العرب الأميركيون قبل 11 أيلول وبعده: ماذا تغيّر؟

العرب الأميركيون قبل 11 أيلول وبعده: ماذا تغيّر؟
إعداد: روديارد قازان
باحث

“أيها الأمير, لا تخشَ صولة الكبار ولا قوّة جيوشهم فهي زائلة. لكن إياك أن تذلّ الشعوب وتمسّ سمعتها وقيمها الحضارية ومقدّساتها, أو أن تحطّ من كرامة أتباعها. فكرامة الإنسان جزءٌ من كينونته, وذاكرة الشعوب لا تنسى لأنها حيّة وعميقة, وما يسجّله التاريخ لا يمحى...”
من نصيحة أسداها مكيافيللي لأمير توسكانة ودوق دوربينو

بعد الحادي عشر من أيلول تخطّت أحداث الشغب والعنصرية التي ارتُكبت ضد العرب الأميركيين في مختلف ولايات أميركا الـ960 حالة حدثت فقط خلال الأسابيع الستة الأولى التي أعقبت العملية الإرهابية التي طالت المجتمع الأميركي المدني في عقر داره. وقد شملت هذه الأعمال الإنتقامية العرب على مختلف جنسياتهم الأولى ومشاربهم ومواقفهم, كذلك تمّ الإعتداء على العديد من بيوت الله من كنائس ومساجد ومراكز دينية, ونتج عن ذلك مقتل العديدين من الأبرياء فضلاً عن خسائر مادية جسيمة, الى شرخٍ عميقٍ في عملية التعايش التي كانت حاصلة بين العرب الأميركيين في ما بينهم, وبينهم وبين المجتمع الأميركي الكبير الذين هم جزء فاعل منه, هذا مع أن العرب عموماً ولا سيما منهم العرب الأميركيون دانوا بشدة ما تعرّضت له (بلادهم) الأميركية خلال اعتداء 11 أيلول الإجرامي, وتصرّفوا كما يمكن أن يتصرّف أيّ أميركي, واعتبروا أنفسهم في طليعة المستهدفين باعتبارهم مواطنين أميركيين مثل جميع جيرانهم.
في هذه الدراسة سنحاول سبر الموقف الأميركي وتحديداً موقف الرأي العام الأميركي من هؤلاء (الأميركيين) قبل 11 أيلول وبعده, كذلك سنبحث في تصرّف العرب الأميركيين حيال مواقف جيرانهم ومواطنيهم, مع الإشارة الى أن العرب الأميركيين يشكّلون جزءاً أساسياً وفاعلاً من المجتمع الأميركي, وهم ساهموا وما زالوا في عجلة الإنتاج وعملوا كما غيرهم على تطوير المجتمع الأميركي الذي كانوا ­وقبل أحداث 11 أيلول­ جزءاً منه وفعالية ضمن آليته الإجتماعية والسياسية.

المجتمع العربي في أميركا الشمالية
ربما كانت هجرة العرب الى أميركا تعود الى ما قبل قرن من الزمن أو أكثر بقليل وهي شملت العرب من مشارقهم ومغاربهم, علماً أنهم يعدّون هناك حالياً أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. إلا أن غالبية هؤلاء الذين كانوا انتقلوا الى أميركا مع بدايات القرن, إنما كانوا من المسيحيين في سوادهم الأعظم, في حين جاء دور المسلمين بالإنتقال والهجرة الى “العالم الجديد” على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. ذلك أن “النير التركي” والظلم الفظيع الذي أنزله الأتراك بالبلاد العربية التي احتلوها, والمصاعب الإقتصادية الهائلة التي أوقعوا فيها المواطنين في مختلف حواضر وأرياف المشرق العربي, أدّت بالقادرين من هؤلاء العرب جميعاً الى “الهرب” الى أقاصي الدنيا. وكانت القارة الأميركية, ولا سيما الجزء الشمالي منها, مقصدهم المفضّل.
الواقع أن العرب عموماً لم يصلوا الى البلاد الأميركية الا بشقّ النفس في معظمهم, كما أنهم لم يجدوا في تلك البلاد من يفرش لهم “ البساط الأحمر” بل على العكس من ذلك لاحقتهم المصاعب والأزمات, وإن كانت مشاكلهم المستجدة على الأراضي الأميركية, غير المشاكل التي أنتجها الحكم التركي في بلادهم التي غادروها. والى هذه المصاعب الحياتية التي ينبغي اعتبارها اعتيادية, فقد عانى هؤلاء المهاجرون من مواقف سلبية اتّخذتها ضدّهم التجمعات الأثنية في الولايات المتحدة الأميركية التي رأت فيهم منافسين على لقمة العيش. ولا بد من الإشارة هنا الى أن المجتمع الأميركي لم يكن في تلك المرحلة يحسن التمييز بين العرب والمسلمين, فكان يعتبر كلمة عربي مساوية لكلمة مسلم, وينظر الى العرب على أنهم جميعاً من المسلمين وهي النظرة نفسها التي نظرها هذا المجتمع الى المشرقيين عموماً من إيرانيين وأتراك...
وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى كان العرب في أميركا الشمالية يشكّلون مجموعات منخرطة في أنشطة معيشية متواضعة ويمارسون أعمالاً تتطلّب الإنتقال المستمرّ وينالون بالتالي أجوراً ضئيلة.

والحال أن عدداً كبيراً منهم بدأوا أعمالهم في البلاد الأميركية ضمن ما يمكن اعتباره ميدان التجارة المتنقلة: كانوا يحملون “الكشّة” وفيها أغراض شتى صغيرة يمكن حملها, وذلك بتمويل من بعض الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء ممن كانوا قد سبقوهم الى البلاد الأميركية, ثمّ يمضون ببضائعهم هذه باحثين عن الشّارين من بيت الى بيت ومن مدينة الي مدينة ومن ولاية الى ولاية. كان هدفهم الأول كسب المال بسرعة ومحاولة تحقيق حلم الثروة في أقصر فترة ممكنة, يحدوهم الى ذلك هاجس مساعدة عائلاتهم في الوطن والعودة في ما بعد الى القرى التي هاجروا منها وظلّت ذكرياتها حسرة في قلوبهم. وفي سبيل توفير المال والمزيد منه, كانوا يمسكون عن الإنفاق ويكتفون من مهرجان الحياة بأبسط صوره ويلوذون في منازل متواضعة. لذلك كان وجودهم في أميركا يلفت الأنظار بينما كانوا ­بحسب اعتقادهم على الأقل­ يعتبرون إقامتهم مؤقتة وبالتالي لا يعيبها مثل هذه الأمور. وحدث أن اشتدّت مصاعب الأهل في بلاد المنشأ واستمرت الحروب والمشاحنات وانقطع هؤلاء المهاجرون عن أوطانهم فلم يعد أمامهم سوى تحويل إقامتهم المؤقتة في أميركا الى اقامة “حتى إشعار آخر”. وبمعنى مختلف فقد تغيّرت إقامتهم من مؤقتة الى شبه دائمة وبالتالي فقد راحوا يبنون على هذا الأساس, لا سيما وأن خيارهم كان أحادياً: فبين البقاء في أميركا كمواطنين ولو, في بلاد الغربة, أو الرجوع الى الموطن الأصلي, ودون ذلك كلّ الصعوبات فقد اختاروا مكرهين البقاء وعملوا على ترسيخ أقدامهم منذ ذلك الحين.
والواقع أنّ هذه الذهنية “وطّنت” هؤلاء الأميركيين على فكرة البقاء في المهجر وربما دفعت الكثيرين منهم الى التعامل مع هذا المهجر على أنه الوطن البديل أو بالأحرى الوطن الثاني. لذلك فبعد أن انتهت أزمنة الحروب العالمية في بلادهم الأساسية التي هاجروا منها فقد حافظوا في معظمهم على نية البقاء في أميركا واعتبروها بلداً للإقامة وراحوا يتحوّلون من عابرين الى ثابتين ليصبحوا سنة بعد سنة, وعقداً بعد عقد, جزءاً أساسياً وفاعلاً ولا يتجزّأ من المجتمع الأميركي.
وبالطبع فإن إحدى أبرز القضايا التي كان على هؤلاء العرب الأميركيين التعامل معها كانت قضية الهوية. فهم عربٌ بقدر ما هم أميركيون, وليسوا مبدئياً في وارد التخلّي عن عروبتهم كما أنهم ليسوا مستعدين للتخلّي عن امتيازهم المستجدّ كأميركيين. من هنا كان اجتهادهم العام للموالفة بين وضعهم الثنائي من دون إلحاق أي أذى بصورتهم الذاتية أو بصورتهم الإجتماعية. إلا أن حسابات الحقل لم تكن دائماً متطابقة مع حسابات البيدر. فلئن كانت نوايا العرب الأميركيين إيجابية إلا أن ظروفهم كانت سلبية. ذلك أن الأثنيات الأخرى التي كانت متمكّنة داخل المجتمع الأميركي رأتهم مختلفين وبالتالي لم تقف منهم الموقف الذي كان يمكن أن يساعدهم على “الذوبان” في ذلك المجتمع, بل إن اشتداد حركة التمييز ضدّهم من قبل بعض الأثنيات الأخرى جعلهم يرتدّون الى ذواتهم ليتآلفوا مشكّلين بدورهم جماعة أثنية متميّزة. وهذا اضطرّهم في أحيان كثيرة “الى أخذ مسافة” من المجتمع ( الاخر) الذي يعيشون فيه وذلك ردّاً على الجفاء الذي واجههم به ذلك المجتمع.
ولعلّ هذه المرحلة كانت بمثابة اللبنة الأساسية التي انطلقت منها البروباغندا الصهيونية فيما بعد لتبني سدّاً كبيراً بين المجتمع الأميركي­الغربي والعرب الأميركيين الموجودين فيه.

الجماعة العربية­ الأميركية عام 1990
بعد أكثر من قرن على هجرتهم يتبيّن بوضوح أن الأسباب الأساسية التي دفعت بالعرب عموماً للهجرة الى أميركا لا تختلف بكثير ولا بقليل عن تلك التي حدت ببقية المجموعات الى الهجرة أيضاً. وغنيّ عن البيان أن المجتمع الأميركي الحالي, ما هو إلا نسيج مختلف الخيوط لقماشة واحدة عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة وثقافة السلطة والإدارة والشارع الأميركي على نسجها والمحافظة على تآلفها وانسجامها وتماسكها.
ذلك أن الجميع من عرب وطليان وإسبان وأرمن ويونان وروس وأوروبيين عموماً... إنما كانوا قصدوا أميركا لأسباب كثيرة تبدو للوهلة الأولى متنوعة كثيراً, لكنها في الحقيقة متشابهة تماماً: الهرب من الفقر, ومن الحروب ومن المشاكل, وطلب المغامرة, والحلم بتحقيق ثروة سريعة, وحبّ العيش في بلاد متقدّمة, ثم تذوّق الحياة بمجتمع سمعوا كثيراً عن احترامه للإنسان وقيم الحياة والحرية والعدل.
وللإنصاف لا بدّ من الإشارة الى أن العرب الأميركيين, واللبنانيين تحديداً, من بين كل الأثنيات الأخرى, حققوا مآثر هامة تسجّل لهم في كتاب الحياة الأميركية. فمنذ العام 1960 وهم يتمثّلون كأميركيين بممثل واحد على الأقل داخل الكونغرس. واللائحة ليست خفية (جيمس أبو رزق, ماري روز عوكر, نك رحّال...), كذلك توصّل آخرون منهم الى مناصب الحاكمية منهم مثلاً فيكتور عطية الذي كان حاكم ولاية, وتوصّل آخرون الى الإقتراب أكثر من مركز السلطة فصاروا أعضاء أساسيين ضمن فريق البيت الأبيض مثل جون سنونو. وهذا يعدّ شهادة ثقة متبادلة بين هؤلاء المهاجرين والبلاد التي هاجروا إليها.
الى ذلك يمكن القول أن العرب في البلاد الأميركية لم يتفوّقوا على أنفسهم وحسب, بل تفوّقوا أيضاً على أبناء العديد من الأثنيات التي سبقتهم الى تلك البلاد وذلك في مختلف الميادين من سياسية واقتصادية وعلمية أيضاً. وتشير دراسات أميركية المصدر الى أنه ما بين العامين 1980 و1990 بلغ العرب الأميركيون في مجال التربية مستوى يفوق ما بلغه سكان أميركا بأجمعهم. ولئن كان هؤلاء في العموم أكثر ارتباطاً بتقاليدهم الأولى التي ورثوها عن آبائهم المهاجرين الأوائل, إلا أن هذا الإرتباط لم يبلغ حدّ التزمّت, بل على العكس من ذلك فإن النسبة الأعلى من العرب­الأميركيين في أميركا صاروا أميركيين قالباً وإن ظلّوا عرباً قلباً, وساعدتهم ظروفهم واهتماماتهم على الموازنة بين الحدّين.
وهذا أيضاً ما أحسنت البروباغندا الصهيونية استثماره حين واتتها الفرصة, فشنّت حملات واسعة وما تزال هدفها إيجاد شرخٍ بين العرب الأميركيين وأميركا من جهة وبين العرب عموماً والغرب الأميركي وغير الأميركي.
 

موقف الرأي العام الأميركي من العرب في ظلّ 11 أيلول
تشير معلومات صحفية واسعة الإنتشار في الولايات المتحدة الى أن الرأي العام الأميركي خلال العقود الأخيرة كان مشحوناً بآراء بالغة السلبية تجاه العرب. والسبب الأساسي في ذلك ليس سوء العرب ولا سذاجة الأميركيين بل هو ما يمكن تسميته, وعن حقّ “المؤامرة الصهيونية”. فالمنظمات الصهيونية كانت وما زالت تتآمر فعلاً وعملاً لتصوير المجموع العربي بصورة أسوأ نموذج فيه. والمعروف أن لا شعب على الأرض من الأنبياء بل إن في كل أمة الصالحون والطالحون, والأمم لا تتمثّل إلا بالصالحين فيها لأنها عموماً تتشارك مع الصالحين الآخرين في بقية الأمم لمحاربة الطالحين فيها. وكانت البروباغندا الصهيونية وما تزال تبحث عن المثالب التي تبدر في سلوك أي عربي لتعممها على العرب أجمعين. وإن عزّ عليها العثور على مثلبة من هذا النوع, “أنتجت” عربياً بمظهره ودفعته الى سلوك مشين هادفة الى وصم العرب عموماً بهذا السلوك. فالصهيونية كانت تعمل في المجتمعات الغربية عموماً وفي المجتمع الأميركي خصوصاً, لكنّ عينها كانت في فلسطين التي اعتبرتها “إسرائيل” وعملت بكلّ جهودها وقواها التي لا يستهان بها لتصوير أعداء اليهود في الشرق الأوسط وأقاربهم في الغرب عموماً, على أنهم أعداء للغرب وللحضارة ولقيم الحرية والنزاهة والإستقامة والعدل والإيمان.
لذلك فإن الرأي العام الأميركي لم يكن “واقعاً في حب العرب” إبّان أحداث 11 أيلول الإرهابية. ولذلك أيضاً أكّدت الإحصاءات التي تمّت منذ ذلك التاريخ على ارتفاع الأصوات الأميركية المعادية للعرب في الأساس. ولوحظ أن آراء الأميركيين الأقل عدوانية والأكثر مسالمة وصداقة للعرب, صارت أقلّ إيجابية تجاههم. وفي استطلاع للرأي نشرته أكثر من صحيفة أميركية تبيّن أن ثلاثة من كلّ عشرة أميركيين أكّدوا أنهم سمعوا خلال الأسبوعين الذين أعقبا حوادث 11 أيلول بأخبار سيئة عن حوادث إجرامية تمّت بأيدي عرب, وأيّد 60 بالمئة من هؤلاء فكرة تنفيذ تدابير أمنية متشدّدة تجاه العرب عموماً وتجاه كلّ أميركي من أصل عربي, حتى تثبت براءته.
والحال أن تاريخ استطلاعات الرأي الحديثة نسبياً في أميركا دأب على أن يعطي عن العرب عموماً صورة سلبية, فمنذ العام 1993 دلّت دراسة استطلاعية أجراها مركز “غالوب” على أثر عملية التفجير ضد مركز التجارة العالمي في أميركا أن 39 في المئة فقط من الأميركيين ما برحوا يؤيدون العرب, مقابل 32 في المئة منهم يعادونهم ويقفون ضدّهم. وكان سبق لشبكة “اي.بي.سي” الإخبارية أن أجرت خلال حرب الخليج دراسة استطلاعية (شباط 1991) تبيّن لها من خلالها أن 43 في المئة من الأميركيين ينظرون بعين إيجابية الى العرب مقابل 41 في المئة منهم ينظرون بنظرة سلبية. أما النعوت التي أطلقها الأميركيون على العرب فجاءت على سلّم النسب المئوية كما يلي:
متديّنون 81%, إرهابيون 59%, عنيفون 52%, متعصّبون دينياً 56%.
وفي تموز 1993 بيّنت دراسة استطلاعية أخرى لمركز “غالوب” أن حوالي ثلثي الأميركيين يعتقدون أن ثمة مهاجرين “كثيرين جداً” يؤمون أميركا من البلاد العربية, مقابل 6% فقط يرون أن عدد هؤلاء القادمين من البلاد العربية ليس كبيراً, بينما رأى 6% أخرون أن عدد المهاجرين العرب الى أميركا هو عدد اعتيادي ومناسب. وكانت أعلنت هذه الدراسة ردّاً على كتابات صحفية أميركية (معروفة بأنها تعكس الرأي الصهيوني المتشدّد) كانت أفادت بأن من الضروري وقف تدفّق الهجرة الى أميركا التي باتت أقلّ مقدرة على الإستيعاب في ظلّ حالة الكساد التي تضربها (...).
وفي حين جاء المهاجرون العرب على رأس القائمة, فقد تبعهم مباشرة المهاجرون من أميركا اللاتينية ومن البلدان الأسيوية, وكذلك المهاجرون من أفريقا والبلدان الأوروبية. وفي دراسة ميدانية نشرتها مجلة “نيويورك تايمز” صرّح 60% من الأميركيين الذين طالهم الإستطلاع بأن “العرب الأميركيين يدينون بالولاء الى البلاد العربية التي جاءوا منها أكثر منهم للولايات المتحدة التي يقيمون فيها”.
وحتى بعد انفجار أوكلاهوما, رأى العديد من الأميركيين أن “المجموعات الإرهابية المسلمة” هي المسؤولة عن هذا العمل الإرهابي وذلك حتى قبل بزوغ فجر نتائج التحقيقات التي أشارت كما هو معروف أن المسؤولية الحقيقية عن ذلك الإنفجار تقع على عاتق منحرف أميركي لا يمتّ بأيّ صلة لا إلى العرب ولا الى الإسلام ولا الى الشرق الأوسط برمّته.
وفي شباط 2001 سأل مركز “غالوب” الأميركيين عن رأيهم بـ26 بلداً مختلفاً, فجاءت أربعة بلدان عربية في رأس قائمة البلدان التي لا تحظى بثقة الذين طالهم الإستطلاع, وهي: ليبيا, العراق, إيران والسلطة الفلسطينية, في حين حظيت دولتان عربيتان بالثقة هما المملكة العربية السعودية ومصر.
وهنا لائحة بالبلدان التي طالها الإستفتاء المذكور:



موقف الأميركيين من العرب بعد عملية أيلول
بعد أحداث أيلول, وبالتحديد في 14 و15 منه, عبّر 35 % من الأميركيين عن أنهم فقدوا ثقتهم بالعرب الذين يسكنون في أميركا, مقابل 63 % قالوا إن ثقتهم لم تتحوّل. إلى ذلك, قال واحد من كل ثلاثة أميركيين طالهم الإستطلاع إنه سمع جاراً أو صديقاً أو زميلاً له في العمل يذكر تعليقات سلبية تتناول العرب الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو أن الأحاديث التي تتناول العرب سلباً يتجاذبها الشباب الأميركي دون الخمسين من العمر, إذ أن أربعة من من أصل كل عشرة أميركيين دون الخمسين من العمر, قالوا إنهم سمعوا ملاحظات سلبية عن العرب الأميركيين, مقابل 18 % فقط فوق هذه السن قالوا أنهم سمعوا مثل هذه الأقوال.
ودلّت إحصاءات أخرى على أنّ أقلية من الأميركيين باتت تفكر في العرب بطريقة سلبية أو تظن أن هذا الشعور سيتفشى في البلاد سريعاً, بينما اعترف 27 % من الأميركيين بأنهم باتوا يشككون بالعرب الأميركيين. ولا يأمنون لهم كما كانوا يأمنون قبل حوادث 11 أيلول الإرهابية.
ومع أن الرئيس الأميركي أعلن أن الحرب الأميركية الجديدة ضد الإرهاب ليست حرباً ضد العرب ولا ضد الإسلام, إلا أنّ وزارة العدل الأميركية راحت تعامل العرب كما لو كانوا هدفاً لتلك الحرب. وهكذا راحت دوائر الشرطة الفيدرالية تحقق مع خمسة آلاف عربي في أحداث أيلول, علماً أن هؤلاء لم يخرقوا أيّ قانون بشكل مباشر, ولا كانوا متورطين بأي نشاط إرهابي, وبعضهم يعيش في الولايات المتحدة منذ سنين طويلة, لكن إخضاعهم للإستجواب كان لمجرد أنهم عرب, وليس لجرم محدّد إرتكبوه. ولقد جرى استجوابهم, بحسب الإتحاد الأميركي للحريات المدنية, حول معتقداتهم السياسية ومعتقدات أصدقائهم وأفراد عائلاتهم, وهي أسئلة تُطرح على المشتبه بهم لا على الشهود المحتملين. ومن المؤسف أنّ الإدارة الأميركية انتظرت أحداث أيلول لتطيح بالقيم كافة التي تدَّعي النضال من أجلها, وترتكب ما يندفع الإرهابيون لارتكابه.

 

ردود الفعل العربية
 
كانت ردود الفعل العربية قريبة من المثالية في تصدّيها للعنف الإرهابي الذي استهدف المجتمع المدني الأميركي, ولم يوفّر مختلف القادة العرب الكلام الصريح والقاسي ضد هذا النوع من الجرائم, معربين في كلّ مناسبة عن معارضتهم الشديدة له وتنديدهم به. ولم يكن موقف العرب الأميركيين أقلّ صراحة وتنديداً ووضوحاً.
ففي 12 أيلول 2001, إجتمع زعماء المجموعات العربية­الأميركية والأميركية المسلمة في واشنطن وخرجوا ببيان جاء فيه: إننا ندين بكل شدّة الهجمات الرهيبة التي ارتكبت ضد مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 أيلول, وإننا مصدومون وغاضبون من حصول عنف كهذا, ونشارك مشاعر مواطنينا حول هذه العمليات التي تطال الأميركيين دون تمييز. إننا نؤمن تماماً بأن ما من شيء يمكنه تبرير أعمال رهيبة كهذه. لذا فإننا نضمّ أصواتنا إلى أصوات الأمة في الدعوة إلى إحالة مرتكبي هذه الجريمة البشعة على القضاء. وإننا نُثني على تصاريح المدعي العام “جون أشكروفت” وسكرتير الدولة للشؤون الخارجية “كولين باول” وجميع أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس الذين حذّروا من محاولة تحميل العرب مسؤولية الكارثة, ونحثّ إخواننا الأميركيين والحكومة في واشنطن ووسائل الإعلام الحرة في البلاد كافة على الإقتداء بهم وعدم تحميل المجموعات السكانية أية مسؤولية جماعية بسبب جرائم يرتكبها أفراد شاذون.
(وتلي التواقيع):


Committe American - Arab Anti- Discrimination
Arab American Institute
American Committee on Jerusalem
American Muslim Alliance
American Muslim Council
 Center of Policy Analysis on Palestine
Council on American Islamic Relations
 Islamic Institute


وفي 13 أيلول, أي بعد يومين من الإعتداء, وفي لقاء مع مساعد المدعي العام الأميركي “رالف بويد”, بلّغ مسؤولون في المنظمات المذكورة أعلاه عن حدوث 200 عملية اعتداء موجّهة ضدّ أفراد عرب أو مسلمين, وهي تتدرج من رسائل بذيئة إلى تعديات على الممتلكات الى اعتداءات جسدية.
وعقب الإجتماع, صرح المدعي العام: “منذ يوم الثلاثاء, تلقت وزارة العدل تقارير عن حصول تعديات ضد عرب أميركيين وضد آخرين ذوي أصول شرق أوسطية الى أفراد من جنوب آسيا. إن علينا ألاّ نهبط إلى مستوى أولئك الذين ارتكبوا عمليات العنف المذكورة بتعرضهم لأفراد بسبب عرقهم أو دينهم أو أصلهم القومي. إن مثل هذه الأعمال تتناقض تماماً مع قواعد القانون الذي يحترمه رجل الشارع الأميركي كما تحرص السلطات على العمل به وحمايته وفرض احترامه.
وفي حين حاولت أقلية ضئيلة أن تنحي باللائمة على المسلمين الأميركيين من عرب وآسيويين بسبب أحداث أيلول, ذكّر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الشعب الأميركي: “إننا فعلاً أمة واحدة”, وحرص على التعبير عن ذلك مراراً وتكراراً هو وأفراد إدارته مؤكدين أن مثل تلك التجاوزات لا يمكن التغاضي عنها.
وفي 26 أيلول, إلتقى الرئيس الأميركي المسؤولين عن الجاليات العربية والمسلمة في أميركا, وتركّز البحث على عواقب أحداث أيلول. وخلال اللقاء, حرص المسؤولون على شكر الرئيس بوش على الجهود التي بذلها لتوحيد الأمة وحماية حقوق الجاليات العربية والمسلمة في أميركا, فوعدهم الرئيس بأن المسؤولين الأمنيين لن يتوقفوا عن التنسيق مع المسؤولين في الجاليات العربية والمسلمة لمعالجة الأمور والحيلولة دون تفاقمها ووقف التعديات. وقد ذكّر هؤلاء رئيس البلاد بأن أبناء الجاليات العربية والمسلمة يخدمون أميركا سواء في الجيش أم في سلك القضاء أم في الدوائر الحكومية عامة أم على مستوى عجلة الإنتاج الثقافي والإقتصادي... وأنهم فخورون بذلك وسوف يلبّون نداء الواجب على الدوام .
 

لماذا ينظر الرأي العام الأميركي سلباً إلى العرب؟
حتى أمسٍ قريب كانت, غالبية الأميركيين لا تفهم العرب كشعبٍ وحضارة. وهذا الأمر برأينا ليس نتيجة الجهل ولا مرّده إلى مشكلة الشرق الأوسط وما نتج عنها من خلافات ونزاعات, بل هو مشكلة متجذّرة لدى الشعب الأميركي ولها جذورها التاريخية فضلاً عن أسبابها المادية المتعلّقة بالبروباغندا المعادية للعرب في أميركا.
والواقع أن المجتمع الأميركي كان في الأساس يكنّ شيئاً من العداء للسامية, وذلك قبل أن يحتكّ هذا المجتمع بالعرب أو بالشرق أوسطيين عموماً, وذلك كردّ فعل مباشر على تعاطيه مع اليهود وعلى التأثير السلبي الذي خلّفه اليهود في اليقين الأميركي كما في يقين كلّ شعب عايشوه وعاشوا بين ظهرانيه. ولم يلبث هذا العداء الذي كان مكرّساً ضدّ اليهود أن شمل العرب أيضاً باعتبارهم ساميين. والمعروف أنه ومنذ العصور الوسيطة, كان يُنظر إلى الوجود العربي واليهودي كوجود معادٍ يشكّل خطراً على الغرب بأسره. ونتج عن ذلك أن الشعبين عانيا على مرّ التاريخ من هذا الموقف المعادي, ولا يزال هذا الأمر قائماً حتى الآن وإن بصورة أقل حدّة وصراحة. ويجري اتهام العرب واليهود بأنهم لا يشاطرون الغرب قيمه ومثله, ولا ينفكّون عن دسّ الدسائس عليه. ولكن في حين يُتّهم اليهود بأنهم بخلاء وفوضويون عنيفون ومشجعون للشيوعية, بات العرب يُتّهمون بشكل أساسي بالإرهاب وبالمسؤولية عن تشجيع الحركات الإرهابية الدولية.
ثم أن هناك بعض الإيديولوجيين الذين ينطلقون في حملة ترمي إلى تصوير الإسلام على أنه “فزَّاعة خضراء” جاءت تحلَّ محلَّ الشيوعية كتهديد قومي للولايات المتحدة وللغرب عموماً. وبالنظر الى أن الرأي العام الأميركي (المتأثر بالدعاية الصهيونية) يخلط بين العرب والإسلام, فقد تواصلت عملية تصوير الإسلام ككلٍّ غريب يتعارض مع القيم الأميركية ويشكّل تهديداً لنمط الحياة الأميركي والغربي عموماً. وهذا ما يمكن اعتباره أحد الأسس التي أقام عليها “هنتينغتون” نظريته في صراع الحضارات.
ثم إن الثقافة الشعبية تساهم في تعزيز هذه الصورة السلبية. فغالبية الكتب الدراسية المخصصة للطلاب الأميركيين في المرحلة الثانوية تستمرّ في عدم إيلاء التاريخ العربي والحضارة العربية أي اهتمام, وتعمل على تقديم الشرق الأوسط من وجهة نظر واحدة هي بالطبع معادية... لحقيقة الأمر. زد على ذلك أن الأفلام الأميركية والكتب والبرامج التلفزيونية وحتى أفلام الكرتون السياسية, لا تنفك ترسم عن العرب صورة سلبية تماماً وتساوي الكلّ بالمثل الأسوأ.
وغنيَّ عن البيان إنَّ غياب أي مظهر إيجابي للعرب من وسائل الإعلام الأميركية, منع الرأي العام الأميركي من رؤية تلك المجموعة الأثنية بأوجهها الإيجابية المتعدّدة وبخصائصها الذاتية الحقيقية. فالناس في أميركا لم يروا سوى أوجه متماثلة وكلّها سيئة للعرب والمسلمين في ذلك المجتمع المتنوّع. ولهذا السبب سارع الرأي العام الشعبي, يوم كان عليه أن يحدد الإرهاب والمسؤولين عنه, إلى الحكم بأن هذه الظاهرة المرفوضة والتي ينبغي محاربتها, إنما هي القاعدة في الإسلام وفي حضارة العرب, لا الشواذ الذي يرفضه ويحاربه العرب والمسلمون. وهذا بالطبع ليس “عبقرية” أميركية بل هو ثمرة مباشرة لصناعة الرأي العام الأميركي, هذه الصناعة التي تتكفّل بها المؤسسة الصهيونية لصالح أطماعها.
ولقد جاءت الأكاذيب الإسرائيلية لتصبَّ الزيت على النار. ومتى علمنا أهمية وسائل الإعلام الإسرائيلية وتلك الأميركية التي تقع تحت تأثيرها, أدركنا مدى الضرر الذي كان بإمكان هذا الإعلام المحرّف للحقيقة أن يُنزله بصورة العرب والمسلمين على حد سواء. وأبلغ دليل على ذلك هو تلك المعادلة الغريبة التي طلع بها الزعيم اليهودي حاييم وايزمان في العام 1936 عندما حاول التماثل بالغرب فقال عن الصراع الذي كانت تباشيره قد بدأت تلوح في المنطقة, إنه صراع ما بين “قوى الحضارة وقوى الصحراء” في إشارة لا لبس فيها الى أن قوى الصحراء تتمثّل بالعرب والمسلمين.
وهذه هي الرسالة التي ما انفكّ الإعلام الصهيوني على مدى نصف قرن يعمل على بثّها وزرعها في الفكر الأميركي بخبث لا يخلو من البراعة. وهذا تماماً ما فعله “ليون أوريس” في كتابه “إكزودوس” الذي تحوّل إلى فيلم سينمائي ناجح, وفحواه موضوع الصراع الأميركي في الغرب, ذلك الصراع المليء بالعداء والذي شكّل جزءاً أساسياً من تاريخ إنشاء أميركا الحديثة, وكذلك مواجهة الرواد الأميركيين الأوائل و”أبطال الكاوبوي” للهنود “المتوحشين” وإسقاط ذلك على حالة الصراع في الشرق الأوسط حيث يتواجه “الإسرائيليون الشجعان” ­كالأميركيين­ مع العرب “المتوحشين كالهنود”. وبالتالي يصبح الصراع العربي­الإسرائيلي مجرّد “عملية إبادة مبرّرة لمتوحشين تنبغي إزالتهم على أيدي أخيار شجعان” (!).

 

وبعد قيام إسرائيل, تواصلت هذه البروباغندا الكاذبة لتصوّر العرب إرهابيين أو داعمين لكل أنواع الإرهاب, واليهود شعباً خلاّقاً مسالماً وجديراً بالحياة. وحيث أن العرب لم يهتمّوا عملياً في دفع هذه التهمة ولا واجهوا البروباغندا الإسرائيلية ببروباغندا موازية, فقد انطبعت الصورة المزيّفة عن العربي والمسلم في الفكر الأميركي حتى باتت أمراً متعارفاً عليه, وصارت تحتاج الى جهد استثنائي متخصّص وطويل الأمد لإزالتها وتصحيح آثارها السيئة.
ولم يتوان الإعلام الإسرائيلي المضلّل عن التلاعب بالرأي العام العالمي والعربي بشكل خاص. ففي العام 1981 مثلاً وعقب قصف إسرائيل لمنطقة الفاكهاني السكانية في بيروت والتي ذهب ضحيتها 383 مدنياً بين لبناني وفلسطيني, بثّت الوكالات الأميركية من العاصمة اللبنانية مشاهد الطرقات المهجورة كعلامة لاضطراب حبل الأمن من دون إظهار أيٍّ من الضحايا أو حتى من أقاربهم, مغيّبة السبب الأساسي لخلوّ الشوارع, ومغيّبة بالتالي المبرّر الحقيقي والواقعي لالتقاط تلك المشاهد والذي هو القصف الوحشي الإسرائيلي بالسلاح الأميركي المتطوّر لمنطقة سكنية مزدحمة, وذلك فقط لمجرّد أنّ “مسلحين خارجين على القوانين” يتواجدون فيها رغماً عن رأي السلطات الرسمية وعن رغبة المواطنين المدنيين.
وحصل في اليوم نفسه أن سقط في إسرائيل قتيل واحد وخمسة جرحى في عملية فدائية, فتبارت الوكالات الأميركية إياها في تصوير مشاهد مثيرة للعواطف تصوّر أهل القتيل يبكون وينتحبون, وسيارات الإسعاف تنقل الجرحى وسط عويل الحضور, ما يترك في النفس انطباعاً بالغ الإيجابية حيال “الإسرائيلي الضحية”.
وحصل أمر مشابه يوم “مجزرة صبرا وشاتيلا” في العام 1982, فقد نقلت الوكالات الأميركية الحادثة بشكل عرضي بسيط وبأقلّ قدر ممكن من وجه الحقيقة: فلا أسماء ولا شهود ولا جثث بالأكوام ولا بطون مبقورة ولا أطفالاً مضرّجين... بل حقولاً من الصفيح وزواريب مظلمة غير واضحة المعالم. وكان الدرس واضحاً وضوح الشمس: فكلّ ضحايا هذه المجزرة ليسوا أكثر من “زائدة تمّت إزالتها لشفاء الجسم”, والأمر كلّه لا يستحقّ حتى لقب المجزرة(!).
إلا أنّ هذه الصورة السلبية للعربي التي انطبعت في الذهن الأميركي لم تبقَ على ما كانت عليه, وثمة تغييرات طرأت عليها جعلتها أقل سلبية وساهمت في تغيير أو تعديل الرأي العام الأميركي تجاه العرب وإن بشكل جزئي. فمنذ كمب ديفيد, والتعديات الإسرائيلية متواصلة على لبنان, فضلاً عن أحداث يوميات الإنتفاضة الفلسطينية, ثم قبول العرب بالإشتراك في مؤتمر مدريد, كلّها جعلت صورة العربي أخفّ حدة وأقرب الى صورة المحبّ للسلام. وفي هذا الجو باتت الرئاسة الأميركية (كلينتون وبوش) “ملزمة” بأن تنظر الى العرب نظرة أقل عدوانية وصارت تهنّئهم بأعيادهم الإسلامية, وتتلقى زيارات شبه منتظمة يقوم بها قادة الجاليات العربية والإسلامية للبيت الأبيض في محاولات متواضعة لإقامة علاقات وديّة.
صحيح أن هذه الطريق لا تزال طويلة أمام العرب الأميركيين لكسب ثقة الرأي العام الأميركي, خصوصاً بعد أحداث أيلول وعملية التشويش المركّزة التي رمت إلى إقحام العرب والمسلمين كلهم في مسؤولية ما حصل, إلا أن هؤلاء استطاعوا ولو جزئياً, لفت وسائل الإعلام إلى قضيتهم ونجحوا في أن يبرهنوا أنهم صاروا جزءاً من سياق عملية الحلّ السلمي في الشرق الأوسط, وأنهم كمجموعة بشرية, يحملون أفكاراً إيجابية ونوايا طيّبة واستعداداً للتعايش السلمي في المجتمع الذي “هربوا إليه”, وذلك عكس ما يصوّرهم به بعض قطاعات الصحافة الغربية. وبالنسبة للإرهاب, وخصوصاً ما جرى منه في 11 أيلول 2001, فقد نجح العرب في إبراز وجه مناهض للإرهاب ومدين له بشدة, ما يتناقض تماماً مع إدعاءات بعض الإعلام الغربي والأميركي على وجه التخصيص بشأنهم, وهو إعلام مسيّر بالآلة الصهيونية.

التحدَّي: مساهمة العرب في أميركا
ماذا بإمكان العرب الأميركيين تقديمه لأميركا وماذا عليهم أن يأخذوا منها؟
ثمّة أمور كثيرة يستطيع العرب الأميركيّون مدَّ الولايات المتّحدة بها, وأهمّها:

1­- القيم الإنسانيّة والروحيّة
تحتاج الولايات المتحدة اليوم إلى زخم كبير من القيم الإنسانيّة والروحيّة لإنقاذها من دوامة الضياع والفوضى التي يتخبّط بها المجتمع الأميركي. وهذه القيم متوفّرة لدى المواطنين الأميركيين من ذوي الأصول العربية بقدر ما هي متوفّرة لدى شعوب كثيرة أخرى. فالأميركيون العرب قريبون الى الدين عموماً, بمسلميهم وبمسيحييهم, ويتمتّعون بقيم مشرقية مشهود لها ومن شأنها إذا نُقلت الى الشعب الأميركي أن تعود عليه بالخير, وهو بالضبط ما يحتاج اليه الأميركيون في الوقت الراهن لتتمكّن حضارتهم من الإستمرار وهي تحمل من القيم ما يكفيها للبقاء, إذ ليس أقدر على وأد الحضارات والأمم من الفراغ الروحي والشحّ القيمي.


2­- القيم العائليّة
يؤمن العرب بالروابط العائليّة وبالعلاقات المتينة التي تجمع جيل الآباء مع جيل الأبناء. وليست الروابط العائليّة عند العرب مجرد علاقات بيولوجيّة أو إقتصاديّة, بل هي هذا كلّه إضافة الى كونها أيضاً من جملة الفضائل الإيمانية والأخلاقية عندهم. والمعروف أنّ العائلة الأميركية تفتقر غالباً الى هذا النوع من الروابط, وهو ما فطن إليه مؤخراً أهل الحلّ والربط في الولايات المتحدة, ما يفسّر الكتابات المتزايدة في هذا الإتجاه داخل أميركا.

 

3­- معنى الصداقة
تشكّل الصداقة أحد محاور الشخصية العربية. واليقين العربي مليء بالحكايا عن هذه القيمة بقدر ما هو مليء بالرغبة في تشجيعها والحثّ عليها, والصداقة عند العرب لا تكون مبنية على المصلحة بل على المزاج والرغبة وعلى كونها فضيلة اجتماعية ورسالة إيمانية في آن معاً. وما أحوج الأميركيين الى التقاط عدوى هذا النوع من الصداقة ليحلّ محل صداقات المجتمع “المتقدّم” والمبنية على المصلحة.


4­- ماذا يأخذ العرب من الأميركيين؟
يحتاج العرب الى سلة كبيرة من القيم الأميركية ليستفيدوا من العمل بها ومن تثميرها بما يمكّنهم من مجاراة روح العصر والتقدم حثيثاِ على طريق الرقي. أول ذلك احترام العلم كقيمة إلزامية وضرورية لركوب مركب الحياة مع الأخذ بعين الإعتبار القدرة الإستثنائية للعلم على التغيير نحو الأفضل. فالعلم هو مصدر الغنى والثقافة وهو أيضاً باني الحضارة. وبروز أميركا كدولة أولى بصناعاتها وتكنولوجياتها وتقدّمها الإستثنائي لم يكن ليحصل لولا احترامها للعلم كقيمة ينبغي العمل بها.
والى احترام العلم لا بدّ من تعلّم احدى أبرز مقومات بناء النهضة الأميركية نعني بها العمل بروح الفريق. فالعربي يعيش وحدته الذاتية وقلّما ينجح إلاّ بصعوبة في مشاركة آخرين أعمالهم ضمن دائرة عملٍ واحدة. ومعروف كيف أنّ العرب ينجحون وينبغون كأفراد ثمّ يختلط عليهم النجاح ويمتنع النبوغ حين يتعلّق الأمر بالعمل ضمن فريق. وهذا ما ينبغي عليهم تعلّمه, وما يمكنهم التقاطه من الشعب الأميركي.
إلى هاتين القيمتين الأساسيتين لا بدّ من تعلّم فضيلة احترام الرأي الآخر وبالتالي لا بد من إتقان فنّ الإستماع. فالعربي يتّهم غالباً بأنه “يحبّ صوته” ولا يحبّ أصوات الآخرين. وهذا عامل كابح للتقدّم بقدر ما هو مانع لفهم الآخر. والأميركي مدرسة في هذا المجال.

خلاصة
لا شك أنّ الكثير من الإيجابيات المسجلة للعرب الأميركيين من جهة وللعرب عموماً كأمة وللمسلمين كأصحاب وجهة نظر إيجابية, قد تعّرضت للإنهاك وربما للتدمير “بفضل” الجريمة الإرهابية التي ارتكبت في 11 أيلول وسجّلت بإسم المسلمين وبالتالي العرب. وسيكون أمام العرب والمسلمين جهد هائل ومدروس للنجاح في غسل هذه التهمة وإعادة إنتاج سمعتهم على حقيقتها, بعيداً عن رائحة الإرهاب وتهمة العداوة للغرب وللحضارة عموماً.
صحيح أنّ الأميركيين عملوا في زمن ماضٍ على القضاء على سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) لكن هذا لا يبرّر لأيّ شعب آخر أن يبتزّهم في هذه النقطة بالذات. وإذا كان الإسرائيليون اليوم يمارسون سياسة محاصرة الفلسطينيين ضمن “محميات” كما سبق للأميركيين أن فعلوا بالهنود الحمر, فإن هذه فرصة ينبغي على العرب استغلالها للفت انتباه الرأي العام الأميركي الى حقيقة ما يرتكبه الصهاينة, وبالتالي لجرّ هذا الرأي العام الى مساحة سلام مع أفكارهم المسبقة عن العرب.
والعرب وكذلك المسلمون ليسوا أبداً في وارد مناصرة ما يمكن تسميته بـ”اللادنية” نسبة لإبن لادن, وصحيح أنهم مع الحق الفلسطيني واللبناني والسوري والعربي عموماً في مواجهة الباطل العدواني الإسرائيلي, إلاّ أن هذا كلّه يحتاج الى أداة إعلامية فاعلة والى حملات متواصلة تصنع وجهاً جديداً وحقيقياً للعرب وللمسلمين على شاشة العالم. فالعرب والمسلمون المعادون للإرهاب بمختلف أشكاله ينبغي عليهم تقديم وجهات نظرهم هذه بوضوح وأيضاً بصراحة. ولا ينبغي احتضان الإحباط سلفاً على أساس أنّ البروباغندا الإسرائيلية أقوى, “فالحقّ أقوى” كما قال العرب منذ قديم الزمان. يبقى مواصلة هذه الطريق وخنق حالات التعصّب في مهدها لأن ضررها الأساسي سيصيب بلد المنشأ قبل أن يصل الى أيّ بلد آخر.
إن العرب الأميركيين يشكّلون اليوم شريحة لا يستهان بها ضمن مجتمع الولايات المتحدة, ولهم ثقلهم العملي والمالي والإقتصادي والإجتماعي والإنتخابي, ومن المناسب جداً بل من المطلوب استثمار هذا الثقل لصالح الإنسانية والحقّ والقيم لأنه بذلك يكون استثماراً خادماً للعرب وللمسلمين وللأميركيين وللإنسانية جمعاء.


مراجع اجنبية

- HANANIA Ray, Observation on the Aftermath of the September 11 Attacks. 15 important points to fight terrorism, www.hanania.com.
- HUNTINGTON Samuel P.,The Clash of Civilizations & the Remaking of World Order, Touchstone books, 1998
- Muslims Should be Good American Citizens, Middle East Quarterly, December 1996, Vol II, Number 4
- MUSTAPHA Nadia, Attacks on the US and World Future, islamonline.net, November 11, 2001
- SALEM Philip, Arabs in America. The crisis and the challenge, www. alhewar.com.
- SULEIMAN Michael, Arabs in America, Temple Univ Press, 1999
- Trois questions à... James Zogby, président de l'Institut américain arabe, Le Monde, 17 janvier 2002.
- ZOGBYJames, Are Arab Americans People like us?, Foreign Service Journal, May 2000.

مراجع عربية
الاعلام العربي في الولايات المحتدة, ألأهرام, 17 أيار 2002
ليسر اريك, التمييز ضد عرب اميركا, النهار, 23 حزيران 2002, عن الموند, ترجمة جمانة حداد


مواقع الانترنت

www.aaiusa.org. (Arab American Institute)

www.adc.org. (American Arab Anti discrimination committee)

www.raaonline.org. (Republican Arab American Congress)

www.uasaonline.org (Union of Arab Student Associations)