مبدعون من بلادي

الفرد بصبوص
إعداد: تيريز منصور

هكذا ينطق الجماد لغة يتردد صداها الجميل في كل مكان

ألف الإزميل والحجر، وعشق الصخر ورائحة الغبار، فحوّل الجماد الى كائنات ناطقة بالجمال والسحر. النحات والفنان المبدع الفرد بصبوص الذي غاب منذ أسابيع، هو صاحب تجربة غنية في عالم المبادرة والمغامرة والنحت المتميّز الذي بناه البصابصة الثلاثة، ميشال، ألفرد ويوسف.


رحلة حياة

على وقع صوت قلم الغزار وضربات الإزميل في الصخر البلدي، أبصر ألفرد بصبوص النور في العام 1924 في قرية راشانا التي أحبها وأصبح جزءاً منها، وهو الولد الثاني في عائلة بصبوص التي أنجبت فرسان النحت الثلاثة. أحب ألفرد بصبوص صوت قلم الغزار الذي كان والده الكاهن، يخط به رسوماً وآيات على شاكلة طيور وما شابه.
الصوت المتناهي اليه من غرفة الوالد، حضر في وجدانه أول الرؤى والتلاوين التي قادته الى درب الفن. وتأثر أيضاً بأخيه الأكبر ميشال، اذ ساعده في صقل بعض التماثيل وعمل الى جانبه فترات متقطعة مدة طويلة، تعلّم خلالها زحل وتقطيع حجارة الرخام. واستمرت المسيرة، فالأخ الأصغر يوسف تأثر بألفرد وعمل الثلاثة في بناء عمارة فنية مدهشة ساهم كل منهم فيها بأسلوبه.


الأرنب هرب من القفص

... «وفي أحد الأيام حمل اليّ أحدهم حجراً، ذلك الحجر صنعت منه أرنباً أكبر من حجمه الطبيعي. وكان أن مرّ أحد أمام بيتنا، فنادى الخورية (والدته) ليعلمها أن الأرنب هرب من قفصه». هكذا كان يخبر الفرد بصبوص عن بداياته ويتابع: «أنجزت في تلك الفترة منحوتة كل أسبوع لطراوة الحجارة التي عالجت فيها أشكالاً من الطيور والزواحف». ويتساءل: «لعلني عن غير قصد، أردت إحياء رسوم والدي التي شهدت صغيراً على إتلافها. وذات يوم وقعت على صورة إمرأة عارية في إحدى المجلات، فعالجتها على الصخرة بتصرف، ومددت حيّة على جنبها وأمسكتها تفاحة في يدها. كانت المرة الأولى التي أعالج فيها جسد الإنسان». معرضه الأول كان في غاليري أليكو صعب في ساحة الوردية سنة 1958، يومها بيعت كل أعماله في الليلة الأولى. وكتبت عنه الصحف في اليوم التالي: «الفرد بصبوص رودان الثاني».


التلميذ فنان خالص

بعد أن حصل على منحة من الحكومة الفرنسية، سافر الى فرنسا فالتحق بمتحف كولا ماريني. فزادت همومه همّاً آخر، وتذكر راشانا على عفويتها وطيبة أهلها.
وتنبّه كولا ماريني لموهبة ألفرد فقال له: «جئت تتعلم وأنت فنان خالص». وحين رأى أنه نفّذ خلال يومين رأساً لإمرأة شرقية علّق بقوله: «اذا كنت ستجز منحوتة في يومين، ستضطرنا الى فتح مقلع جديد في باريس». غرف بصبوص من عاصمة الفن والثقافة، ما استطاع بالنظر والحس والشعور، وأحسّ نفسه صغيراً كلما تعرّف على باريس والحضارة والنحت والتصوير فيها وكل الفنون الشاهدة على مئات السنين. تفاعل ضجيج باريس عنده عملاً ونجاحاً وحصل على منحة جائزة أفضل طالب نهاية العام. وقبل العودة إلى بيروت طُلب اليه وإلى أخيه ميشال أن يعرضا في متحف رودان، فأرسل كل منهما منحوتة وارتفع العلم اللبناني هناك للمرة الأولى. مسيرته الفنية تخللتها أسفار كثيرة تراكمت خلالها تجاربه ومعارفه وانتشرت أعماله في العالم. وثمة مجموعات خاصة له في كل من فرنسا وبلجيكا وانكلترا وسويسرا والمانيا والولايات المتحدة الأميركية واليابان والمملكة العربية السعودية والكويت ولبنان.


الساعي الى الجمال

يقول الفرد بصبوص: «لو اشتغل الفنان مئة سنة على المرأة، يجد في كل مرة أشياء جديدة»، لذلك نجد حضورها قوياً في أعماله. على أي حال، كان الجمال دافعاً دائماً له في عمله، سعى اليه وبحث عنه في كل منحوتاته أياً كان موضوعها: «الثنائي، العائلة، الأم والطفل، الحب والتأمل، الشباب، الانسجام، الخيال، والبعد الرابع». ينحت الفرد بصبوص الصخر والخشب والمعدن على أنواعه، لكنه فضّل الحجر بدرجة أولى وبعده يأتي الخشب ومن ثم البرونز. أما بالنسبة لأسلوبه فهو جمع بين الحداثة والمحافظة، وأعماله تعكس شخصية صاحبها اللبناني الفذّ، إذ تكاد تشمّ رائحة الأرز تنبعث من المنحوتات الخشبية.


راشانا والعالمية

شكل ميشال وألفرد ويوسف بصبوص، ظاهرة فنية أثارت الإعجاب والدهشة، وحوّلت راشانا القرية الصغيرة الى مدينة عالمية، بعد أن صارت صخورها أشكالاً وكائنات سحرية وحواساً تنبض في المطل الجبلي. فخلال السنوات الأخيرة باتت راشانا محترفاً فنياً عالمياً يأتيها النحاتون من مختلف أنحاء العالم في موعد يتجدد سنوياً، ويتبادلون خلاله تجاربهم ومعارفهم ويودعونها أعمالهم. وبذلك تحولت راشانا من معرض دائم لأعمال آل بصبوص الى ساحة فنية عالمية. وكان حلم ألفرد بصبوص في السنوات الأخيرة، أن تتحول ساحة حرة لمئة فنان من مئة بلد في العالم. هذه الأمنية النحتية هيّأ لها المساحات وزاد عليها أربعة آلاف متر مربع، الى نوافير الماء والحدائق والعشب الأخضر والأزاهير والخشب.


في الفضاء الواسع

كان ألفرد بصبوص يقول: «بعد كل ما قدمته أشعر أنني لم أزل أحبو في هذا الفضاء الواسع، ولو عشت عمراً ثانياً، سأظل أبحث عن إرضاء ذاتي لأنني غير راضٍ بعد، أبحث عن أشياء لم أصل إليها ولم أجدها. النحت لا يمكن أن أتوقف عنه بالرغم من أنه يتسبب بنوع من الأذى لصاحبه من الناحية الصحية لكن كيف تقولين لإنسان مغرم متيّم: ممنوع عليك الغرام؟». رحل مجنون راشانا الطيب والساحر، الذي تحرك كهواء الحرية في تلك الأعالي. رحل النحات الكبير ألفرد بصبوص بعد صراع مرير مع المرض، في الأول من كانون الثاني 2006، تاركاً رسالة حضارية وقيمة فنية ابداعية تردد صداها في غير مكان، وحاولت تجريد الفكر والعقل والروح، والتعامل مع مفهوم الحجر والجسد بلغة تركت بصماتها في أنحاء العالم.