رحلة في الانسان

بين التقليد والعصرنة خيط رفيع يحافظ على استمرار العلاقة الزوجية أو يهدمها
إعداد: غريس فرح

نمط حياتي شائع دمغ بطابعه مفهوم الزواج لقرون خلت. نمط تبنته الأجيال، وعملت بوحيه لأسباب ملزمة. إنه نمط الزواج التقليدي الذي يضعنا في صورة زوج يعمل وينتج ويتمتع بحق السلطة، وزوجة تنجب الأطفال وتربيهم وتعتني بالمنزل.

هذا القالب الذي فصّلته الطبيعة والأعراف والتقاليد، وعاش الأزواج ضمن إطاره بحكم العادة وظروف الحياة، كان كما هو معتقد، سياج الزواج المستقر الذي تحددت من خلاله الأدوار والمسؤوليات عبر العصور. لذا فإن التغيير المفاجئ الذي غيّر من إيقاع هذا النمط الراسخ في العقول، إثر تحرّر المرأة واقتحامها ميداني العلم والعمل إسوة بالرجل، أثّر كما يبدو في استقرار الزواج، وأفرز اشكالات أدت الى تفاقم الخلافات وزيادة معدّل الطلاق.

هنا يبرز السؤال الآتي:

 إذا كانت عملية التأقلم الفطري وراء قيام الزواج التقليدي الذي عرفناه، فهل تصلح هذه العملية ذاتها ما أفسده التغيير، فيتقلص الطلاق وتتكرّس مفاهيم زواج عصرية جديدة؟

 

 أسباب الخلافات والطلاق!

 اختصاصيو علم النفس الذين تناولوا هذه الناحية الإنسانية البالغة الأهمية، أكدوا من خلال الدراسات والأبحاث في هذا المجال، أن الطلاق الذي يتزايد يوماً بعد يوم، ويتسبب بتفكك العائلات، سببه تباطؤ تأقلم الدماغ البشري مع المستجدات لأسباب تربوية وفطرية.

 فأساليب التربية التقليدية المتوارثة، والتي ما زالت تركز، الى حد ما، على التفرقة بين الفتاة والشاب، وخصوصاً لناحية الأدوار الطبيعية والسلوك الاجتماعي، تؤثر في تكريس هذه التفرقة على المدى البعيد. وهذا بالطبع يتجلى من خلال التصرّفات اللاواعية التي تسود العلاقة بين الرجل والمرأة على المستويات كافة.

 الى ذلك، فالذاكرة الفطرية والتي ما زالت تحمل في طياتها كامل المعطيات المخزّنة في اللاوعي عن مضمون العلاقات بين الجنسين، لا تتخلى بالسرعة المتوقعة عن هذه المعطيات لتتماشى مع مستجدات العصرنة وما أفرزته من ثورات طالت التفكير والسلوك. بمعنى آخر، فإن سرعة تخلّي الذاكرة الفطرية عن المعلومات بشأن العلاقة بين الجنسين، لا توازي السرعة المطلوبة للتأقلم مع نمط الإيقاع العصري المتفلّت من القيود.

 من هنا، فإن المرأة المعاصرة التي تجد نفسها بدافع متطلبات العصر، شريكة للرجل في مجالات الحياة كافّة، ترفض التخلي عن أنوثتها وعن حماية الرجل لها. وفي الوقت نفسه، يرفض الرجل أن يتنازل عن دوره السلطوي مقابل حاجته لدعم الزوجة الاقتصادي.

 هذا التفاوت في مستوى التقبّل لإفرازات العصر، مقابل تشبث المرأة بالحقوق وحرية التفكير والتصرّف بعيداً عن وصاية الرجل، أثّر بدون ريب في استقرار علاقة الزواج، وزاد من معدلات الطلاق في المجتمعات كافة.

 

 كيف نصل الى التأقلم المطلوب؟

 قبل أن نعمل للوصول الى حلّ، علينا، كما يؤكد الاختصاصيون، معرفة ذواتنا. فالمرأة التي تسيّرها الهرمونات الانثوية وفق قوانين الطبيعة، لن تصبح رجلاً بحكم القوانين المدنية. والرجل المكتمل الرجولة، لن يرضخ بين ليلة وضحاها لحكم قوانين مغايرة لتيار المشاعر. وباعتبار أن الزواج يجمع ضمن إطاره تناقضات الأهواء والمشاعر والأفكار، إضافة الى انعكاسات تربية الشريكين، فإن الحل المنقذ من الطلاب يكمن في التأقلم الواعي مع أسس العلاقة التي يحددها الشريكان بملء إرادتهما. وهذا بالطبع يتطلب جهداً وإدراكاً لمسؤولية اختيار الشريك المناسب.

 

 كيف نختار؟

 من المهم أن نتعلّم كيف نختار شريك الزواج قبل أن نقع في الفخ.

 في هذا المجال، كان لبعض الباحثين الأميركيين بعلم النفس، وفي مقدمتهم المعالجة النفسية العيادية إميلي مكارثي مؤلفة كتاب ˜كيف نبني زواجاً معافىًŒ، نظريات تساعد في اختيار الشريك والتأقلم مع واقع العلاقة.

 قبل كل شيء، تركز المعالجة مكارثي على أهمية العودة الى الذات لمعرفة الهدف الواعي واللاواعي الكامن وراء الانجذاب الى شخص ما والرغبة بالارتباط به. وهذا بالطبع يتطلّب غربلة وتحليلاً للأفكار والميول الشخصية إضافة الى المصالح والأماني الطفولية المكبوتة. الى ذلك فهي تنصح المقبلين على الزواج بالتعرّف تدريجاً الى مراحل طفولة مراهقة بعضهما وصولاً الى كشف تفاصيل علاقتهما بوالديهما والطرق التي اتبعت بالتعامل معهما.

 هنا تؤكد الدراسات عموماً، أن الزوج والزوجة في غالب الأحيان يتبنيان بعد الزواج سلوك والديهما للتعامل مع بعضهما البعض ومع أطفالهما في المستقبل. واللافت أن الشريك المتأذي من معاملة أحد والديه له، قد يتجه لا إرادياً الى أذية شريكه أو أولاده لاحقاً لتحصيل حقه والانتقام لكرامته المهانة. لذا فإن انفتاح الزوجين على هذه الناحية البالغة الأهمية، يسهم الى حد بعيد في تجنب الوقوع في الخطأ إضافة الى تفهّم كل منهما لمشاعر الآخر والتأقلم مع انعكاساتها اللاإرادية.

 

 الاعتراف بعدم دوام الرومانسية

 المعروف أن الرومانسية قد لعبت ولا تزال دوراً بارزاً لناحية التقريب بين الجنسين وصولاً الى الارتباط بالزواج.

 والرومانسية صيغة غير واقعية تزول بزوال الظروف التي أفرزتها. بمعنى أنها فورة تخمد بعد مرحلة معينة من الزواج تمهيداً لرؤية واقع قد يكون مغايراً للأحلام والأماني.

 هذه الصيغة غير الواقعية نجحت في الماضي، الى حد ما، في أداء دورها كمحفّز لنجاح الزواج. أما سبب نجاحها، فكان التزام الزوجين بدورهما الطبيعي التقليدي بدون قيد أو شرط، ما جعل من الرومانسية حاجزاً يخفي وراءه سلطة الرجل وخضوع المرأة تحت شعار ˜الحب والحمايةŒ.

 أما اليوم، فالمرأة الساعية وراء الحب والرومانسية وحماية الرجل، ترفض الخضوع لرغباته السلطوية. والرجل التائق الى السلطة، بات يطلب من زوجته المشاركة في تحصيل الرزق وتحمّل المسؤوليات خارج المنزل. وهو في الوقت نفسه يأبى أن تشاركه في الاستقلالية وتحقيق النزوات وسواها من الأمور التي يعتبرها حكراً على الذكور.

 هذه الإشكالات العصرية المستجدة تتسبب بدون ريب بخمود الرومانسية لتضع الزواج المعاصر أمام الواقع. وهذا بالطبع يحدث تغييراً مفاجئاً في علاقة المحبين بعد الزواج وبالتالي شعوراً بالخيبة والاحباط، ما يمهد للخلاف والطلاق.

 خمود الرومانسية إذن حالة تستوجب التحضير المسبق وصولاً الى التأقلم مع واقع تفرضه البيئة والظروف المعاصرة. والأهم اعتراف الفريقين المقبلين على الزواج بهذا الواقع المغاير للحلم، إضافة الى تبني الليونة في مماشاة العصرنة، وذلك بعيداً عن فوضى المشاعر البدائية ومنها، الغيرة والشك وحب التملّك.

 

 لماذا لا نأخذ العبر من الماضي؟

 هنا نعود الى ما سبق وأشرنا إليه، من أن التناقض بين ما هو موجود، وبين المعطيات العالقة بالذاكرة الفطرية، هو أساس اندلاع فورة الطلاق المعاصرة والناجمة عن نقص التأقلم مع الواقع. من هذا المنطلق، تدعو نظريات علم النفس المعاصر الأزواج والمقبلين على الزواج، الى اقتباس العبر من الماضي، واعتماد أهداف الزواج القديمة في إطار عصري يراعي ظروف كل فئة على حدة.

 ففي الماضي، كانت أهداف الزواج تنحصر عموماً بتأمين الاستقرار والإنجاب وبناء العائلة، وكانت العلاقة الزوجية تبنى ضمن هذا الإطار العقلاني. واليوم بعدما أصبح الزواج يتقرر غالباً نتيجة علاقات لا غاية لها على العموم سوى تأمين السعادة والنشوة الآنية والمصالح المادية، ابتعدت الأجيال عن منطقة تحديد الأهداف، وبالتالي المقدرة عن التأقلم مع المستجدات بعيداً عن ردات الفعل الفطرية العشوائية. من هنا الدعوة الى استعادة تقليد التخطيط العقلاني الذي يسبق الزواج وهذا يعني إنشاء حد أدنى من الارتباط بين العصرنة والتقليد حفاظاً على التوازن الذي يؤمن استمرار العلاقة الزوجية.

 

 العبرة لمن يعتبر

 الاختصاصيون الذين يتابعون عن كثب التغييرات الطارئة على العلاقات الزوجية وخصوصاً تلك المتسببة بالطلاق، أسدوا الى الأزواج الراغبين بصيانة علاقتهم جملة نصائح نوجزها بالتالي:

 * اعتماد مبدأ التخطيط العقلاني قبل اتخاذ القرار بالارتباط بالزواج.

 * التعرّف الى بىئة الشريك العائلية قبل الارتباط به تمهيداً للتعرّف الى شخصيته وطريقة تعامله مع الغير، وخصوصاً مع أفراد عائلته في المستقبل.

 * الاقتناع المسبق بأن الحب المشتعل لا يدوم، وأن الزواج عقد يلزم كلاً من الطرفين باحترام رغبات الآخر وتوجهاته.

 * الاعتراف الضمني بأن الأشخاص لا يتغيّرون بالقدر الذي نريد. لذا فإذا أراد أحدنا أن يغيّر من توجهات شريكه وسلوكه، فمن الأفضل أن يبدأ بتغيير نفسه.

 * من الأفضل أن نتعلّم كيف نتواصل مع الشريك بعيداً عن الصراحة الجارحة والانتقاد والتجريح. فلكل منا أخطاؤه ونقائصه، فلماذا لا نتعلم كيف نتأقلم مع أخطاء ونقائص سوانا؟

 * من الخطأ الفادح التسرّع بالإنجاب قبل التأكد من استقرار الزواج. فمن حق الأطفال أن يعيشوا في أجواء عائلية سعيدة، لا أن يتحوّلوا الى كبش محرقة أو حاجز للحماية من الطلاق.

 * اعتراف كل من الزوجين بحقّ الآخر باستقلالية التصرّف والتفكير والتعبير ضمن حدود تحفظ كرامة كل منهما، وذلك بعيداً عن الغيرة وسواها من المشاعر الفطرية المتقلبة.

 * الابتعاد قدر الإمكان عن الميل الى السيطرة وفرض الرغبات، والأهم تعلّم أساليب الاستماع والصبر والتفهّم وصولاً الى علاقة حب عصرية تماشي التغيير الإجتماعي الحاصل من دون أن تمس كيان العائلة وتماسكها.