركزًا على أهميته، إلى جانب محطة إذاعية صغيرة (في الفنار) وشكّلا أقوى الأسلحة بين يديه، وساهما كثيرًا في استقطاب اللبنانيين وجذبهم، وإضفاء أبعاد جديدة على الوضعين السياسي والإعلامي الرسمي غير مألوفة من قبل. ويرصد الباحث في هذه التجربة الإعلامية مفارقة غريبة من حيث علاقة إعلام السلطة بالناس أو علاقة الإعلام بالسلطة وخصوصًا الرسميّة منها. فالصورة المألوفة كانت ابتعاد الناس عن الإعلام الرسمي وخصوصًا "تلفزيون لبنان" لأنّه كان يثير لديهم الملل في أخباره وتحليلاته وبرامجه وعرضه للأحداث، الأمر الذي حدا بهم إلى الانصراف كليًا إلى الإعلام الخاص بكل أشكاله.

ويمكن القول إنّ "المرحلة العونية" آنذاك، قد قلبت هذه المقولة بشكل نهائي، لأنها استطاعت للمرّة الأولى، ربما، في تاريخ الإعلام اللبناني، أن تعيد المشاهدين إلى الإعلام الرسمي، ومعهم جماهير الإعلام الخاص، وجمهور المؤسسة اللبنانية للإرسال أكثر تحديدًا. فقد قامت هذه المرحلة أساسًا على الخطاب الإعلامي الذي جاء في مجمله مباشرًا، وبلغة الناس ولهجاتهم، وذلك بصرف النظر عن أي تقييم آخر للمضمون أو التوجه اللذين كانا، أيضًا، ضد اتفاق الطائف ومفاعيله.

ج - كان تلفزيون لبنان الرسمي ضعيفًا منهكًا في قناته السابعة (في تلّة الخيّاط) لم يحسن الدفاع عن اتفاق الطائف([49]). وكأن لسان أهل الطائف كان متخفيًا على المستوى الإعلامي، مقابل إعلام اللاطائف القوي والشرس والشعبي، وربّما لم تكن الدولة قادرة في التعبير عن "خططها"، والتواصل مع الناس، أو أن الخلافات انحصرت في من يتكلم أو من يدافع ويتواصل مع اللبنانيين.

تُعتبر هذه الثغرة الإعلامية من لبنان الرسمي، نموذجية في تقاعسه الذي ترك الصورة تستفحل في اختلالها في أذهان اللبنانيين. ولم تتمكَّن الدولة من الحفاظ على البقيّة من هيبتها الداخلية التي كان منتظرًا إغناؤها بدلاً من فقدانها داخليًا وإقليميًا ودوليًا بحيث أنها لم تتمكن من التعبير عن ملامحها كجمهورية ثانية، أو تصوير صلابتها للمواطنين في التطلع نحو المستقبل. وكأنّنا على أبواب مآزم وانهيارات جديدة في لبنان.

 

2 - ملامح الطائف الإعلامية

بدا اتفاق الطائف في البداية مشكلة إعلامية في المضمون، وفي الشكل، أكثر منها سياسية. كان ممزقًا بين الرافضين له وهم كثر يتزعَّمهم ميشال عون، والذين أقرّوه غير المتحمسين له إعلاميًا، وهم النواب المشاركون في لقاءات الطائف أو التوفيقيين مثل القوات اللبنانية آنذاك، الذين اعتبروه "نتيجة لموازين القوى، يتضمن حسنات وسيئات مثله مثل كل الاتفاقات"([50])، فلم يقبلوا المشاركة في الحكم، أو لم يدخل رئيسهم سمير جعجع([51]) حكومته معتبرًا "أن المشاركة في الحكم تكون حتى من موقع المعارضة، ذلك هو عنوان الديمقراطية، وبكل بساطة الحل ليس في هذه الحكومة"([52]).

بهذا المعنى صار الطائف "محدلة" إعلاميّة "ترسم أشباه ملامح وأوهامًا في ملامح الأفق اللبناني، أمام الأطراف المتفرِّجة التي كانت تتوق إلى الحوار من ناحية وإلى إحياء مشاريعها الخاصة من ناحية أخرى". وهذا ما أدّى "إلى ضياع القرارات الموحَّدة التي أخلت الساحة لمن يعتلي "المحدلة" بتعديل الكثير من بنود الطائف في أقل نسبة من الضرر التي كادت تشابه الانقسام"([53]). وبدا واضحًا، نتيجة هذه التعديلات، المطالبة بـِ "التهيُّؤ إلى جمهورية ثالثة تقودنا إليها تعديلات بعض النصوص أو إلغاؤها أو تجميد الوضع في ما يسفر عنه الصراع السياسي من مشاكل دستورية وقانونية لا يبدو أفقه واضحاً"([54]).

وبدا الخطاب السياسي، وخصوصًا لدى أهل الطائف في معظمهم يعاني ازدواجية متعددة الأبعاد، أفقده مضمونه وسلطته وشكله أحيانًا كثيرة. فهناك الإزدواجية في الخطاب السياسي للمسؤول الواحد وزيرًا أو نائبًا متحمسًا علانية للطائف وضده سرًّا([55])، كما للمسؤولين والأطراف المتحالفين والمتناقضين الحزبيين بل المتحاربين فعليًا.

عانى الاتفاق - الوثيقة، إذاً، من أهله الذين لم يتمكَّنوا، أو أنهم لم يشاؤوا تسويقه إعلاميًا، على الأقل، بين المواطنين "توازنًا" مع الكثر الذين تناولوه. وبدا اللبنانيون في وادٍ وأهل الطائف في وادٍ آخر. وبدا النص يتيمًا لا من يتبنَّاه أو يتواصل به مع الناس. لا عمق عمليًا له بينهم ما أفقده المنعة والوهج الإعلامي. ويمكن القول إن اللبنانيين بدوا وكأنهم خرجوا نهائيًا بالمعنى الإعلامي والسياسي وغيره من المعاني من لبنان الرسمي ودخلوا لبنان الخاص. إنّها المرحلة المتأهبة للخصخصة الوطنية([56]) أو المحضَّر لها. والأخطر من هذا كلّه، أن عددًا من السياسيين الذين كنا نقرأهم ونتابعهم، لم يطلعوا على نصوص الطائف بشكل كافٍ، مع أنهم شاركوا في صياغته، وأعرض عنه المثقفون ما زاد في حدّة الفرقة والريبة.

وبدا اتفاق الطائف مشوَّهًا في صورته الإعلامية ويعمق الصراع بين اللبنانيين، خصوصًا، بعد الانتخابات النيابية (1992) حيث طرحت مسألة التمثيل أو المرجعية، قطعًا للطريق على كل من يلح بضرورة إعادة الحوار... وهنا قمة سقوط السلطات السياسية! من هي الأطراف التي تود التحاور، وهي لم تكن محصورة قطعًا، هذه المرة، بأعضاء البرلمان الذين شاركوا في احتفالية الطائف أو بأعضاء البرلمان الجديد؟ من يمثل من؟ ومن هو الذي كان يجرؤ على الادعاء بتمثيل الناس فعلياً؟

لقد كانت السلطات أو المرجعيات قائمة، كما بدا، حتى الاتفاق. لكنّها بدت محكومة، وإلى أمد ليس بقريب، بالضياع وإعادة النظر والتشويش. ولن يكون بوسع بعض الأطراف القدرة على بعث منعة السلطة وقوتها من جديد، خصوصًا وأن الانصراف كليًّا إلى المتغيرات الكبرى الحاصلة في العالم كان أمرًا متعذرًا أو صعبًا، وكذلك فهمها أو ترجمتها في مواقف مستجدة في السياسة الداخلية تعيد للسياسة سلطاتها إنْ لم تكن قادرةً على استعادة سلطات وطنها. لهذا كانت "تأفل السياسة وتنهار، لصالح المراهنات التي ما بدت نتائجها واضحة أبدًا بشكل كامل، لا على مستقبل السياسيين المراهنين ولا على مستقبل لبنان ومفاهيم السلطات فيه. كان المسيحيون، مثلاً في لبنان، الرقم الصعب، لأن الإرادة الدولية شاءت الاستفادة منهم في إطار المسألة الشرقية لمصالحها. الآن أصبح المسيحيون ورقةً بعدما كانوا رقمًا. لماذا؟ لأن المسيحيين كانوا هم واجهة الغرب. الآن أصبحت المنطقة كلها واجهة الغرب. ولم يعد هناك من شرق بالمعنى العربي للكلمة. لقد تفكَّك المسيحيون وانهاروا في حروب صعبة وعاشوا نوعًا من الإرباك السياسي والإرهاق النفسي وبدوا خلال هذا التاريخ معارضة أو هم توَّاقون إلى أخذ مواقعها لكنّهم يعانون العجز إلى حدّ كبير تمامًا كما الحكم آنذاك"([57]). ونقيض الحكم هو بديله يساويه في العجز، مقابل دعوات أصولية متجذِّرة تعمل في السلم أفضل من ظروف الحرب بكثير، لذا بدا السقوط شاملاً بالنسبة إلى كلّ من خرج من "سقطة" الجمهورية أو بقي فيها يعاني سقوطًا أو عجزًا ما.

وجعلنا هذا الواقع المطوي على القسرية والجهل السياسي وفقدان المرجعية وسقوط رجال السلطة بشكل عام، بالإضافة إلى الازدواجية في الخطاب المتسرّع والمتلعثم في قاموس الممارسة السياسيّة، نتهيّب أمام مستقبل الجمهورية الثانية على لسان معارضيها وأهلها آنذاك. هنا اتجاه دائم للمعارضة رأى "أن الطائف ينهار قبل أن يبدأ. إنّه على وشك النهاية"([58])، أو "أن السلطات في الجمهورية الثانية قد هبطت إلى الدرجة الصفر"([59])... "فلا حكومات تستجيب أو مجلس يطالب أو شعب يحاسب... والدليل أننا انتقلنا من مجلس([60]) كان التزوير فيه يحصل بنسبةٍ ضئيلة إلى مجلس يفتخر بأربعين نائبًا جديدًا معيّنًا وهذا دليل الديمقراطية المستحدثة، ويستكمل انجازاته بانتخابات مزوَّرة ومخالفات دستورية مباشرة وقحة... إنّه جامعة فيها من الحضانة إلى الدكتوراه والجميع في صف واحد وتسأل كيف يتفاهمون"([61])... وإذا كان "لكل اتفاقية في العام روح ونص، فالنص قد توضَّح في اتفاق الطائف، أما الروح فغير موجودة أبدًا"([62])... "والمصيبة  أنه مثل الإيمان، إمّا أن نكون معه أو ضدّه"([63]).

وقد نستنتج بأنه كان هناك فجوة في الأساس شديدة الانعكاس في وسائل الإعلام، من أن التغيير في النصوص، لا يعني أو ينعكس حكمًا تغييرًا في النفوس، وهي المقولة التي لازمت ألسنة المسؤولين وخطبهم. وقد تكمن المشكلة في هذا المجال في أن سياسيّي الجمهوريّة الوليدة، هم أشخاص مشبعون بآليّة سياسيّة تقليديّة ترسّخت منذ العام 1943، ومارسوها طوال عشرين عامًا، وهي الفترة الأغنى والأصعب من تاريخ لبنان.

كانوا قممًا في السياسة والخطابة واللغة والفصاحة مثلاً. وشاءت الظروف أن يشغلوا مرحلةً انتقالية مهمة من تاريخ لبنان. وليس من السهل أن يكونوا هم نواة التغيير ويمارسوا، في الوقت نفسه، هذا التغيير. إذ لا يمكن الجمع بسهولة بين الفكرة الحديثة والممارسة التقليديّة، وكأنّك تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في حضور وفكرة واحدة.

وتفترض الإشارة هنا إلى أن بناء الوطن والدساتير في العالم، لا يمكن أن يحمي نفسه ممن ينفذونه، لأن التجربة تحتمل الحذف والخطأ. وكلّما كان لدينا أشخاص يعيشون روحيّة الدستور، كلّما طبق الدستور بشكل أفضل.

ولأنّ روحية الطائف تعبِّر عن روحية تغييريّة جديدة جاءت في أعقاب تغيير ناتج عن الحروب، فإنّها روحيّة لا يُعقل أن يمارسها السياسيون التقليديون ولو أنّهم شاركوا في وضع نصوصها أو صدّقوا عليها. هكذا تستمرّ إشكاليات الدستور الجديد في أهله وممارساته. وسيمرّ وقت طويل قبل أن ندرك أن طبقةً سياسيّة كاملة وجيلاً كاملاً من العائلة السياسيّة التقليديّة بكل مواصفاتها هي في طريق السقوط تدريجًا لصالح مستقبل لم تتّضح معالمه النهائيّة بعد، علمًا أن الأبناء والأحفاد عادوا ينبثقون من جذوع الشجر المجتثّ أغصانًا خضراء، تحقق تاريخًا يعيد تكرار نفسه.

"إن تطبيق الطائف وممارسته دستوريًا على مستوى علاقات السلطات بعضها بالبعض الآخر، ما عدا السلطة الرابعة، كان وقد لا يزال أمرًا "متعبًا أو مربكًا"([64]). فقد أكّد مجمل الذين تمّت مقابلتهم أن "فصل السلطات وتوازنها وتعاونها مبدأ مقدّس"، من دون أن يتمكن أحد منهم من تفسير هذا الأمر عمليًا، لا لغويًا، ونعني إيجاد الحدود الواضحة بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون، توازن من دون الإشارة إلى الإرباك والتعثّر أو تلعثم المفسِّر.

فلقد سقطت هذه الأفعال الثلاثة فريسة أوصاف مثل "الدويكا" أو "الترويكا" التي تردَّدت بشكل لا مثيل له في وسائل الإعلام. وامتزجت بهذا السقوط سلطات رئيس الحكومة بسلطات رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس النواب والسلطة القضائية وبات ما يحكم هذه العلاقات ليس النص الذي أبهم عند الممارسة بل شخصيّة كل فريق ومزاجه ومصالحه وطموحاته.

وفي استنتاج بسيط حول هذا الملف، تبدّى لنا اتفاق الطائف، في هذا المجال، اتفاق محاور ثلاثة ذات آفاق وتاريخ طائفي: المحور الماروني والسنّي والشيعي، مع العلم بأنّ الصورة تبدّلت، وبات الإنقسام وطنيًا، وخصوصًا بعد حرب تمّوز/يوليو الإسرائيلية العام 2006 على المقاومة في لبنان، حيث انتصر حزب الله على إسرائيل، للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. لقد انقسم المسيحيون وكذلك المسلمون بشكلٍ عام بين توجهين متناقضين ما يزالان محكومين بشيءٍ كثيرٍ من عدم الثقة. لكن الطابع الأكبر للنظام اللبناني بقي محكومًا بالمذهبيّة والطائفيّة العلنيّة... وهذا ما حوّله إلى ما يشبه المثلّث المتساوي الأضلاع، سرعان ما تشوّه عند التطبيق حيث صار يبدو مثلّثًا أحيانًا غير متساوي الأضلاع، أو مربعًا، أو دائرة مشوّهة، ولم يعد لشكل الحكم وضوح أو ملامح. وهذا ما أبرز الاتفاق نصًا مع وقف التنفيذ في عدد كبير من بنوده.

وفي اختصار شديد، يبدو اتفاق الطائف، "دستور المستقبل أكثر منه الحاضر، لأن لبنان خرج من الحرب ولم يدخل السلام، وهو أمر مؤجل حتى تسوية الأوضاع في المنطقة"([65])، بينما يبدو، من ناحية أخرى، دستورًا غير قابل للتنفيذ لأنّ ضغط وثيقة الطائف إلى حدود الجوهر يجعلنا نرى أنّها تحمل قطبين جاذبين من الأفكار بين اللبنانيين: الأول ترسيخ قناعة بوطن سيّد مستقل، والثاني كيفية بناء الدولة الحديثة على قواعد العدل والمساواة والتكافؤ... وتحتلّ اللامركزية واسطة العقد في قيام الدولة.

هناك شبه إجماع على أنّ الدولة لم تقم بعد، والمستقبل غير محدّد، وسيبقى لبنان في توقّعاتهم أسير هذا الوضع المتأزّم سياسيًا واقتصاديًا، يكون ما نفِّذ قد نفِّذ، وما لم يتمّ تنفيذه، سقط حكمًا من النص بانتظار نص آخر وملامح أخرى.

 

3 - هوية الإعلام هوية لبنان

لكن السؤال الأكبر الذي كان وما يزال قائمًا في الأساس: أيّ إعلام نريد؟ سؤال لم يجد جوابه النهائي بعد، لأنّه ينطوي، ربما، على سؤال أوسع بكثير هو: أيّ لبنان نريد؟

قد نعثر على الإجابة النظرية في ديباجة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، حيث جاء في المبادئ العامة([66]) أنّ "لبنان وطن سيّد حرّ مستقلّ، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسّسات في حدوده المنصوص عنها في الدستور اللبناني والمعترف بها دوليًا، وهو بلدٌ عربيّ الهويّة والانتماء، وهو عضوٌ مؤسِّس وعامل في جامعة الدول العربيّة وملتزم مواثيقها... وتجسّد الدولة اللبنانيّة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات".

على ضوء هذا المقطع، الذي اعتُبر، أو جاء ألف باء الدستور اللبناني الجديد، وخصوصًا في التأكيد على نهائيّة الوطن اللبناني العربي لبنيه، إفترض المشترع إعادة بناء تاريخ لبنان الكامل بعيدًا عن انقساماته وانهياراته وحروبه. وإذ يُفاجأ قارئ أجنبيّ، مثلاً، بالكلام عن "نهائيّة الوطن"، فإنّه كلام يوحي باعتراف أساسي، بأن لبنان منذ وُجد لم يكن "لجميع أبنائه" كما أنه لم يكن عربيًا. وما وَضْعُ هاتين الكلمتين "النهائية" و"العروبة"، إلاّ لطرح مشكلة الانتماء الوطني التي رافقته منذ وجوده بالمعنى السياسي.

وعندما كان يُقال، إنّ لبنان وطنٌ عربي، كان فريق يتّهم الآخر في لبنان بانهيار الوطن. وإذا ما نادى فريق آخر بالوحدة الإسلامية، نادى فريق بالوحدة العربية التي كانت تدفع نحو المناداة بوحدة لبنان. هكذا كانت الطوائف والأفرقاء تتبادل سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي جعلت من تاريخ لبنان عالمًا من التناوب في مناخَي الغبن والخوف والإحباط، الأمر الذي لم يشدّ وطنًا منيعًا لا تشوبه الانهيارات والحروب. هكذا يرى البعض مثلاً أنّه "عندما نحدّد أيّ وطن نبني نستطيع أن نحدّد أيّ إعلام نريد... تلك هي المشكلة الإعلاميّة في لبنان ترتبط بالاتفاق على النظام بين اللبنانيين. فهل تمّ الاتفاق على الوطن، وهل يرضي النظام القائم جميع اللبنانيين؟"([67]).

لا يعني هذا الموقف من الطائف، في صراعاته مع مواقف سلبيّة مناهضة، سوى استمرار العصف في صورة الوطن حتى اليوم. وما الاقتراح بتسمية المرحلة اصطلاحًا بـِ"سلام الإعلام"، إلاّ وجه آخر من "الحروب" المتنقلة التي أثقلت الوجود اللبناني، انحسرت عمليًا وتفاقمت في وسائل الإعلام التي لم يبدُ سلامُها سلامًا كاملاً وثابتًا.

يُستنتج أيضًا أنّ ما اعتبر مشكلة إعلامية، كان أقوى من ذلك بكثير، لأنّه كان يعكس القسرية في السلام غير الكامل، الذي ظهر بارزًا في وسائل قوى الأمر الواقع الإعلامية، وضرورة لا يُستغنى عنها في حياة اللبنانيين. لم يكن الموضوع المطروح في اتفاق الطائف إلغاء هذه الوسائل بل إعادة تنظيمها، وهو أمر كان يمكن تأجيله كونه مسألة حساسة ودقيقة. وكان لا يمكن التصدّي له "بمعزل عن عملية بناء الدولة الحديثة الذي لم يحصل بسبب فقدان القاعدة والأساس الذي ترتفع عليه المؤسسات المنهارة في تجددها، ونعني بها المصالحة الوطنيّة التي كنا نراها أعمق بكثير من تأليف الحكومات... لم يكن المقصود بالوفاق حشر قادة الميليشيات.. في الحكومات، بل تأليف حكومات منسجمة ومتفاهمة على المشاركة والقبول. لذلك يمكن اعتبار الحكومة الأولى([68]) بأنها حكومة التأسيس للعهد، والتحضير للوحدة، والانتقال من حال التقسيم الواقعيّة، إلى شكلٍ من الشرعيّة المعترف بها في الداخل والخارج. أما الحكومات الأخرى المتعاقبة، فقد كانت نوعًا من حكم الأمر الواقع الذي فشل في تحقيق الخطوة البدهيّة الأولى أي إعادة تنظيم الإعلام على أساس الحرية المسؤولة، وإنْ كان الوزراء المتعاقبون في حكومات الطائف قد حاولوا فتح هذا الملف... ولنقل إنّه لم تكن لدى الدولة سلطة تمكّنها من ضبط الإعلام غير الشرعي وحتى الرسمي الذي كان منقسمًا... ولا تستطيع الدولة العاجزة عن جمع النفايات أن تجمع السلاح، والتي لا تستطيع جمع السلاح لا يمكنها فرض القوانين على أحد. كانت السمة الغالبة على الحكم في لبنان العجز، والإنهاك، وفقدان الثقة بينه وبين الرأي العام. الموضوع أساسًا هو موضوع الحكم لا موضوع الإعلام"([69]).

يظهر اللبنانيون، في السنوات المنصرمة، متلقّين سلبيين أعرضوا عن السياسة، بعدما أنهكتهم الحروب والصراعات، وخرجوا منها وقد "سقط" معظم السياسيين والأحزاب من أذهانهم، ووقعوا في خضمّ حرب اجتماعيّة واقتصادية شرسة. وقد بدت تلك المرحلة ضبابيّة عنوانها "إعلام السلام"، و"بدت معها وسائل الإعلام تغرق في "مؤامرة" فعلية هدفها تسخيف اللبنانيين وتدجين الأجيال"([70]) في مضامين ما تقدّمه من أفلام وبرامج ومعالجات وأخبار. و"يتجدّد" الانحدار الثقافي والسياسي والفكري واللغوي مع مقتضيات الإعلام الإعلاني والترفيه والتسلية كوظائف أساسيّة في الإعلام.

والتمس الإعلام بابًا لتركيز ملامح السلطة المؤقت، بانتظار المتغيرات السريعة الحاصلة في العالم. وتقدّم الخارج في "مفاوضات السلام" أو التسوية و"النظام الدولي الجديد" وملامح العولمة على الداخل (إعادة ترتيب البيت اللبناني إتقاء للعواطف الكبيرة القادمة).

وهنا تتبلور مشكلة أخطر بكثير من المشكلات التي سبقتها، إذ أصبحنا في لبنان أمام أجيال تلفزيونية هشة غريبة الوجه والسلوك واللسان تُحشى بأصناف وأشكال "الأفكار" شتَّى المرفوضة أساسًا في البلدان المنتجة.

راحت مجمل محطات التلفزيون، وخصوصًا أشدّها انتشارًا([71]) وإقبالاً، تؤسّس لإعلام غير مباشر سياسي أحيانًا، واجتماعي أحيانًا كثيرة، وهو يدخل ضمن حلقات وسياسة ما يعرف "بالتطبيع" تمهيدًا لمراحل منتظرة. يتمّ ذلك في "غياب" عدد من المسؤولين الرسميين في لبنان، أو إدراكهم الكامل لخطورة ما يحصل وتغطيته، وربّما، كانوا في مواقعهم أكثر تحفّزًا لهذه الأدوار والمهمات المستجدة الخطيرة .

والسؤال الأكبر الذي كان يُطرح في هذه المرحلة هو أنّ حرّاس الحرية في لبنان، هم الذين مع غيرهم سجنوا اللبنانيين في الملاجئ أو صادروا أعمارهم وحياتهم في المراحل الماضية، يصادرونهم في أوهام السلام اقتصاديًا واجتماعيًا، كما في الحروب عن طريق وسائل الإعلام في مضامينها وتحت قبّة الحرية مع "أن الإعلام الحر، والذي يطالب أيضاً بالحريات، هو فوضى بمظاهر من المحسّنات والمغريات... الحرية نظام، لها قواعد وأصول..." ([72]).

إنطلاقاً من هذه الصورة المشوَّهة للبنان، والتي جاءت الفضائيات اللبنانية تمعن في تشويهها إنقيادًا لضغوطات تجارية واعلانية، في تضحية بالكثير من المبادئ، نفهم ردود الفعل الكبرى التي يقوم بها الأهل وبعض المرجعيات اللبنانية حيال هذا الانهيار الشامل المعبّر عنه بالجنس والعنف والخطاب السياسي الهش والكيدي وبالتحريض الطائفي الفج، وهما في أساس لعبة "إعلام السلام" حيث تنحسر مفاهيم مثل العائلة والشرف والاستقامة والوطنية والمساواة والمحبة والديمقراطية، مقابل الفردية والإباحية والاحتيال والخيانة والاستعباد والكراهية والقوة... الخ. ويبدو لبنان غير قابل للخيار، وكأنّه داخل خيمة أو في منزل من دون سقف، أو ساحة دائمة الانفتاح على المال في دائرية تدميرية تبدأ بالمال حربًا وتقفل بالمال سلمًا. وتطحن في دائريّتها الأجيال والأطفال والمدارس والجامعات والمؤسسات التي تشكّل أركان المجتمع. يصبح الإعلام هو السلام بعدما كان هو الحرب، لأن السلام عقول وقلوب متلقية وفق مساحات من الحرية الداخلية الفردية التي تفرضها وسائل الإعلام ويصعب تخليص الناس منها.

وإذا كانت الحرية في لبنان تمتص ما كانت تلفظه الضغائن والأحقاد والنزاعات المتراكمة نتيجة التناقض بين الفئات اللبنانية في مضامين الوطن جعلت البعض يعاني "التلوّث" الإعلامي في مجالات متعدّدة. وكان هذا البعض وما زال أمام خيارين: إمّا الاختناق أو المبادرة وكلاهما أصبحا متعذِّرين بما هو أوسع من الدائرة اللبنانية... وهنا قمة الانهيار والسقوط واللجوء إلى فنون الوقاية حيث حلول عصر العولمة وتقنيات الإعلام الحديثة في لبنان وكاد الخارج يحتلّ الداخل بشكل كبير.

 

الخلاصة

من صحافة الإستقلال إلى إعلام السلام ومعه إعلام المقاومة والممانعة في لبنان، بالإضافة إلى العديد من المخاطر الإعلاميّة التي أبدلت الفوضى بالاحتكار الإعلامي بما يضمن التوازن المذهبي، ويحفظ الحصص الإعلانية لا الإعلامية، تاريخ يعكس تحولات الطوائف في لبنان دولاً مقفلة. لكل طائفة عدّتها الإعلامية وبرامجها الخاصة، الأمر الذي يظهر لبنان مجددًا، وكأنه في حربٍ أهلية باردة. يمكن أن تندلع في أي وقت إذا تهيّات لها الظروف، بصرف النظر عن الأحداث الطائفية المتنقلة بين بيروت العاصمة والشمال والبقاع. وترسم هذه العدّة، بصيغة الجمع، صورة تقريبية لملف الإعلام في لبنان: إعلام رسمي غير واضح ومحور تجاذب وشبه غائب، وقد ضاعف من غيابه، عزوف الرئيس السابق العماد إميل لحود عن الإهتمام بالإعلام، ونتمنّى بأن يعير عهد العماد ميشال سليمان الإعلام اهتمامًا أكبر وأفعل. إعلام حروب وبقايا أحزاب، إعلام طوائف ودول خارجيّة وهواة، وأكثر من هذا كلّه إعلام مسؤولين وأفراد يمثّلون السلطة في معظمهم ولا يمثّلونها بالنسبة إلى عددٍ كبير من اللبنانيين الذين بدوا يبحثون عن السلطة والسيادة في الوقت نفسه. وتبدو الصحافة المكتوبة تتعرّض للحصار المالي، كما يحاصَر المرئي والمسموع، ويتضاءل تأثير الإعلام اللبناني عربيًا مقابل إعلام الابتذال والترفيه والجذب في هبوط ملحوظ على أنقاض الجودة والمضمون والموقع الإعلامي.

وتبدو الوسائل الإعلاميّة "سلطة" فوق كل "السلطات" المنحسرة وليست السلطة الرابعة، إذ تتقدّم صورة المسؤول أحيانًُا كثيرة، وبوحي منه، على صورة المؤسّسة والدولة والمواطن. "أنا" المسؤول بدلاً من "نحن" الدولة. وتقودنا الصورة العامّة إلى إيراد الملاحظات الاستنتاجيّة الآتية:

1 -  سقوط الصورة الرسمية والخاصة التي تحكم علاقات الْمُعْلِم والمتلقي بالمعاني السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي تبدو خاضعةً لشرخ متعدّد الأبعاد: شرخ بين النص أو رموز السلطات، وشرخ بين الجمهور اللبناني ووقع النصوص لديه، وأساسًا بينه وبين النص كونه يجهله تمامًا، ولا قيمة تطبيقيّة له. يُضاف إلى ذلك شرخ بين تعدّدية النصوص وتفسيراتها التي تبلغ حدود التناقض والتنازع في أغلب الأحيان.

وإذا كانت المشكلة الكبرى تتبلور إعلاميًا في لبنان، فإنّ كيفية التخاطب بين الدولة ومواطنيها تبدو المشكلة الإعلاميّة الجوهرية. وهنا تُطرح أسئلة أو قضايا إعلاميّة جديدة وذات أهميّة كبرى: مَن يخاطب مَن؟ ووفق أية وسائل؟ وإلى مَن يتوجَّه وكيف وفي أي وقت ولهجة ولغة؟ ما هي الصيغة التي يخاطب فيها الناس درءًا لتاريخ متلاحق من انهيارات اللبنانيين في المنزل والمدرسة والجامعة والسياسة والاجتماع... الخ؟ وما مدى حجج المخاطِب في الإقناع بتماسك اللبنانيين وصلابتهم؟ وهل إذا توهّم الإقناع فهو لا يجد مَن يخاطب بطريقة مغايرة لتعمية الناس وتضليلهم؟ وهنا ندفع المسألة إلى مستوى البحث عن الانتماء الوطني الأحادي أو المتعدّد الأبعاد وصولاً إلى اللغة المشتركة التي لم تلمح إلاّ في النص الدستوري الجديد، حيث نهائيّة الوطن وعروبته وانتماؤه.

 

2 -  يفشل هذا الخلل المتعدّد في تسويق صورة الدولة داخليًا، ما يعكسها غير صلبة أو متماسكة على المستويين الاقليمي والدولي، وهنا تتضاعف الإشكاليّة.

وتبدو الصورة غير واضحة المعالم كليّاً إذا ما قرأها الباحث عبر التتحولات الضخمة الحاصلة في المنطقة الشرق أوسطية، وتأتي كلُّها مصحوبةً بلازمة "السلام بين العرب وإسرائيل"، حيث يبدو البيت اللبناني مرميًا في مشاكل وحروب وخراب لا يقوى اللبنانيّون على فهمها أو تفسيرها أمام الهجرات والتوطين ومخاوف الجمود والانتظار والانهيارات التي قد تفضي إليها أحداث المستقبل.

وهنا تتكرّر الأسئلة لدى اللبنانيين:

هل أنّنا خرجنا نهائيًا من ظروف الحرب، بالمعنى الداخلي والدولي أو أن هذا القهر الإعلامي أو الإعلام المتعدّد الوسائل، الموحد اللهجات والتطلعات والمضامين الرخوة، ما زال يبقي على رطوبة هذه الظروف ويزيد من التشكيك؟

هل تدرك الدولة مدى الهوّة القائمة بين ما تضخّه وسائل الإعلام المحلية والخارجية من مضامين سياسية وبين المواطنين وهمومهم ومشاكلهم وأحلامهم ومستقبل أجيالهم؟

ما هي فلسفة الدولة الإعلاميّة التي تبنى عليها؟ وهل يبقى هناك من إمكانية خاصة لوضع فلسفة خاصة؟ وأين نحن منها؟ ومَن نحن في الواقع في عصر طغيان المعلومات؟ وأي معرفة وإعلام ووطنٍ نريد بالمعنى المهنيّ والفكريّ واللغوي؟

ألأنّ اللبنانيّين مسكونون بغريزة المعارضة، أم أنّ هناك فعلاً خللٌ كبير، هو سياسي إنتمائي إعلاميّ في جزئه الأكبر ساهم، بسبب الممارسات الرسمية، والإرتماء في الأحضان الخارجية، بنسج صورة مشوّهة للدولة، صورة بدت فيها السلطات حقولاً للإطراء، وقصر الخطط، وتجنب العلم والخروج من نافذة الجمهورية الأولى للدخول في باب الجمهورية الثانية أو الثالثة دونما اعتبار للمتغيّرات الحاصلة.

تكثر الأسئلة في هذا الميدان ويحمل مجملها أجوبته في صلبها. لكنّ إشكالية البحث في الإعلام تبقى في مدى رعاية وفهم السلطات اللبنانية لهذه الأسئلة وأسئلة المواطنين في تبادل مفترض بين صورة الناس وصورة السلطة حيث يبدو الإعلام دولةً والدولة إعلامًا كلّما تقدّمنا في العصر.

وقد يكون من المجدي إيراد هذه الأبيات الشعرية لإختصار ما نحن فيه من تشنج إعلامي وسياسي:

أرى خلل الرماد وميض نارٍ              ويوشك أن يكون لها ضرام

وإن لم يطفها عقلاء قومٍ                  يكون وقودها جثث وهام

فإنّ النار بالعودين تذكى                   وإنّ الحرب أولها كلام.

 

 


([1])      مي العبدالله سنو، "الاتصال في عصر العلومة"، الدار الجامعية، بيروت، 1999، ص 128.

([2])      كمال الصليـبي، "تاريخ لبنان الحديث"، دار النهار للنشر، بيروت، 1969، ص 167.

([3])      (1847-1884)، ابن المعلم بطرس الذي أسس العام 1860،"نفير سوريا"، ثاني جريدةٍ صدرت في بيروت، وكانت تتمحور في مضامينها على الوحدة الوطنية في لبنان إثر مذابح 1860 كما أسس"الجنان" العام 1870، وكان شعارها"حب الوطن من الإيمان"، وبعد وفاته العام 1833تحوّل امتيازها الى ابنه سليم ثم نجيب وتوقَّفت عن الصدور العام 1887. ولد في عبيه، قرأ العربية على الشيخ ناصيف اليازجي. ساعد أباه في وضع دائرة المعارف، وكتب ونشر في التاريخ. راجع: المنجد في اللغة، ص 74.

([4])      ولد في عشقوت 1804، وتعلّم في مدرسة عين ورقة. سافر إلى مصر ومالطة وتونس وجوّل أوروبا. امتاز بمعرفته الواسعة في اللغة العربية، وبسهولة أسلوبه في الكتابة. من مؤلّفاته: "الجاسوس على القاموس"، و"الساق على الساق في ما هو الفارياق". توفي العام 1888 في اسطنبول. راجع: المنجد في اللغة، ص286.

([5])      أديب ولد في دمشق سنة 1856 وأقام في مصر وتوفي في بيروت سنة 1885. أنشأ جريدة "مصر" وله روايات تمثيلية مع سليم النقاش: المنجد في اللغة، ص 18.

([6])      (1847-1906)، ولد في بيروت، واعتبر من أئمّة النهضة الأدبية والعلمية. أخذ علوم العربية عن أبيه الشيخ ناصيف. حفظ القرآن وتوسط حلقات التعليم في المدرسة البطريركية. عرف بأبحاثه اللغوية. صنع بيده أمّهات الأحرف العربية للمطابع. نقّح نصوص العهد القديم التي ترجمها الآباء اليسوعيّون. أسّس مجلة "الضياء" وحرّر القسم الأكبر منها. عمل في تجديد اللغة، وله في ذلك: "اللغة والعصر"، و"آمالي لغوية"، و"أغلاط المولّدين"، و"لغة الجرايد"، و"أغلاط العبر"، و"نجعة الرائد"، و"الفرائد الحسان". راجع: المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 570.

([7])      (1852-1927)، ولد في الحدث - لبنان. أديب أنشأ مجلة "المقتطف" في القاهرة (1876) وله فيها الفضل بتقريب العلوم الغربية إلى قرّاء العربية، ما أثّر في تطوّر هذه اللغة طبقاً للاحتياجات العصرية: المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 305.

([8])      ولد في حاصبيا - لبنان 1856. أديب لبناني هاجر إلى القاهرة وأنشأ جريدة "المقطَّم" و"المقتطف" بمساعدة يعقوب صرُّوف: المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 540.

([9])      (1849-1902)، ولد في حلب، واضطهده الأتراك بسبب أقواله وكتاباته. أقام في مصر، له "أم القرى" و"طبائع الاستبداد": المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 445.

([10])     (1842-1915)، أديب وصحافي لبناني، مؤسّس المطبعة الأدبية وجريدة "لسان الحال" (1877). توفي في بيروت: المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 251.

([11])     أديب لبناني منشئ جريدة "رجع الصدى"، و"مجلة سركيس"، توفي 1927. من مؤلّفاته "سر مملكة"، "في أخبار بني عثمان (1897)": المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 251.

([12])     (1861-1914)، ولد في بيروت. أسّس مجلة "الهلال" (1892) في القاهرة. من مؤلّفاته "تاريخ التمدّن الإسلامي"، و"تاريخ آداب اللغة العربية"، و"تراجم مشاهير الشرق". راجع: المنجد في اللغة والأدب والعلوم، ص 239.

([13])     ومنهم بشارة الخوري ومحمد كرد علي، وعبد الغني العريس، وأحمد حسن طبارة وشكري العسلي.

([14])     جورج كلاس، "جوزف الياس التربوي الخبير".

([15])     المادة 13 من الدستور اللبناني في جميع تعديلاته 1926 و1990، مجلس النواب، الدستور اللبناني، 1990.

([16])     قانون المطبوعات العثماني والتعديلات التي طرأت عليه منذ 1918 وفي أيام الاستقلال والانتداب، فقانون المطبوعات اللبناني (1962) وتعديلاته (1977). راجع: عادل بطرس، مجموعة قوانين المطبوعات في لبنان 1865-1979، لا ن، بيروت، 1980.

([17])     ابراهيم سلامة: "الصحافة في لبنان"، محاضرة ألقيت في النادي الثقافي العربي، بيروت، 9 كانون الأول 1966.

([18])     تفرض المادة 30 من قانون المطبوعات اللبناني، من ضمن الشروط التي ينبغي أن يتمتّع بها طالب الرخصة للحصول على الحق بإصدار مطبوعة صحافيّة، ألا يكون في خدمة دولة أجنبيّة. أنطوان الناشف: قوانين الاعلام المطبوع والمرئي والمسموع في لبنان، ص 204.

([19])   ابراهيم سلامة: محاضرة "الصحافة في لبنان".

 ([20])     الوزير ألبير منصور في ندوة الكارلتون، إعادة تنظيم الإعلام في لبنان.

([21])     Anis Moussallem, "La presse libanaise", Librairie générale de droit et de jurisprudence, Paris, 1979, pp. 95-109.

([22])   من لعبة Puzzle بمعنى المركبة أي القابلة للتآلف والتنافر بسرعة لامتناهية وسهولة فائقة. وهي صفة نكرّرها لشدّة بلاغتها.

([23])   كان هذا العهد حصيلة اجتماع بين وزير الأنباء، آنذاك، شارل حلو ونقيبَي الصحافة والمحرِّرين، روبير أبيلا ووفيق الطيـبي، وعدد من مديري الصحف المسؤولين في المطبوعات اللبنانية. وكان ذلك في 4/10/1958 إثر الحوادث الدامية. وبهذا غدا عهد الشرف تقليدًا لبنانيًا أعقبه عهد شرف صدر عن نقابة الصحافة في 13 كانون الثاني/يناير 1962 بعد الانقلاب الفاشل الذي قام به الحزب القومي السوري الاجتماعي (31 كانون الأول/ديسمبر 1961)، حيث التزمت 90 مطبوعة بالمطلق الرقابة الذاتية التي رُفعت في 31 آذار/مارس من العام نفسه، ثم أعيدت في 25 نيسان/أبريل 1963 إثر حملة لجريدة "الأهرام" ضد جريدة "العمل" الناطقة باسم حزب الكتائب، متهمة إياه بالمذهبية، ووصمته بأنه ميلشيا عدوّة في خدمة الطبقة اللبنانية الحاكمة (الأهرام 29 آذار/مارس 1963، ص 1). وقد ردّت "العمل" بقسوة، وقام صراع إعلامي بارز بين الكتائبيّين والناصريّين، وجاءت الرقابة المذكورة لتحدّ من إذكاء هذا الصراع مدة 11 شهرًا. ميشال الغريب، الصحافة اللبنانية والعربية، لا ن، بيروت، 1982، ص 202 وما بعدها. وأيضاً: Anis Mossallem: "La Presse libanaise", op. cit., pp. 193-194

([24])Aniss Mossallem, "La Presse libanaise", op. cit., p. 194.

([25])     وذلك في 6 شباط/فبراير 1970. ونجد بعد أربع سنوات من هذا التاريخ (4 شباط/فبراير 1974) ميثاق "شرف المهنة" من 15 بندًا أهمّها تجنّب التعصب وإثارة النعرات والدفاع عن البلاد وسرية المهنة، وقد جاء دفعاً للّغط الحاصل حول دور الصحافة في خلق الهواجس والتوجسات وأسباب الانفجار. والمفارقة أنه بالرغم من اعتراض عدد من الصحافيين على هذه المواثيق في الجمعيات العمومية لنقابة الصحافة، فقد عادوا إليها، هم أنفسهم، خلال الأعوام 1967، 1969، 1972 تأكيدًا على أهميّتها وجدواها. ميشال الغريب، الصحافة اللبنانية والعربية، ص 204-206.

([26])     يستثني أنيس مسلّم من هذه الصحف: النهار، الأنوار، الأوريان - لوجور، الحياة، الحوادث، الأسبوع العربي والماغازين التي يعتبرها موضوعيّة، خلافاً للصحف اللبنانية الأخرى:

Anis Moussallem, "La Presse libanaise", op. cit., p. 187.

([27])     Jean-Pierre Péroncel-Hugoz, "Une croix sur le Liban", Lieu Commun, Paris, 1984, pp. 37-38.

([28])     المقصود به العماد ميشال عون.

([29])     "الجمعيات والأحزاب السياسية في لبنان 1937-1979"، دراسات لبنانية، مركز النشر اللبناني، وزارة الإعلام، بيروت 1979 (عدد خاص).

([30])  Anis Moussallem, "La Presse libanaise", op. cit., pp. 307-308.

([31])     أثبت أنيس مسلّم في كتابه المذكور حول "الصحافة اللبنانية" أحد عشر جدولاً حافلاً بالمعلومات من دون تعليق (ص 98-109). ولقد اعتمدناها مادةً شبيهة بالمواد الخام لرسم هذه الصورة، لأنّ الكاتب عرضها وقدّمها وفقاً لما هي من دون ربطها، أو حصر نتائجها، وإجراء الاستنتاجات والنسب، وقد يكون قصد ذلك.

([32]) Charles Rizk, "Le Régime politique libanais", L.G.D.J., Paris, 1966, p. 19.

([33])     p. 287. Georges Corm, "Contribution à l’étude des sociétés multiconfesionnelles", L.G.D.J., Paris, 1971,

([34])     "الشراع" و"الشمس"، مثلاً، مجلتان أُسِّسَتا تجاوبًا مع توجّهات أقصى اليمين (الأب أنطوان قرطباوي، كميل شمعون)، ويُصدر الأولى اليوم حسن صبرا، والثانية يصدرها عبد الهادي محفوظ (توقّف عن إصدارها العام 1998، ثم عاد وأصدرها أسبوعية منذ العام 2006)، وكلاهما أصدرها بعيدًا عن توجّهات المؤسّس أو تاريخ المجلة الأول في خطّها العام.

([35])     توقفت كلّها عن الصدور باستثناء مجلة "الشراع" و جريدة "العمل" التي عادت إلى الصدور أسبوعية أواخر العام 2008.

([36])     أسبوعية سياسية اجتماعية دينية، ضمّت سعيد عقل وفؤاد افرام البستاني وألفرد نقاش كتّابًا كبارًا في مرحلة الاستقلال (1943)، وتحوّلت (6 أيلول/سبتمبر 1949) إلى جريدة يومية، فأسبوعية ناطقة بلسان المسيحيين في الشرق وعلى ارتباط مباشر بروما... وتحوّلت العام 1975 إلى اللغة الإنكليزية فصدرت باسم "الموندي مورننغ" مجلة مستقلة: Anis Moussallem: op. cit., pp. 83-84.

([37])     صحيفة يوميّة أصدرها الياس الغريافي. كانت ناطقةً باسم البطريركية المارونية وكل ما له علاقة بالطائفة المارونية، تنشر أخبارها وتخصص صفحاتها لمناسباتها، فترى صورة البطريرك الماروني بولس المعوشي تشغل ثلاثة أرباع الصفحة الأولى مع نداء يوجهه إلى اللبنانيين مثلاً (عدد 21 آذار/مارس 1972)، وتجد عددًا خاصًا من 16 صفحة بمناسبة تتويج البابا بولس السادس موشًّى بالرسوم والصور وبالألوان (عدد 29 حزيران/يونيو 1972): Anis Moussallem: op. cit., p. 84.

([38])     كانت الصحيفة الناطقة بلسان حزب الكتائب المسيحي، وكان معظم قرّائها من المسيحيين والموارنة تحديدًا، أو هكذا نُظر إليها أو صُنّفت بشكل عام، متخذةً صورةً لبنانية ناهضت التقدّميين، وكانت تعارض الفدائيين الفلسطينيين وتدين الأحزاب العقائدية اليساريّة (أعداد 22، 23، 24، 25 آذار/مارس 1972 و15-18 تموز/يوليو 1975): Anis Moussallem: op. cit., pp. 86-87.

([39])     جريدة حزب الكتلة الوطنيّة، معظم قرّائها كانوا من الموارنة ويتطلَّعون إلى ريمون إدّه عميد الكتلة وقائدها. وكان يلمس القارئ فيها ميولاً واضحة للغرب وتعاطفًا مع العرب والأنظمة المحافظة وعداء للماركسيّة (أعداد 8، 16، 23 آذار/مارس 1972) وقد أسّسها هنري سجيع الأسمر:Anis Moussallem: op. cit., pp. 88-89.

([40])     صحيفة حزب النجادة حاولت أن تكون الناطقة بلسان المسلمين في بيروت:  Ibid., p. 90.

([41])     كانت تحضّ المسلمين على المطالبة بحقوقهم، وتعتبرهم، وقد أصابهم الغبن في مجال الحكم، مضطرين إلى الدفاع عنها، ووجهة نظرهم البلاد العربية وفي طليعتها مصر وليس البلاد الأجنبية الغربية. أسّسها عبدالله المشنوق: Ibid., p. 91.

([42])     تعود إلى وفيق الطيـبي وكانت ذات توجه تقدّمي عربي، كانت تركّز كثيرًا على أخبار دار الفتوى ومفتي الجمهورية اللبنانية، وتنادي بالقيم الإسلامية أو الثقافة العربية الإسلامية. وكانت شديدة المناصرة للقضيّة الفلسطينيّة، والأحزاب التقدّمية، ودائمة التهجّم على سياسة الأحزاب المسيحية:  Anis Moussallem: op. cit., pp. 90-91.

([43])     إدمون رزق، "إتفاق الطائف، الملف السياسي"، مقابلة مع طلاب السنة الرابعة صحافة في كلية الاعلام والتوثيق - الفرع الثاني، الجامعة اللبنانية، 1991-1992، ص 207 (مخطوطة غير منشورة).

([44])     محمد السمّاك، "الإصلاح الإعلامي بين الحرية والمسؤوليّة"، محاضرة في ندوة إعادة تنظيم الإعلام في لبنان.

([45])     نسيم الخوري، "اتفاق الطائف في عامه الثالث"، وهو عنوان ندوة صحفية قُدّم خلالها "الملف السياسي، اتفاق الطائف، إعداد طلاب السنة الرابعة - صحافة، كلية الاعلام والتوثيق، الفرع الثاني في الجامعة اللبنانية، بإشرافي، وذلك في مبنى الكلية في الفنار في 16/10/1992، ونُشرت وقائع الندوة كاملةً في جريدة الديار، في 26/11/1992، بعنوان: "الجمهورية الثانية هبطت إلى جمهوريّة الصفر".

([46])     وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، أقرّها اللقاء النيابي في مدينة الطائف بالمملكة العربيّة السعودية في 22/10/1989، منشورات مجلس النواب اللبناني، لا ت، بيروت.

([47])     راجع بيان مجلس الأمن الدولي يدعم الشرعية اللبنانية ووثيقة الطائف في 7/11/1989، وكذلك مجلس الأمن الأوروبي في بيانيه تاريخ 22/11/1989 إثر اغتيال الرئيس رينيه معوض و9/12/1989 معلنًا دعمه لاتفاقية الطائف، مجلس النواب، وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، ص 56، 67 و79.

([48])     ولد في حارة حريك (1935). دخل المدرسة الحربية العام 1955. أصبح قائداً للجيش اللبناني (1984 - 1990). عيّنه الرئيس أمين الجميّل قبل انتهاء ولايته بربع ساعة، في ليل 22-23 أيلول/سبتمبر 1988 رئيسًا لمجلس الوزراء، وسلّمه مع حكومته مقاليد رئاسة الجمهورية. حصلت في عهده "حرب التحرير" و"حرب الالغاء" (1990). تمّ اجتياح القصر الجمهوري في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990 في بعبدا. نقلته غوَّاصة فرنسية من ضبيّه إلى فرنسا حيث تابع تحرّكه السياسي وأسّس المؤتمر الوطني. عاد الجنرال عون إلى بيروت بعد استشهاد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وخروج القوات السورية من لبنان، وأنطلق من الرابية في تأسيس التيار الوطني الحر، ليعيد تنظيم العونيين بعد خمسة عشر عامًا من نفيه فيصبح للتيار وزنًا سياسيًا كمًّا ونوعًا في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصًا بعدما وقّع الجنرال عون وثيقة التفاهم مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله،وهي خطوة اعتبرت تحولاً استراتيجيًا في الحياة السياسية اللبنانية، وفّرت على اللبنانيين مخاطر تجدد الحروب الأهلية الطائفية بين المسلمين والمسيحيين. راجع: طوني ضو، معجم القرن العشرين، دار أبعاد، ذوق مصبح، لبنان، لا ت، ص 81-82.

([49])     سيمرّ وقت طويل قبل أن يفهم اللبنانيون سبب تقاعس أهل الطائف من النواب اللبنانيين وعرَّابيه في الدفاع عن هذا الاتفاق. فقد حصرت المداخلات الإعلامية، آنذاك، بالنواب بطرس حرب وإدمون رزق وألبير منصور، خصوصًا في العام الأول من إقراره. وكان الإعلاميون يحثّون السيد حسين الحسيني رئيس مجلس النواب والملقّب "بعرّاب الطائف" على التقصير الإعلامي، لكنّه كان يجيب: "بكير بعد".

([50])     إنياس مخايل، مقابلة مع سمير جعجع (غير منشورة)، غدراس في 19/10/1992.

([51])     ولد في بشري (1952). درس الطب في الجامعة الأميركية. تطوّع في صفوف حزب الكتائب (1976)، ثم تسلّم قيادة الجبهة الشمالية في القوات اللبنانية في مرحلة بشير الجميّل، حيث وقعت حادثة إهدن (1978). خاض معركة الجبل التي تبعها حصار دير القمر (1983). شارك في انتفاضة 12 آذار/مارس 1985 التي أوصلته إلى رئاسة الأركان في القوات اللبنانية. قام بانتفاضة في 15 كانون الأول/ديسمبر 1986 ضد رئيس الهيئة التنفيذية في القوات إيلي حبيقة إثر توقيع "الاتفاق الثلاثي" برعاية سوريا، ورفع شعار "الأمر لي". كان من الموافقين على اتفاق الطائف سنة 1989 ما سبَّب نشوب حرب الإلغاء بينه وبين رئيس الحكومة العماد ميشال عون. عُيّن وزيرًا في حكومتَي عمر كرامي ورشيد الصلح ولم يتسلَّم. أوقف العام 1994 بعد اتّهامه وحزبَه بتفجير كنيسة سيدة النجاة. وحُلّ حزب القوات في 23/3/1994. برّأه المجلس العدلي من جرم التفجير بعد محاكمته، لكن ملفات موروثة من الحرب اللبنانية أدانته وأبقته في السجن، ولم يتمّ الإفراج عنه إلاّ العام 2005 بموجب قرار عفو أصدره رئيس الوزراء محمد نجيب ميقاتي وهو كان يصرّف الأعمال مع وزرائه، ووقَّع المرسوم الرئيس العماد إميل لحود، ليباشر جعجع اعادة الإنخراط مجددًا عبر إعادة إحياء القوات اللبنانية وتنظيمها. طوني ضو، معجم القرن العشرين، ص 42.

([52])     إنياس مخايل، مقابلة مع سمير جعجع.

([53])     رأى النائب نجاح واكيم أن اتفاق الطائف سقط قبل أن يجف حبره، لأنّ المطلوب أن يكون على قياس بعض الأشخاص، إذ يجب توسيع اللباس أو تضييقه أو قصُّه. مخطوطة الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص160.

([54])     النائب منيف الخطيب، مخطوطة الملف السياسي، اتفاق الطائق، ص 128.

([55])     يسوق نشر أو بث ما جاء على ألسنة بعض السياسيين الذين التقيناهم والمحسوبين من أهل الطائف إلى إحداث هزات سياسية وفضائح تضع عددًا منهم في دائرة غير مستحبَّة، خصوصًا وأنّ المقابلات كانت حرّةً أكثر لأنها كانت لغرض جامعي ولم تُعدّ أساسًا للنشر وإنما للاحتفاظ بها كوثائق قد يسمح الزمن بنشرها مستقبلاً.

([56])     Privatisation وتعني إشراك الدولة القطاعَ الخاص في شؤون إدارتها. وقد وضعت الحكومة اللبنانية، للمرّة الأولى في تاريخ لبنان، مسألة الخصخصة على جدول أعمال مجلس الوزراء المنعقد في الأول من آذار/مارس 2001 في بند "المجلس الأعلى للخصخصة".

([57])     محمد حسين فضل الله، الملف السياسي، اتفاق الطائف، مقابلة أجرتها معه رولا كسّاب، منيرفا داغر، ريما عساف وغادة الأسمر، ص 13.

([58])     نجاح واكيم: الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 163.

([59])     إدمون رزق: الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 209. والمستغرب هنا أن النائب إدمون رزق كان وزيرًا للإعلام في حكومة الطائف الأولى برئاسة الحص وبدا شديد الحماس للاتفاق في بدايات عودته من الطائف.

([60])     ويقصد به المجلس النيابي الذي تمّ انتخابه العام 1972 وعاش عشرين عامًا لتعذُّر إجراء الانتخابات، بسبب الحرب، حيث مدّد لولايته 8 مرّات. بدأ 99 نائبًا وانتهى 65 نائباً في 16 تموز/يوليو 1992 بقرار حلّ فيه نفسه إفساحاً في المجال لإجراء انتخابات نيابية جديدة، على الرغم من أن ولايته كانت تنتهي العام 1994.

 لقد انتَخب هذا المجلس المعمِّر، الذي ضرب الرقم القياسي في الحكم، في تاريخ لبنان، خمسة رؤساء جمهوريّة، ومنح الثقة لإحدى عشرة حكومة، ووافق على اتفاقيات متضاربة متناقضة، مثل: الاتفاق الثلاثي واتفاق 17 أيار واتفاق الطائف. و"أنجز 665 قانوناً خلال عمره، 30 % منها صادرة عن السلطة التشريعية، و70% مشاريع قوانين صادرة عن السلطة التنفيذية. وهذا يدل من ناحية على عجز الحكومات ما اضطر مجلس النواب إلى سدّ الفراغ وتسيير دفة الحكم، أو هو عجز قد يعود من ناحية ثانية إلى وجود حكومتين في الحرب، أو حكومات كان أعضاؤها غير متفاهمين أو مقاطعين". والمعروف أن أكثرية القوانين في بلاد العالم تأتي من الحكومة إلى المجلس النيابي الذي يدرسها ويقرّها كما هي أو يعدّلها. جميل كبي وعثمان الدنا، الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 99 و24 - 28. وأيضاً بيار دكاش، الملف السياسي، ص 51.

([61])     بيار دكاش، الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 60.

([62])     نائلة معوّض، الملف نفسه، ص 88.

([63])     جميل كبي، الملف نفسه، ص 106.

([64])     تمام سلام، الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 19.

([65])     إدمون رزق، الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 210.

([66])     مجلس النواب اللبناني، وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، بند أ وب، ص 5.

([67]) الوزيرغازي العريضي (وكان مدير إذاعة "صوت الجبل"): النهار، 29/8/1991.

([68]) برئاسة سليم الحص، وكان إدمون رزق وزيرًا للإعلام فيها.

([69]) إدمون رزق،، الملف السياسي، اتفاق الطائف، ص 207.

([70])     رمزي نجار، من مقابلة أجرتها معه ماتيلدا فرج الله في برنامج "بلا حرج"، تلفزيون الـN.B.N.، بيروت، 2 شباط/فبراير 2000.

([71])     مثل L.B.C.، M.T.V.، المستقبل...

([72])     منيف موسى، "في حدود الحرية بين السلطة والمبدع"، في مجلة جامعة NDU Spirit، لا ت، ص 45.

Lebanese Journalism and its role in times of war and peace

With the publication of this study, Lebanese journalism will be celebrating 150 years of its lifetime. And in this regard, we can consider this article as an unintentional way to honor the memory of a century and a half on the publication of the first Lebanese newspaper “Hadikat El Akhbar” issued by Mr. Khalil Gebrael El Khoury in 1858.

If journalism plays an important role and has a clear impact on the Lebanese political life up until this moment, what we are witnessing nowadays in terms of instigations and provocations through the press corporations especially the media transforms these institutions into tribunes of insults, contempt, intimidation and ambiguity. The news information might engender different perspectives and the journalists might take sides in the occurring conflicts but the danger lays in the fact that these media corporations are shifting from their functions which are represented in entertaining, educating and cautioning the people into the function of scourging the viewers. And thus, the responsibility deteriorates, in the moral and national sense of the profession, especially since these corporations are supposed to know better.

 

The researcher tries to bind between what is actually taking place in the world of politics and media in Lebanon and the confessional incidents which took place between the Lebanese in 1860 that is to say after 2 years on the appearance of “Hadikat El Akhbar”.

Can we consider that this phenomenon of media degradation is a new phenomenon which the Lebanese are witnessing? The answer is definitely not because it always accompanied the history of Lebanon long before the independence and this is what we will try to focus on in our study related to the media hardships in Lebanon.

The research is insisting on two major points in his study:

The first point is temporal and discusses the memory which mentioned the pioneering experience of Khalil Gebrael El Khoury and by this we mean to commemorate the newspaper of “Hadikat El Akhbar” after the official Lebanese authorities failed to  commemorate the centennial of the first newspaper.

However the second point is a detailed attempt of the role of the press during the Lebanese crisis and conflicts which the Lebanese citizens witnessed along with their Arab neighbors during a century and half in the framework of classifying this press in its big currents public general aspects all of this through avoiding the boring historic details.

La presse libanaise et son rôle lors des guerres et de la paix

Avec la publication de cette étude, la presse libanaise est en train de fêter ses 150 années. On pourra considérer ces pages comme étant une célébration non intentionnelle pour la commémoration d’un siècle et demi de la parution du premier journal libanais qu’était «Hadikat el-Akhbar» publié par Khalil Gebraiil el-Khoury en 1858.

Et si la presse jouait un rôle important et efficace dans la vie politique libanaise durant cette période, ce qui se passe aujourd’hui en tant que matraquage à travers les médias, surtout l’audiovisuel, rend ces médias des moyens pour la profanation et l’insulte. La matière médiatique pourra susciter des points de vue différents, et les hommes médiatiques pourront s’investir dans les conflits existant, mais ce qui est dangereux est que les médias oublient leur rôle principal de divertissement, d’éducation et de sensibilisation, pour torturer les gens. La responsabilité dans le sens moral et national du métier, se rétrécit.

Le chercheur essaie de trouver un lien entre ce qui se passe aujourd’hui au Liban sur la scène politique et médiatique, avec les incidents confessionnels qui ont eu lieu en 1860 entre les Libanais, c’est à dire deux ans après la parution de «Hadikat el-Akhbar».

Est-ce qu’on peut considérer ce phénomène de dégradation médiatique comme étant nouveau pour les Libanais ? bien sur que non, ce phénomène est étroitement lié à l’histoire du Liban même de longues années avant son indépendance.

Le chercheur évoque deux points dan son étude:

Le premier point, évoque la commémoration citée dans cette étude et dont le titre est «l’expérience pionnière de Khalil el-Khoury», nous voulons dire la célébration à la «Défense Nationale» du journal «Hadikat el-Akhbar» après que le Liban ait échoué officiellement de célébrer cette fête.

Le deuxième point évoque le rôle de la presse lors des crises et des conflits libanais durant plus d’un siècle et demi, et ce en classant la presse selon ses courants importants, ses aspects généraux, tout en évitant les détails historique ennuyeux.