دراسات وأبحاث

الصين تدعّم خاصرتها البحريّة جنوبًا
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد


كيف ستواجه أميركا «السور العظيم الجديد»؟

 

تسبب بحر الصين الجنوبي منذ مدة في اندلاع أزمة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، فقد وصلت الأمور إلى حدّ إعلان الصين أن المواجهة ستكون حتمية بين الطرفين إذا لم تكف واشنطن عن مطالبة بكين بوقف بناء جزر صناعية في تلك المنطقة المتنازع عليها.
وقد اتخذت التصريحات الأميركية والصينية بشأن النزاع حول بحر الصين الجنوبي في الآونة الأخيرة، منحى تصاعديًا وذلك بسبب إصرار الولايات المتحدة  على رفض أي نشاط عسكري أو تجاري صيني داخل الجزر المتنازع عليها. وهذا ما تجلى في كلام الرئيس الأميركي أوباما ووزير دفاعه آشتون كارتر مطلع شهر حزيران الماضي، ومن خلال زيادة الولايات المتحدة الأميركية لنسبة وجودها العسكري البحري في المنطقة ولطلعاتها الجوية فوق البحر الصيني.


ترافقت الخشية الأميركية من النشــاط الصينــي داخــل هذه الجــزر مع ارتفــاع منسوب القلــق الدولــي إزاء هذا النشــاط، إذ أوشكــت الصين على الانتهاء من استصلاح الأراضــي في بعض هذه الجزر وزيادة مساحاتهــا  ونشــر أسلحــة وبنــاء منشــآت عسكريــة بينها مدارج للطائرات.


بحر الصين الجنوبي وأهميته
يقع بحر الصين  الجنوبي شمال غرب المحيط الهادىء ويعتبر جزءًا منه، وهو يشمل المنطقة الممتدة من سنغافورة إلى مضيق تايوان، ويعد أكبر بحر في العالم (هو والبحر الأبيض المتوسط) بعد المحيطات الخمسة.
يستمد هذا البحر أهميته الجيوستراتيجية من موقعه، ومن اتصاله بمضيق مالقة (ثاني أكثر الممرات البحرية ازدحامًا بحركة السفن التجارية في العالم)، ومن مشاطئته لمجموعة من الدول يزيد عدد سكانها على الملياري نسمة . وفي هذا البحر أكثر من 250 جزيرة، أهمها :  أرخبيل سبراتلي وجزر باراسيل وبراتاس المتنازع عليها بين الصين وبعض الدول.
كذلك، يحتوي بحر الصين الجنوبي على ما يقدر بنحو 11 مليار برميل نفط كاحتياطي مؤكد (تقديرات أميركية في العام 2013)، إضافة إلى نحو 266 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي (7500 كلم3). ويعتقد الصينيون أن باطنه يحتوي على كميات من النفط تفوق ما تحتويه أي منطقة في العالم باستثناء السعودية. يضاف إلى ذلك ثروة سمكية كبيرة وتنوع بيئي (إيكولوجي) نادر.


أسباب النزاع ومطالب الأطراف
ترى الصين أن لها الحق بالسيادة على  نحو 75% من هذا البحر الأمر الذي ترفضه معظم الدول المطلة عليه، وتعتبره مناقضًا لقانون البحار والحدود البحرية الذي أقرته الأمم المتحدة. وتطالب كل من بروناي وماليزيا والفيليبين وفييتنام وتايوان أيضًا، بالسيادة على مناطق في هذا البحر. وهناك صراع  بينها للسيطرة على أكبر عدد ممكن من جزره التي لا يتجاوز حجم بعضها بضعة صخور. وقد فرضت الصين مناطق حظر جوي وبحري حول حدودها وفوق الجزر والمياه المتنازع عليها، ما أدى إلى النزاع مع  دول حوض البحر الصيني. أما الولايات المتحدة الأميركية  وهي من خارج دول الإقليم، فتطالب كل الدول التي تتنازع السيادة في المنطقة بوقف عمليات البناء في جزر «سبراتلي» الواقعة في جنوبه، ولكنها تتهم الصين بتنفيذ عمليات ردم وتوسيع وإقامة مطارات على مستوى عال. حتى أن البعض قال إن ما تفعله الصين في بحرها الجنوبي،  يبدو وكأنه عملية  بناء سور الصين العظيم ولكن في الرمال.

 

تاريخ الأزمة
ظلّ التوتر جمرًا تحت الرماد وقيد الاحتواء من خلال المباحثات والمفاوضات التي كانت الصين تجريها مع الدول  المتشاطئة بشكل ثنائي، إلى أن تحولت تلك الخلافات إلى نزاع إقليمي بعد أن قررت دول  منظمة «آسيان» التفاوض ككتلة واحدة مع الصين وتوصلت إلى التوقيع (2002) على «مدونة سلوك» (Code of Conduct) يحظر فيها على أي طرف القيام بأي إجراءات أحادية استفزازية خصوصًا في مجال التنقيب عن النفط والغاز، والشروع في التفاوض على إيجاد صيغة للاستثمار المشترك للمنطقة المتنازع عليها.
خلال القمة السادسة عشرة لمنظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان ) في العاصمة الفييتنامية هانوي (نيسان 2010)، ألقت وزيرة الخارجية الأميركية  السابقة هيلاري كلينتون كلمة اعتبرت فيها أن «استمرار التوتر في بحر الصين الجنوبي يقوّض المصالح الإستراتيجية الأميركية في المنطقة»، وطالبت بضرورة «إيجاد آلية دولية لحل النزاع». وقد وافقت على ذلك 12 دولة لا علاقة لكثرة منها بالنزاع الجاري، لكنها رأت أن القوة المتصاعدة للصين تجعل من التفاهم الموقَّع قبل ثماني سنوات بدون معنى. أثار هذا الأمر ردة فعل في الصين التي اعتبرته تدخلاً أميركيًا علنيًا سافرًا بقضايا المنطقة، وعودة إلى «سياسة فرّق تسُد».

 

الوضع الحالي
ظلت السيطرة على المحيط الهادئ، وبخاصة على بحري الصين الشرقي والجنوبي، تشكِّل طموحًا استراتيجيًا للقوى الكبرى، ويرى البعض أن من يمتلك موطئ قدم أو مرسى باخرة هناك سيكون قادرًا على الإسهام في صياغة مستقبل الأوضاع الدولية سياسيًا واقتصاديًا خلال المرحلة القادمة». فقد اكتسبت منطقة آسيا / المحيط الهادئ خلال السنوات الأخيرة مزيدًا من الأهمية الإستراتيجية باعتبارها من أكثر مناطق العالم ديناميكية بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي إليها، وبعد أن أصبحت أحد المحركات الأهم في الاقتصاد العالمي وفق توقعات بنك التنمية الآسيوي الذي رأى أن الناتج المحلي لآسيا  سينمو من 20 تريليون دولار في الوقت الحاضر إلى 148 تريليون دولار في العام 2050.
شكلت عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة نقطة تحول مهمة في الإستراتيجية العسكرية الأميركية، ومؤشرًا واضحًا على تنامي أهمية المنطقة في رؤيتها الإستراتيجية  المركزية للمرحلة القادمة  التي ربما تكون طويلة. وهذا ما أكده الرئيس أوباما عندما قال بوضوح: «إننا هنا لنبقى»، وهذا ما كشف عنه أيضًا وزير الدفاع الأميركي  الأسبق ليون بانيتا عندما صرح من فييتنام عن نية الولايات المتحدة نقل نحو 60% من قدراتها العسكرية البحرية إلى منطقة آسيا/الباسيفيك بحلول العام 2020،  بما في ذلك توزيع السفن العابرة للمحيطات والسفن المدمرة والغواصات. كما قال إن الولايات المتحدة  سترفع عدد حاملات الطائرات في المنطقة إلى 6 حاملات، علمًا أنها زادت عدد قواتها  في أستراليا ليصل إلى 2500 جندي بالإضافة إلى قواتها المرابطة في اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين ومناطق أخرى. وفي موازاة ذلك وقّعت واشنطن مع دول المنطقة «معاهدة الشراكة العابرة للباسفيك».

 

بحر الصين بعيون دولية
 إن تنامي القوة الاقتصادية الصينية  وتربعها على عرش ثاني أكبر اقتصادات العالم ، وما رافقه من تنامي القوة العسكرية الصينية والبحرية منها  بشكل خاص خلال السنوات الأخيرة، أدى إلى تغيير واضح في السلوك الدبلوماسي الصيني الذي كان يتسم بالمرونة ويرفع شعارات الصعود السلمي والانسجام الدولي، ليصبح سلوكًا أكثر صلابة وحدّة تجاه نزاعاتها الحدودية مع معظم جيرانها وبخاصة اليابان. وقد سعت الأخيرة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية والتوجه نحو قوى آسيوية أخرى بما فيها الهند، المنافس التقليدي للصين إضافة إلى أستراليا. كما سعت اليابان إلى تعزيز علاقاتها الأمنية مع بعض دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي لديها نزاعات حدودية بحرية مع الصين، مثل الفيليبين وفييتنام وماليزيا وبروناي، وحثتها على إثارة قضايا نزاعاتها مع الصين في البحر الجنوبي. وبالمقابل توجهت الصين نحو تمتين علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع روسيا  ودول البريكس ومنظمة شنغهاي.

 

استراتيجية الباسيفيك الأميركية
إن اتساع رقعة الوجود العسكري والنفوذ الأميركيين في منطقة آسيا بعد قرار الإدارة الأميركية الانسحاب من العراق وأفغانستان، وإعادة التموضع في آسيا والمحيط الهادئ، أثار قلق الصين وأيقظ هواجسها  وبخاصة مع عودة الحديث عن نظريتي «الخطر الصيني» و«احتواء الصين». لكنه  شكل في الوقت ذاته بالنسبة لكثرة من الدول الآسيوية (التي كانت تجد نفسها بين نارين أو «شرَّيْن» أحلاهما مرّ، وهما الحساسية المفرطة من ماضي اليابان والخشية الحقيقية من مستقبل الصين، طوق نجاة ومنحها هامشًا إضافيًا من المناورة والاستفادة من اللعب على تناقضات الكبار وعلى حبل التوازن الإستراتيجي بين المثلث الجديد للقوى في المنطقة، أي الصين واليابان والولايات المتحدة.
هذه التحولات الداخلية والإقليمية والدولية لدى القوى الفاعلة في المنطقة  وبخاصة الصين، دفعت الولايات المتحدة للقيام بمحاولات لرسم خارطة جديدة تعبّر عن طموحاتها وتطلعاتها الإستراتيجية، على ضوء المتغيرات الجارية. وهكذا ينظر  البعض اليوم إلى بحر الصين الجنوبي باعتباره مسرح  كباش واختبار للمنافسة الصينية – الأميركية.

 

الرؤية الصينية  للأزمة
كانت الصين تمتلك ثقة كبيرة في إدارة مثل هذه الأزمات باعتبارها أكبر دول المنطقة وأقواها عسكريًا واقتصاديًا، وكثيرًا ما كانت تنجح في احتوائها وتهدئتها أو وأدها في مهدها. فقد جنحت للسلم والتفاوض حينًا واستخدمت الترهيب أحيانًا، ولجأت إلى الورقة الاقتصادية أحيانًا أخرى لممارسة الضغوط، ذلك أنها كانت تواجه دولًا صغيرة. أما اليوم  فإنها بدأت تعيد  قراءة حساباتها لأن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة أصبح واقعًا ملموسًا وداعمًا لعدد من دول الجوار الصيني. ولذلك باتت الصين تصرّ على أن النزاعات والخلافات القائمة بين دول المنطقة هي شأن إقليمي، وأن الدول المعنية قادرة على إيجاد الحلول لها بعيدًا عن أي تدخل خارجي، في إشارة واضحة إلى التدخل الأميركي.
وقد «اغتنمت» الصين أجواء التوتر هذه للإعلان عن دخول أول حاملة طائرات صينية حيز الاستخدام الفعلي في احتفال مهيب، وهذه الخطوة لا تخلو من الرمزية وتحمل في ثناياها أكثر من رسالة للقريب والبعيد.
فالصين دخلت بذلك إلى مصاف القوى الدولية الكبرى كآخر عضو في مجلس الأمن الدولي يمتلك حاملة طائرات، كما أن إطلاق اسم «لياو نينغ على هذه الحاملة لا يخلو من رمزية أخرى، فهو إسم إحدى المقاطعات شمال شرق الصين التي كانت أول المناطق التي خضعت للاحتلال الياباني.

 

الاستراتيجية الصينية: من حماية الحدود إلى حماية المصالح
يعتبر بعض المحللين الاستراتيجيين أن  إعلان الصين  استراتيجية «المياه الزرقاء» و قرارها الشروع في الحصول على حاملات الطائرات، نقطة تحول مهمة في العقيدة الإستراتيجية الصينية التي كانت تاريخيًا قائمة على أساس «حماية الحدود»، وتحولت الآن إلى «حماية المصالح» والانتشار في البحار العالمية .  فقد سعت منذ سنوات إلى بناء قواعد عسكرية للغواصات في مناطق جنوب الصين وهي تسابق الوقت لحيازة 80 غواصة متطورة بحلول العام 2020 (أي ما يوازي قدرة الولايات المتحدة). ووفق تقديرات عسكرية فإن الصين ستمتلك حتى ذلك الوقت ما يزيد على 700 قطعة بحرية مزودة أحدث أنواع الصواريخ وأجهزة الاتصال والتوجيه. كما أن الصين لم تعد تخفي محاولاتها الدؤوبة للحصول على مواطىء أقدام وموانىء في مناطق بعيدة عن أراضيها، كباكستان وبنغلاديش وسيريلانكا وموريشيوس (استراتيجية عقد اللؤلؤ في المحيط الهندي). وهي تشارك بشكل فاعل في عمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن وبحر الصومال وفي العديد من عمليات الامم المتحدة في مختلف أنحاء العالم.
وكل هذه مؤشرات واضحة على إدراك الصين لأمرين: أولًا أهمية القوة العسكرية البحرية في تدعيم هيبتها واقتصادها، فالبحر كان يشكّل الخاصرة الرخوة التي أتت منها كل القوى التي احتلت الصين في فترة لا تزال تشكّل عقدة للكبرياء الصينية. وثانيًا، حقيقة أن معظم القوى الدولية التي امتلكت القوة والنفوذ عبر الزمن لم تصل إلى ذلك إلا بعد امتلاكها لقوة بحرية ضاربة ولأساطيل ضخمة.


احتمالات المستقبل
إن عودة واشنطن إلى المنطقة جعلت المنافسة الإستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة أمرًا حتميًا، والمواجهة بينهمــا باتــت متوقعــة ووشيكــة. ولكــن كيــف ستكون هذه المواجهة؟ بالوكالة وعن بُعد؟ أم أنها قد تتحول بشكل مفاجىء ودراماتيكي إلى مواجهة مباشرة محدودة أو موسعة؟ أم ستكون الغلبة للغة العقل وتفعيل دبلوماسية المصالح المتبادلة، أو تطبيق قواعد القانون الدولي، أو اعتماد استراتيجية ربح  لجميع الأطراف؟ المستقبل يجيب...


المراجع:

- ar.wikipedia.org/wiki/بحر_الصين _ الجنوبي
- arabic.euronews.com
- www.skynewsarabia.com/.../tag?...بحر%20الصين%2
- elaph.com/Web/News/2014/5/903504.html?entry