متاحف في بلادي

بين جدرانها ذكريات وأشياء حميمة حـارة القرميد تتحـوّل متحفاً للشاعر الياس أبو شبكة
إعداد: جان دارك أبي ياغي

في إطار النهضة التي أحدثها المجلس البلدي في زوق مكايل برئاسة المحامي نهاد نوفل، تمّ تحويل منزل الشاعر الياس أبو شبكة ­ وهو نموذج للعمارة اللبنانية التراثية مع قرميده الأحمر ­ الى متحف يختزن متروكات الشاعر الحياتية والإبداعية.

مجلة "الجيش" زارت حارة الشاعر أبو شبكة التي شهدت محطات أساسية من حياته الشعرية والعاطفية.

 

الحارة

يسمى أهالي زوق مكايل منزل الشاعر الياس أبو شبكة "الحارة"، وذلك نسبة لكل منزل سطحه قرميد وحيطانه حجر، الأمر الذي يدل على يُسر صاحبه. وهذه الملاحظة دوّنها الأديب اللبناني مارون عبود لدى زيارته الشاعر الياس أبو شبكة في منزله.

تتميز حارة أبو شبكة بغنى الهندسة اللبنانية وقد بناها والده وعمه اللذان كانا يعملان في التجارة بين سوق الزوق ومصر والسودان، ما جعلهما من الميسورين في بلدة زوق مكايل، ويقال إن المنزل صممه مهندس مصري وبناه معلمون من البلدة، ورسم النقوش على السقف الداخلي والحيطان فنانون نمساويون كانوا يعملون أصلاً في رسم قصور السلاطين في السلطنة العثمانية، ويأتون الى لبنان للاستجمام والراحة.

هذه الحارة الفخمة كانت نقيضاً لأحوال الشاعر الياس أبو شبكة الذي اضطرته الأيام الى رهن بيته وانتقال ملكيته الى الراهنين.

في السبعينات خطط أحد مالكي البيت الى هدمه لبناء بناية مكانه، ولكن المجلس البلدي برئاسة نهاد نوفل أوقف الجرافة في لحظة بداية الهدم وعملت البلدية على استملاكه.

في الثمانينات، بدأت على الفور ورشة ترميم ما تبقى من المنزل بعد أن أصابه التشويه. فقد كان من عادة الشاعر أن يكتب بعض الأبيات الساقطة عليه وحياً على جدران المنزل، عبثت الأيادي بهذه الكتابات فأزالتها. أما النقوش فقد تمكنت البلدية من انقاذها بعد ن تسلمت المنزل خالياً من أي أثاث.

وبما أن الحد الأدنى من المتحف يجب أن يتكوّن من غرفة النوم ومقاعد الشاعر...

بدأ البحث عن هذا الإرث، وتم التوصل بعد جهد جهيد الى اكتشاف مكان سرير الشاعر وخزانته، وبعض الأثاث. كما أن أقاربه من آل ساروفيم من زوق مكايل وهم الذين احتضنوا غلواء زوجته قدّموا ما لديهم للمتحف.

تصميم المتحف وضعه المهندس الفنان جان لوي منغيه، وقد أصبح جاهزاً للإفتتاح في الموسم الدراسي 2005­2004 أمام جميع الزوار والطلاب بعد تشكيل لجنة أمناء له تضم عدداً من كبار الصحافيين والمثقفين اللبنانيين.

وصف الأديب مارون عبود حارة أبو شبكة في كتابه "جدد وقدماء" قائلاً: "بيت مستور. تدخل ذلك البيت، وهو ما زال كما تركه المورّث فتراه حارة تدل على يُسر صاحبها، فحيطانها مدهونة وأرضها مفروشة بالبلاط الرخامي، وغرفها واسعة وعالية والدار فسيحة، وهذا هو طراز البناء البرجوازي اللبناني. كأنما أعد ذاك البيت الرفيع العماد ليأوي إليه شاعر ثائر شقي يائس تأبى عليه انفته أن يظهر أمامك في مباذله، فاستطاب شقاءه والشقاء هو الحياة بل لا لذة للحياة إذا لم يكن الشقاء".

 

 ضيافة الشعراء...

 تحوّل بيت الياس أبو شبكة في حياته الى مقصد الشعراء والأدباء والسياسيين. زاره كميل شمعون وإميل إده وميشال سلهب. ويروي ميخائيل نعيمه عن ليلة قضاها في منزل أبي شبكة بعد إلحاح الأخير، يقول: "ونمنا ليلتنا الأولى في غرفة واحدة، ولكم سرّني عند النوم أن أشاهد مضيفي يستوي في سريره ويصلّي بحرارة المؤمن...".

 ويتابع نعيمه: في صباح الأحد التالي أخبرني الياس عن قصيدته "غلواء" وقد أوشك أن يفرغ من نظمها، فطلبت أن أسمعها، واشترطت أن يكون ذلك لا في داخل جدران أربعة، بل في الهواء الطلق بعيداً عن الناس وبين الأعشاب والأزهار. وهكذا كان، فخرجنا الى جهة من الزوق اكتست تربتها حلة فاتنة من بكور الزهر والعشب، وهناك جلسنا ومن فوقنا سماء صافية زرقاء، ومن حولنا نسيم زهر ناعس، وأمامنا بحر شاسع، وراح يقرأ ورحت أصغي".

 

 موجودات المتحف

 يمتد المتحف على مساحة 1000 متر مربع تقريباً تحيط به حديقة قبالة البحر مزروعة بالأشجار التي كان يحبها الياس أبو شبكه مثل: التوتة، الرمانة، الأكي دني، الليمونة، اللوزة وغيرها... وفي محاذاة المتحف تمثال للشاعر من الحجر منحوت بإزميل النحّات بيار كرم ومحفور عليه بيتان من الشعر:

 لبنان أولك الدنيا وآخرك الدنيا...

 وبعدك لا أفق ولا شعب.

 منزل الشاعر الذي تحوهل الى متحف يتألف من صالة كبيرة تحيط بها سبع غرف سوف تتضمن عرضاً لوثائق ومخطوطات وكتب ومراسلات وصور الحبيبات اللواتي استلهم منهن الشاعر كتاباته، إضافة الى مكتبته الخاصة والكتب المهداة له من كبار الأدباء اللبنانيين والعرب، ومركز توثيق مختص به وصالات عرض، والأثاث الذي استعمله وأدواته الخاصة (مكتبه، قلمه، نظاراته، عصاه، قنديله...).

 أما أقبية البيت فسوف تكون ملتقى ثقافياً ومكاتب، الى صالون أدبي (هذا القسم قيد الدراسة والتخطيط).

 

 الياس أبو شبكة في سطور...

 تتميز شخصية الشاعر الياس أبو شبكة ونتاجه الإبداعي بغنى الأوجه وتعددها.

 ولد الياس أبو شبكة في مدينة بروفيدانس في الولايات المتحدة الأميركية في الثالث من أيار سنة 1903 في منزل خال أمه الياس فرزان.

 عاد أبو شبكة طفلاً الى الزوق وهو لم يتجاوز شهره الثامن، وكان لمولده في بيت خال أمه الياس فرزان أثر في تكوين شاعريته وصقلها، فالياس فرزان الزوقي كان أول من تأثر بهم من الشعراء. كذلك، كان لانضمامه الى مدرسة عينطورة للآباء اللعازاريين أثر كبير في رسم ملامحه الثقافية.

 بلورت مدرسة عينطورية شاعرية أبي شبكة ودفعتها الى النور عبر منافذ الثقافتين العربية والفرنسية. يتضح من ذكرياته في هذه المدرسة وذكريات رفاقه، أن الشاعر انطبع ببعض خصائصها التربوية وانفتاحها على المسار الثقافي الفرنسي المتمثل آنذاك بالمدرسة الرومنطيقية. زاد من وتيرة تفاعله مع زمنه موت والده والحرب العالمية الأولى، فتصاعد توتراً وقلقاً وانفلاتاً في اتجاه المطلق.

 كان من فضل إتقان أبي شبكة اللغة الفرنسية وشغفه بأدبها أن أقبل على نقل كثير من النتاج الأدبي الفرنسي الى اللغة العربية، فيما كاد يترك المدرسة حتى نقل الى العربية مسرحية "السامرية" لإدمون روستان ثم أخرجها على مسرح بلدته "الزوق"، كما ترجم عدداً لا يستهان به من الكتب الفرنسية.

 أحب الياس أبو شبكة بلدته الزوق وغناها في شعره. ويجمع الذين عرفوه على تعلقه بالزوق والإعجاب بماضيها وطبيعتها وموقعها وأنسها، يقول عنه أنسي الحاج في هذا المجال: "لم يكن رجلاً من الزوق يكتب الشعر، بل كان الياس أبو شبكة هو نفسه شعراً تقمّص رجلاً من الزوق".

 قضى أبو شبكة حياته بين الزوق وبيروت ومصيفه في حراجل أو فيطرون... يعتقد رئيف خوري أن شاعر "غلواء" لم يكد يفارق بقعة معينة من هذه الأرض تمتد على الساحل بين زوق مكايل والعاصمة. في هذه البقعة درج صبياً يسبح ويصيد السمك ويتعلّم فكّ الحرف. وفي هذه البقعة شبّ وأحبّ ورنّم بكر ترانيمه الشعرية. ثم في هذه البقعة أدرك طور الرجولة وفيها ثوى في مثواه الأخير قبل الأجل وقبل أن ينفق ­ على كثرة انفاقه ­ ذخر عاطفته الغنية. خاض أبو شبكة غمار السياسة المحلية في الزوق وكانت تتمحور بين "الكتلة الوطنية" والدستوريين. فمال الى الكتلويين ووقف في الخط المضاد لابن بلدته الدستوري سليم تقلا، وهذا ما يتضح من رسالة بعث بها الى صديقه يوسف أبي ورده المهاجر الى الأرجنتين.

 التصق قدر الياس أبو شبكة بمصادفات أوجدتها له الزوق. ففي أفياء أشجارها، وعلى وقع أجراس كنائسها وأديرتها خفق قلبه للمرأة في كل تجلياتها، المرأة ­ الزوجة، والمرأة ­ الأفعى، والمرأة ­ الحبيبة "الى الأبد"...

 أحبّ أبو شبكة غلواء (الإسم الأصلي أولغا ساروفيم) وهو في السادسة عشرة من عمره كما تروي زوجته نفسها، تقول:

 "جمعت بين عائلتي وعائلة الياس صداقة قديمة، هو ابن الجيران وصديق أخي. وأنا رفيقة أخته فرجيني، في بادئ الأمر لم أنظـر اليه أكثر من نظرتي الى شاب صغير في السادسة عشـرة من عمره. كان عمري ثمانية عشر عاماً أي أكبر من اليـاس بسنتين، كنا نتبادل الكتب، ولم يحس أبو شبكـة بإعجابه بي إلا أثناء ذهابي الى صور لزيارة أقربائي. وأصبـت هناك بالحمى وحرارتها اللاذعة. وحين سمع من والدته خبر مرضي اكتشف ميله الوجداني إليّ، فتسمّر في مكانه وقال لأفراد عائلته: "ركعوا نصلي حتى تشفى أولغا"...

 تزوّج أبو شبكة أولغا ساروفيم في كانون الأول سنة 1931 و"منّ الله على الشاعر بمولود ذكر، أخمدت الأقدار أنفاسه قبل أن يرسل صرخته الأولى في دنيا الشقاء. وكان ذلك في العام 1932".

ترك أبو شبكة للمكتبة الشعرية العربية إرثاً إبداعياً شمل: "القيثارة" (1926)، "المريض الصامت" (1928)، "أفاعي الفردوس" (1938)، "الألحان" (1941)، "نداء القلب" (1944)، "الى الأبد" (1945) و"غلواء" (1945). وله في النثر الكتب الآتية: "طاقات زهور" (1927)، "العمال الصالحون" (1927)، "الرسوم" (1931)، "روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة" (1945).

 ترجم عدداً من الروائع الغربية، وكتب مقالات متفرقة في الصحف اللبنانية منها "المعرض" و"البرق" و"العاصفة"، وأعلن صراحة أن الزوق ألهمته في إبداعه وهو يقول:

 في الطرف الشرقي من بلدتي الزوق يمتد واد مهيب يبتدئ بخلـيج جونيه الذي غنيته في "الألحان" وفي "الى الأبد" وفي كثير مما نظمت وينتهي... لا أعلـم في الواقع أين ينتهي...".

 توفي الياس أبو شبكة صباح الاثنين 27 كانون الثاني سنة 1947، بين يدي "غلواء"، غلواء التي تفتّح قلبه على حبها، وأغمض عينيه على صورتها...

تصوير: المجند انترانيك اوهانيان