ثقافة وفنون

بعلبك هنا أشرقت هويتنا الوطنية ثقافة وإبداعًا
إعداد: د.هيام كيروز

في سطوة الصيف، حين تغدو الصباحات ذهبًا متناثرًا في الحقول، وعنبًا أشقر يتلألأ في شلالات الضوء، تحل «مهرجانات بعلبك الدولية» لتضح في الموسم شموس غبطة، وتهدهد الليالي بأراجيح العطر الفني.
تقول «مهرجانات بعلبك»؛ فَيميس قمح، وتنفلت الأيام من مداراتها الرتبية، ابتكارًا لأقواس قزح الفرح، وتهليلًا لقمرٍ يغسل بالضوء الأعمدة الباردة، ومسرحًا يزفّ مجد القمم العالية إلى رحابة السهول، وعرسًا يقطّر الإيقاع من الحناجر، ويسكب التلويح في الخصور، ويسوق الأهازيج إلى الأقدام.

بدأ تاريخ «مهرجانات بعلبك» سنة ١٩٢٢ بعد سنتَين من ولادة «لبنان الكبير»، حين عُرضت مسرحية فرنسية وسط آثار بعلبك، وفّرت الإضاءة لها طائرات سلاح الجو الفرنسي.
بعد ٢٠ سنة، وبعد أن نال لبنان الكبير استقلاله في العام ١٩٤٣، عرضت «الجمعية الوطنية لحفظ التراث اللبناني» في بعلبك، مسرحية فرنسية كلاسيكية، برعاية رئيس الجمهورية بشارة الخوري، وتحت أضواء سلاح الجو الفرنسي أيضًا، وكان المشرفون على الجمعية المذكورة، ثلاثة من القامات الثقافية الشامخة: ميشال شيحا، سعيد عقل وفؤاد إفرام البستاني.
في مواجهة موجة الغناء والموسيقى التي كانت شائعة باللهجتَين المصرية والبدوية في العام ١٩٥٣، وفي محاولة لاكتشاف لون من الغناء اللبناني يستمد جمله اللحنية من الفولكلور، تأسست «عصبة الخمسة» التي ضمت: زكي ناصيف، توفيق الباشا، الأخوَين عاصي ومنصور الرحباني وفيلمون وهبي.

 

التأسيس لهويةٍ ثقافية لبنانية
سنة ١٩٥٥، كتب رئيس الجمهورية كميل شمعون:
«... عبر تنظيم مهرجانات دولية في هياكل بعلبك المهيبة، تُقدّم خلالها أعمال درامية وموسيقى كلاسيكية نادرة الجمال والقوة، يكون لبنان قد أخلص لتراثه ووعى لهذا التراث».
بناء عليه، تأسست سنة ١٩٥٦ لجنة رسمية لإدارة مهرجانات بعلبك برئاسة وجيه غصوب، ضمت نخبة من المثقفين ومحبي الفنون: جورج شحاده، مي عريضة، سلوى السعيد، موسى دو فريج، نجيب حنكش، نجلا حمدان، نينا جديجيان، سلمى سلام، شفيقة دياب... وبدعمٍ مطلق من الرئيس كميل شمعون أصبحت مهرجانات بعلبك في تلك السنة مؤسسة حكومية هدفها تشجيع السياحة والثقافة اللبنانية.
لم تكن لجنة مهرجانات بعلبك، عند انطلاقها في وارد جمع التراث الشعبي اللبناني وتقديمه، أو صاحبة هدف إيديولوجي في أن تكون القابلة (المولّدة) التي ستشرف على ظهور الهوية اللبنانية، ذلك أن إضافة الفولكلور اللبناني إلى برنامج المهرجان فرضتها على اللجنة السيدة الأولى زلفا شمعون. وكانت الأخيرة قد تبنّت التقرير الذي قدّمه إلى لجنة الأونيسكو في بيروت، الخبير الروسي في الرقص الشرقي إيغور موزاييف، بناء على طلبها، والذي اقترح فيه تأسيس فرقة محترفة للرقص الشعبي، تكون أعمالها انعكاسًا للأصالة الريفية التي هي منطلق ثقافة الشعب وتراثه. تجاوبًا مع الاقتراح، أوفدت شمعون إلى مدرسة موزاييف في روسيا، الراقصَين مروان ووديعة جرّار اللذين عادا حاملَين خميرة مهارات رقص سوف تؤدي لاحقًا إلى تأسيس فرق للرقص الشعبي في لبنان، وتفتح مجالات لتطوير «الدبكة» وغيرها من فنون الرقص.
شكّل الرئيس كميل شمعون لجنة مهرجانات بعلبك الدولية في العام ١٩٥٧ والتي ضمت: إيليا أبو جودة، كميل أبو صوان، نينا جيديجيان وفؤاد صرّوف، وعيّنت إيميه كتانه رئيسة لها، واختيرت سلوى السعيد مسؤولة عن النشاط المسرحي، وعُهد إلى مي عريضة كل ما يختص بالحفلات الموسيقية.
وكُلّفت «اللجنة الفرعية للفولكلور اللبناني» المنبثقة عن لجنة مهرجانات بعلبك، والمؤلفة من: زلفا شمعون، إيميه كتّانه، سعاد نجار... بتنظيم نشاطات فنية في بعلبك.
وتم الاتفاق على تقديم برنامج يتضمن مسرحية فرنسية وأخرى إنكليزية، وفرقة أوركسترا ألمانية، إلّا أنّ حرب السويس (١٩٥٦) وتداعياتها على المجتمع اللبناني وتوجهاته الثقافية من جهة، وانتقاد الصحافة اللبنانية لخلو عروض المهرجانات من الأعمال المحلية من جهة ثانية، دفعت بالمنظمين إلى تضمين برنامج المهرجانات عملًا فولكلوريًا محليًا باللغة العربية.
على ضوء هذه الرؤية، عهدت اللجنة إلى نجيب حنكش تطعيم مهرجانات صيف ١٩٥٦، بمشهدٍ لبناني يمثل عرسًا قرويًا، لكن المشروع لم ينفّذ حينها. في السنة التالية، ١٩٧٥، أُسندت مهمة «تنظيم البرنامج إلى صبري الشريف، وجمعت اللجنة الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، بالراقصَين مروان ووديعة جرّار، ليصبح الجميع فريقًا يقدّم «الليالي اللبنانية»، بإدارة وإخراج صبري الشريف.

 

التراث يولد من جديد والفولكلور يتوهج
افتُتحت «الليالي اللبنانية» بمشهديةٍ فولكلورية عن عرس الضيعة بعنوان «أيام الحصاد»، وهو أول عمل للأخوَين عاصي ومنصور رحباني مع فيروز في تلك الليالي البعلبكية، استُهل الفصل الأول منه بمقدمة «هلاليا» و « ع اليادي» تعزفها الأوركسترا بقيادة توفيق الباشا، تلتها لوحات راقصة، واجتاحت الجمهور موجة من التأثر والحماسة حين أطلت فيروز تحت هالة من الضوء الأزرق لتصدح بأغنية «لبنان يا أخضر حلو». وفي الفصل الثاني من العرض، نالت أغنيتا زكي ناصيف بصوت وديع الصافي «طلّوا حبابنا طلّوا» و « يا لا لا لا» نجاحًا كبيرًا. وفي نهاية لوحة «العرس»، غنّت فيروز «الروزانا»، تبعتها دبكات الفرح على ألحان «يا بو الميجانا».
التفاعل الحماسي والمؤثر للجمهور دفع اللجنة إلى إعادة العرض لليلةٍ ثانية بحضور خمسة آلاف متفرج. واستحق المشاركون تكريم الرئيس كميل شمعون في حفلة أقيمت للمناسبة في قصر بيت الدين، كما تقلدت فيروز وسام الجمهورية برتبة فارس من السيدة الأولى زلفا شمعون.
وضعت تلك الإطلالة حجر الأساس لصرحٍ شاهق. فعلى أدراج بعلبك، أعيدت ولادة التراث والقيم الأساسية لشعب لبنان، وفي تراب بعلبك توهّج الفولكلور قبل أن ينتقل إلى المدينة.
توقفت المهرجانات بسبب الأحداث الأمنية التي حصلت سنة ١٩٥٨. وتجددت «الليالي اللبنانية» في صيف ١٩٥٩ مع أوبريت «المحاكمة» للأخوَين عاصي ومنصور الرحباني
مع فيروز ووديع الصافي الذي لمع ولُقّب بـ «نجم بعلبك». كما قدمت «عصبة الخمسة» بإدارة صبري الشريف لوحات فولكلورية بعنوان «أرضنا إلى الأبد» ، قدّم الأخوان رحباني الفصل الأول منها، وقدّم توفيق الباشا وزكي ناصيف الفصل الثاني، واستضافت المهرجانات إلى جانب «الليالي اللبنانية» أوركسترا نيويورك الفيلهارمونيكية.
ولدعم البعد الإيديولوجي للمهرجان، عمدت اللجنة إلى إصدار برنامج مفصل في كتاب يتضمّن نصوصًا وآراء ذات قيمة أدبية لكبار كتّاب لبنان، تؤسس لديمومة المهرجان والأبعاد الثقافية للحدث. أُصدر كتاب المهرجان تلك السنة وفيه صورة ملوّنة لفيروز بملابس فلاحيّة فولكلورية، كتب إلى جانبها «فيروز سيدة الغناء الفولكلوري الأولى».
الصدى الجميل والممتع للمهرجانات، مهّد الطريق لتلمّس جماليات فنية انسكبت في سلك متواصل من العروض، وساهمت في رفد المواسم اللاحقة بالمزيد من الإبداعات. فأنشأ الصحافي سعيد فريحة سنة ١٩٦٠ فرقة «الأنوار» التي قدّمت في السنة نفسها، على أدراج قلعة بعلبك «حكاية لبنان «، كتابة وإخراج نزار ميقاتي وموسيقى زكي ناصيف .
كذلك ، أنشأ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني مع صبري الشريف «الفرقة الشعبية»، وقدّما تلك السنة أولى مسرحياتهما الغنائية الطويلة «موسم العز» في هيكل جوبيتر. وهي مسرحية ريفية بامتيازٍ، تألقت فيها صباح بعددٍ من الأغاني الفولكلورية المصنفة كتراثٍ قديم ، إلى جانب وليم حسواني ووديع الصافي الذي غنى من تلحينه « لبنان يا قطعة سما «.
وتوالت بعد ذلك المسرحيات الغنائية التي حضر الفولكلور في العديد منها، خصوصًا تلك التي قُدّمت بين ١٩٦٠ و ١٩٦٥، وهي المرحلة التي أصبح فيها الرئيس فؤاد شهاب رئيسًا فخريًا للجنة مهرجانات بعلبك. وكان للشاعر سعيد عقل دور مهم فيها، بصفته عضوًا في «اللجنة الوطنية لحفظ وتطوير الثقافة اللبنانية»، وكتب مقدمات المسرحيات الرحبانية في بعلبك (موسم العزّ ١٩٦٠ وجسر القمر ١٩٦٢). غاب الأخوان رحباني عن بعلبك سنة ١٩٦٣ وحضرت صباح في مسرحية «الشلال» من ألحان وليد غلمية الذي ارتبط اسمه بدبكة «يسلم لنا لبنان» .
في سنة ١٩٦٤ قدّمت فرقة الأنوار «أرضنا إلى الأبد» مع صباح ووديع الصافي، من تأليف زكي ناصيف الذي شارك في تلحينها مع توفيق الباشا ووديع الصافي ووليد غلمية وعفيف رضوان وسامي الصيداوي. ونجحت لجنة المهرجانات في حشد المستويات الفنية المختلفة، والتقاط جوهر مضمونها التعددي وطابعها الوطني. فتراصفت أمسيات تخاطب الناس والتاريخ، وتضخ في النفوس حيوية وأملًا في تحقيق العدالة والخير، ما شكل تطابقًا مع أهداف المهرجانات التي عبرت عنها في ١٦ آب ١٩٦٤، رئيسة لجنة الفولكلور سلوى السعيد حين قالت: «هدفنا الرئيس هو أن نضفي على حفلاتنا الفولكلورية طابعًا مستوحى من التقاليد والعادات القديمة التي اتسمت بها قرى لبنان».
حضرت صباح للمرة الثالثة في بعلبك سنة ١٩٦٥، واجتمعت مع الأخوَين رحباني في مسرحية «دواليب الهوا».

 

الأخوان رحباني وفيروز
كانت مساهمة الأخوَين رحباني وفيروز في المهرجان خطوة جبارة في استملاك التراث اللبناني المنثور، وإعادة صياغته في قالب حديث وتقديمه بأسلوبٍ راق للجمهورَين اللبناني والأجنبي. فتتالت أعمال تشمل الحوار الغنائي والكلامي والأغنية، تؤديها فيروز على إيقاع الدبكة الشعبية رمز الفولكلور المشرق الراقص.
على مستوى الرقص عمل الأخوان رحباني على صقل الدبكة، وتطويرها وتشذيبها من الخشونة الشعبية، وتقديمها كفنٍّ تعبيري رفيع مع المحافظة على الجذور والخطوات التي يتعرّف عليها الناس. فجمعوا الخطوات والحركات من مختلف القرى اللبنانية، وأضافوا إليها خبرات الأخوَين وديعة ومروان جرّار، حتى أصبح ما جمعوه ووظفوه في مسرحياتهم هو الرقصة الشعبية اللبنانية، الدبكة، التي ظهرت مكتملة في مسرحية «أيام فخر الدين» سنة ١٩٦٦ على وقع أغنية فيروز «دبكة لبنان». في هذا العمل الملحمي حافظ الرحابنة على النهج الذي خلق الحس الوطني الجماعي عبر الارتباط بماضٍ مجيد يجمع المواطنين، وأكد أهمية الفن في بناء الهوية والثقافة. تجلى ذلك خصوصًا في شخصية فيروز «عطر الليل» التي اعتبرتها الصحف اللبنانية على الأثر «العامود السابع في قلعة بعلبك».

 

باب مشرّع للإبداع
ولئن طغى الفولكلور على الأعمال اللبنانية، فإن الروائع العربية والأجنبية لوّنت النمطية الفولكلورية السائدة بإشراقاتٍ تعكس إرث أوطانها الثقافي والاجتماعي، ألحانًا وغناءً ورقصًا ومساهمات متنوعة من الإيقاعات المضيئة، اجتذبت من مختلف أنحاء العالم جمهورًا يحاكي ذوقه تلك الفنون، وتعانق روحه توهجاتها؛ من أوركسترا نيويورك الفيلهارمونيكية (١٩٥٩) ، إلى فرقة الباليه الملكية (١٩٦١ و ١٩٦٤) ، وأوبرا باريس (١٩٦٢)، وأم كلثوم (١٩٦٦-١٩٦٨-١٩٧٠) وباليه البلشوي الروسية وموسيقار الجاز الأميركي مايلز دايفيس (١٩٧١) ... إضافة إلى قامات لامعة منها : موريس بيجار، إيللا فيتزجيرالد، جان لوي بارو ...وبذلك تكّرست أهمية مهرجانات بعلبك عالميًا، فباتت واحدة من أهم المهرجانات التي يحلم كبار المبدعين العالميين في تقديم إبداعاتهم من خلالها. وبالطبع ترافق ذلك مع توافد السواح من مشارق الأرض ومغاربها للاستمتاع بسحر بعلبك ومهرجاناتها.
سنة ١٩٦٧، أعلنت لجنة المهرجان عن مسرحية «القلعة» بطولة صباح، لكن هذا العرض تأجل بسبب الحرب واستعيض عن المسرحية بحفل منوعات أعده روميو لحود مع وليد غلمية . وقدّمت «القلعة» وهي من كلمات موريس عواد وألحان وليد غلمية سنة ١٩٦٨ .

 

رؤية للوطن
ألهب الأخوان رحباني وفيروز مدارج قلعة بعلبك بمسرحية «جبال الصوّان» سنة ١٩٦٩، وهي عمل ملحمي تتعانق فيه معاني الوطنية والتضحية والشجاعة والغضب والألم، مشكّلة مفاتيح عبور إلى الكرامة والحرية .
« الفرمان» (روميو لحود ومجدلى سنة ١٩٧١)، «مهرجان» (روميو لحود وصباح سنة ١٩٧١) «ناطورة المفاتيح» (الأخوان رحباني وفيروز سنة ١٩٧٢) «قصيدة حب» (الأخوان رحباني وفيروز ووديع الصافي سنة ١٩٧٣) إلى «وتضلوا بخير» وفرقة كركلّا (سنة ١٩٧٤) : أعمال توالت، متصلة بالفولكلور والتراث، عكست نبض المهرجان الساعي إلى تمجيد معاني الوطنية، وأسهمت في صباغة هوية ثقافية للبنان، بل ذهبت أبعد من ذلك في بلورة رؤية للوطن ذات أبعاد إنسانية، من حيث تفاعلها مع الأحداث والقضايا المطروحة والمعاشة .
كما حضرت المغنية الأميركية جوان بايز في الصيف نفسه، وقبل أن تبدأ الغناء اشترطت على السفير الأميركي مغادرة المكان حتى تغني، فكان لها ما أرادت. كانت بايز مناهضة لحرب فييتنام، ومناضلة لحقوق الإنسان، ومشاركة دائمة في المسيرات والتجمعات المناهضة للحروب.
سنة ١٩٧٥، اندلعت الحرب على كل المحاور، وانتقلت إلى المدى الثقافي الأكثر إضاءة وفرحًا، فتوقفت «الليالي اللبنانية» وبدت قلعة بعلبك سريرًا حجريًا يرقد على أطياف الماضي، وتتآلف أعمدتها مع فسحات الصمت، وتصغي مدرجاتها إلى وقع الخطوات في الذات البعيدة. بقيت مدارج قلعة بعلبك صامتة حتى سنة ١٩٧٩ حيث أعادت المهرجانات انطلاقتها مع الموسيقى الكلاسيكية والجاز والأوبرا والليالي اللبنانية وموسيقى الروك والبوب. وحرصت إدارة المهرجان على تبنّي عالم التجديد على أن يكون مرتبطًا بوجدان الناس .
عادت فيروز إلى قلعة بعلبك سنة ١٩٩٨ لتضرم الحياة في
موريس بيجار العبير عن الفرح الجسدي
المدارج المنتظرة، مع عمل يضم مقتطفات من إبداعات رحبانية ماضية، تتدفق في الصوت الآسر، وتنطلق في التحام وجداني من آلاف الحناجر العطشى إلى فرح اللقاء والأمان. يومها اشترطت فيروز أن يعود معها إلى بعلبك رفاق الدرب الذين غابوا، عاصي رحباني، فيلمون وهبي، ونصري شمس الدين حضروا عبر مشاهد على شاشة.

 

الألوان والخطوات والتاريخ
وحده الديكور تغيّر في مسرح أبدي واشتعل بدينامية الحركة وتطاير الألوان وتناغم الخطوات مع «أوبريت الضيعة» لفرقة كركلا في صيف ٢٠٠٩، جمع هذا العمل كل عناصر المسرح اللبناني المتراكمة منذ سنة ١٩٥٧. استمد عبد الحليم كركلا من عبق التاريخ اللبناني الأصيل، واستحضر في لوحاته مشاهد ضوئية احتضنت حضارات الأقدمين، وصولًا إلى الأرز، ومشاهد مواسم الخير في القرية اللبنانية .
حثيثًا ومغتبطًا، تابع السهر هبوبه في السنوات اللاحقة، يرصف الخطى نحو أدراج قلعة بعلبك ومعابدها. يهدهد بالألوان أعمدتها، يودع صخب الحياة في حجارتها، يوزّع ألق الآهات بين أروقتها وينثر قمح الأمل في فضائها.
حثيثاً ومغتبطًا، يتقطر ليل القلعة حتى يباغته الفجر في تبرعم الشمس .
كمية كبيرة من الإرث الفني المتنوع ضخّتها مهرجانات القلعة في مواسم صيف الألفية الثالثة. ومن بين الذين استضافت القلعة أعمالهم بين ٢٠١٤ و ٢٠٢٠، أسماء مخضرمين وشباب لبنانيين كثر، مثل عبد الرحمان الباشا وغابرييل يارد وزاد ملتقى ومارسيال خليفة وجاهدة وهبة وجورج خباز وعمر بشير، بالإضافة إلى أسماء لها مكانتها العالمية.

 

شمس لا تغيب
غاب الحضور عن مهرجانات بعلبك لسنتَي ٢٠٢٠-٢٠٢١ بسبب وباء الكورونا، إلا أنّ اللجنة أبت أن يغيب الاحتفال، فبثّت حفلتَين على مختلف محطات التلفزيون والأقنية العربية، وعبر الإنترنت.
ورغم الأوضاع الصعبة التي يمر بها لبنان، تهيأت القلعة من جديد لاحتضان أبهة الفرح في مهرجان ٢٠٢٣، وها هي فنونها تواصل السهر يسندها أفق التاريخ، فتحسب أنّها ليست حضنًا للفنون فقط، بل هي رافعة الأمل التي تتخطى الصعوبات وتقهر الحواجز، يزكيها عزم لجنة إداراتها وإصرارها على الإشعاع وسط الظلمة.
ووفق رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك الدولية، السيدة نايلة دي فريج، فإنّ مهرجانات السنة الحالية «تأتي كتعبيرٍ عن رفضنا الاستلام لليأس. وكحدثٍ يضيء النفق المظلم، ويتخطى الحواجز الوعرة، وكفضاءٍ بأبعادٍ كثيرة، يوحد الثقافات المتنوعة، ويسكبها في رؤى فنية ترضي مختلف الأذواق. فلسفة المهرجانات قامت على احتضان التراث، وقد استمرت هذه الفلسفة منذ انطلاق المهرجانات سنة ١٩٥٧، وتستمر، مضيفة إلى الإرث الفولكلوري، فنونًا عربية وأوروبية وغربية، تشهد لحضارات بلدانها من خلال قامات كبيرة لمعت في مختلف المجالات الفنية. لذلك، عملنا كلجنةٍ، في حشد مستويات فنية مختلفة، تتفاعل في جوهرها ومضموها التعددي، وتنعكس في البرنامج، بما يؤكد هوية لبنان الثقافية.
دو فريج التي أكدت تحدي الظروف والعوائق أوضحت: في السنوات ٢٠١٩ و ٢٠٢٠ و٢٠٢١ و٢٠٢٢، حالت الإمكانيات المادية الضئيلة دون استقدام عدد كبير من الفنانين من الخارج. وكنا نعتمد في أكثر من ثلث الميزانية على الدولة، فيما تؤمّن كل من المصارف والبطاقات المباعة الثلثَين الباقيَين. وهنا لا بد من التنويه بدور السفارات الأجنبية في جذب الفنانين، من خلال المؤسسات الثقافية، وتحديدًا الفرنسية منها والإيطالية والإسبانية.
وهذا الدعم يتأتى من ثقة هذه الجهات بعملنا خلال كل تلك السنوات، من هنا ارتأينا هذه السنة تكريم السفارة الإيطالية التي قامت مشكورة، بترميم المعابد كافة في قلعة بعلبك وكذلك عواميد جوبيتير. كما أشارت إلى المساهمة الواسعة للبنانيين في الخارج الذين يهمهم متابعة مسيرة الصمود في وجه العواصف. وكذلك إلى تشجيع وزارتَي الثقافة والسياحة. وقالت: «أنوه بشكلٍ خاص بدعم قائد الجيش، الذي أعطى الضوء الأخضر لانطلاق المهرجانات، من خلال التزام توفير الأمان على الطرقات وفي القلعة ومحيطها. وكذلك التحية والامتنان للقوى الأمنية التي لم تكفّ عن مساعدتنا في أحلك الظروف».