رحلة في الإنسان

بين دماغ الانفعاليين وقلوبهم مسار المرض أكيد وسريع
إعداد: غريس فرح

منذ القدم، تمّت الإشارة إلى المخاطر التي تلحقها المشاعر السّلبية بصحّة القلب، لكنّ الأبحاث المخبرية التي تثبت هذا الواقع، لم تتوضّح إلاّ خلال العقود الأخيرة الماضية، أي بعد اكتشاف العلاقة المعقّدة التي تربط بين الدماغ، مركز الأحاسيس، ومحتضن خطوط الشخصية، وبين القلب، العضو المتلقّي المؤثرات الناجمة عن تفاعلاتهما.
ما هو الجديد في هذا المجال، وكيف يحدّد الباحثون العلاقــة بين الشخصيــة والطبــاع، وصحــّة القلب؟


مسؤولية الدماغ

توصّلت المعطيات العلميّة التي جمعها الباحثون في حقل الطب النفسي – الجسدي، إلى تحديد الدوافع البيولوجية التي تربط بين الشخصيةّ والطباع، وبين الاستعداد لنشوء الأمراض، وفي مقدّمها أمراض القلب. هذه الدوافع، كما أشارت مجلة العلوم الأميركية (Scientific American)، تختصر بوجود تفاعل آلي بين القلب والدماغ، وهو تفاعل يحدث عبر خلايا عصبيّة ترسل الأوامر الناجمة عن الانفعالات إلى أعضاء الجسم، وفي مقدّمها القلب. ومن هنا القول بأن الاعتقاد السائد بكون القلب هو مركز المشاعر، ينبع في الواقع من تأثّره الفوري بتداعياتها، الأمر الذي ينعكس سلبًا أو إيجابًا على وظائفه.
تأثير المشاعر السلبية على صحّة القلب، يحدث، كما تمّ التأكيد، عبر مسار التهابي مهمته تحضير الجسم من أجل إنتاج خلايا دفاعيّة في وجه الضغوط. والمعروف أن الخاضعين لهذا التأثير، هم عمومًا من أصحاب الشخصيات الانفعالية التي ترسم معالمها عوامل وراثية كامنة في الجينات، أو عوامل مكتسبة تعود إلى ظروف تكوّن الشخصية منذ مراحل الطفولة.
هذه المعرفة، كما يؤكد الباحثون، مهّدت لنشوء آمال جديدة، الهدف منها تجنيب الكثيرين مخاطر أمراض القلب. وهي آمال تترجم حاليًا عبر أساليب التأهيل النفسي – السلوكي التي تعمل على تغيير أنماط الحياة والتفكير لدى المعنيين بهذه المخاطر. ولا ينسى المعنيون أهميّة إرساء التوازن العاطفي، وبالتالي تنمية الشخصيّة السليمة نظرًا إلى أهمية دورها على صعيد سلامة الصحّة بشكل عام.

 

حتى في الرحم...
اللاّفت في الموضوع أن العلاقة بين العواطف وصحّة القلب، تبدأ عمومًا في الرحم، أي منذ اللحظة التي تنصهر فيها نبضات قلب الجنين مع نبضات قلب الأم. وهو انصهار يستمر طوال مرحلة الحمل، ويتجاوزها إلى ما بعد الولادة، وتحديدًا إلى الأشهر الثلاثة الأولى التي تليها. فخلال هذه الفترة تتفاعل نبضات قلب الأم أو الوالدين معًا، مع نبضات قلب الطفل، من أجل إمداده بالاستقرار العاطفي.
والمثير للدهشة هنا، أنّ التأثير الإيقاعي الذي يحتضن وحدة الحياة المتمثلة بنبضات القلوب، ووتيرة التنفّس، والحوار الصامت الذي تتبادله حرارة الأجسام الملتصقة أحيانًا، والمتباعدة أحيانًا أخرى، يرسيان العلاقة بين المشاعر التي يطلقها الدماغ، وتستجيب لها وظائف القلب البدائية بعفوية مطلقة.
وبحسب دراسة أجريت أخيرًا في جامعة كاليفورنيا، ونشرت بعض نتائجها مجلة «علم النفس اليوم» (Psychology Today) الأميركية، فإنّ الانصهار الحميم بين الطفل والوالدين، وتحديدًا الأم، يعتبر أساسًا لنجاح التواصل بين الطفل وعالمه الخارجي، فهو يمده بالثقة والاطمئنان، ويمنحه المناعة لمقاومة الأمراض، وخصوصًا أمراض القلب. والدليل على ذلك نتائج الإحصاءات الحديثة، والتي أكّدت بوضوح ارتفاع نسبة أمراض القلب بين الأشخاص الذين اضطروا إلى الانفصال عن ذويهم بعد الولادة، وذلك بالمقارنة مع الذين حافظوا على علاقة عائلية حميمة. وهو ما يعتبره الباحثون برهانًا قاطعًا على حساسيّة تفاعل وظائف القلب مع انعكاسات المشاعر.
في هذا السياق، تمّ التساؤل عن الأسباب التي تجعل الأطفال الانطوائيين، أكثر عرضة لأمراض القلب من أترابهم الاجتماعيين. وقد أجابت عن ذلك لاحقًا نتائج الأبحاث التي ربطت بين الخصائص الفردية ونمط التفكير، وبين المسار الإلتهابي الدماغي.

 

كيف تؤثر الشخصيّة على الصحّة؟
من المعروف علميًا أن الأفكار والمشاعر السلبيّة الناجمة عن تفاعلات الشخصيّة الاكتئابية، وخصوصًا في أثناء نوبات الحزن والغضب، تترافق مع إفرازات دماغية في مقدّمها الكورتيزول والأدرينالين، وهي إفرازات طبيعية تتسبّب بارتفاع ضغط الدّم، ودقات القلب وانتفاخ العضلات، تلبية لمواجهة الموقف الضاغط. وهذا يحصل عمومًا نتيجة دوافع فطرية مهمتها الدفاع عن النفس، والتشبّث بالبقاء. مع ذلك، فإن تواتر ردّات الفعل الدماغيّة المشار إليها، يترك آثارًا بالغة الخطورة على القلب والشرايين والخلايا العصبيّة.
وبحسب الباحث البريطاني في جامعة كولومبيا، غريغوري ميللر، فإن «الالتهاب» هو الطريق البيولوجي السريع والوحيد الذي يربط ما بين الضغوط العاطفية وأمراض القلب، والسؤال المطروح: كيف يحصل ذلك؟
عندما تكثر الضغوط، وتتفاقم معها المشاعر السلبية، يهرع جهاز المناعة إلى إنتاج خلايا دفاعيّة يمهّد لمرورها المسار الالتهابي الذي سبق وأشرنا إليه.
وفي حال تواصـل الضغوط، وتعـذّر التأقلــم معها لخلل في الشخصيّة، يضطرّ الجسم إلى تفعيل آلية الالتهاب الدماغية التي تحفّز عمل جهاز المناعة. في حال كهذه، قد تصل الخلايا الالتهابية إلى الدماغ وتتسبّب بأعراض اكتئابية. وبحسب الباحث ميللر، فقد يصل الالتهاب إلى القلب أولاً ويتصل بالدماغ عبر المسار السابق ذكره، كونه الطريق الوحيد الذي يصل بين القلب والمشاعر.
من هذا المنطلق، يصبح بالإمكان القول: إن الأشخاص المتّسمين بالتشاؤم والانطوائية وسرعة الغضب، هم أكثر استعدادًا للإصابة بالأمراض القلبية والاكتئابية من المتفائلين، أو القادرين على التأقلم مع الواقع.

 

تغييرات جذرية
ينصح الاختصاصيون أصحاب الشخصيات الانفعالية المتشنجة، والذين ثبت استعدادهم للإصابة بأمراض القلب، بالعمل على تغيير جذري في تفكيرهم وسلوكهم. وهنا بعض الإرشادات في هذا المجال:
• قبل إطلاق العنان لمشاعر الغضب والعدائية، يوصى بتغليب المنطق، فسرعة الانفعال لا تحلّ المشاكل، بل تزيدها تعقيدًا، بالإضافة إلى أنها تحطّم العلاقات، وتنمّ عن ضعف في الشخصية، وتلحق أضرارًا بالغة بالصحّة الجسدية والنفسيّة.
• لدى الشعور بالميل إلى الانفجار وملامة الذات والآخر، من الأفضل الخروج من المنزل أو مكــان العمل، فالمشي في الهواء الطلــق يهــدّئ المشاعــر.
• ممارسة الهوايات، أو تعلّم مهارات جديدة يفيد أيضًا، فالانشغال بالإبداع يبعد القلق والشعور بالنقص، ويكبح جماح العدائية والغضب.
• وضع أهداف مستقبليّة توصل إلى النجاح، فالدراسات الحديثة أولت النجاح أهميّة بالغة، لما يتركه في النفــس من ثقــة واطمئنــان، وبالتالــي من انعكاســات إيجابيــة علــى الصحّــة.
• التحلّي بالإيمان، فهو ينقّي النفس، ويبعد الصراعات النفسيّة. والصلاة من أعماق القلب، أفضل وسيلة للابتعاد عن الغضب. أمّا في حال خروج الانفعال أو المشاعر السلبيّة عن السّيطرة، فمن الأفضل استشارة أحد الاختصاصيين النفسيين للحصول على المساعدة اللاّزمة.