وجهة نظر

تركيا أمام تحديات ثلاثة: المسألة الكرديّة.. الإرهاب.. وسوريا
إعداد: جورج علم


رفضت السلطنة.. اختارت الديموقراطيّة

يعود بي الزمن إلى شهر حزيران (يونيو) من العام  2002، كنت في بروكسيل بدعوة من المفوضيّة العليا للاتحاد الأوروبي أشارك في دورة تدريبيّة سريعة مع مجموعة من الإعلامييّن العرب، حول «الشراكة الأوروبيّة – المتوسطيّة حاضرًا ومستقبلا»، ودور الإعلام في إنجاح التجربة. يومها كان الرهان قويًّا على انضمام تركيا إلى الاتحاد. ورش العمل ناشطة، فيما يتقاسم الخبراء الاختصاصيّون المكاتب، والملفات ذات الصلة لإشباعها درسًا، واستنتاج الخلاصات، وتنسيق الخطوات التنفيذيّة في حال اتخذ القرار السياسي. حتى أن الفضاء الإعلامي كان مشبعًا بالحديث عن الاحتمالات والتوقعات، وكان الصراع محتدمًا بين محورين داخل الإتحاد، الأول مع التمهّل، والإقدام بخطى هادئة، بطيئة، ولكن ثابتة موثوقة. فيما الثاني يريد الانخراط والتطبيع فورًا، على أن تعالج النتوءات والتباينات في أوقاتها؟!.


في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام (2002)، جرت الانتخابات، ونال يومذاك حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب الطيّب أردوغان 363 مقعدًا، من أصل 550، فيما فاز حزب الشعب الجمهوري ( قومي أتاتوركي) بـ178، مقعدًا، وتوزعت المقاعد المتبقيّة على الأحزاب الأخرى.
في 7 حزيران (يونيو) 2015، تغيّرت التوازنات، وتبدلت المعادلة، واحتلت مقاعد البرلمان أحزاب أربعة، نسبة مجموع أصواتها من المقترعين  95 في المئة، وقد توزّعت وفق الآتي: «العدالة والتنمية» 41 بالمئة من مجموع المقترعين، (258 نائبًا). و«حزب الشعب الجمهوري»، 25 بالمئة، (132 نائبًا). و«الحركة القوميّة» 16 بالمئة (80 نائبًا). و «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، 13 بالمئة، (80 نائبًا).


13عامًا.. ماذا تغيّر؟
مرّ 13 عامًا، وحزب العدالة والتنمية في الحكم، ولم تدخل تركيا الاتحاد الأوروبي، بل انعطفت نحو الشرق الأوسط الجديد بحثًا عن ريادة، وقيادة، ونفوذ، لعل وعسى يكون لها الحصّة الوازنة في كعكة التسوية عندما يحين أوانها في المنطقة.
13 عامًا من الصعود والتباهي بوفرة اقتصاديــة، ودور إقليمــي مؤثــر، إلى أن حملــت صناديــق الاقتــراع الكثيــر من المفاجــآت، ووضعــت حدًّا للكثيــر من الطموحــات، وقال 59 بالمئــة من المقترعين، نعم للديموقراطيّة، للتعدديّة، ولا للنظام الرئاســي، وللمنظومــة السياسيــة المتبعــة في الداخــل والخــارج.
في الداخــل، مارس 59 بالمئة حق النقض «الفيتو» ضدّ الفســاد، والتسلّــط، والاستئثار، وقمــع الحريــات، ومخططــات تحويــل تركيا إلى سلطنة، واختصار الحزب والدولة بشخص، بالإضافة إلى شبح  الفتنة المذهبيّة، والعنصريّة، والعرقيّة.
أما في ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، فقد مارس 59 بالمئة من المقترعين الأتراك حق النقض «الفيتو» ضد التورط «الفئوي» في شؤون الإقليم، ودعم الإرهــاب، وتحويــل تركيــا إلى مقــرّ وممــر للســلاح والإرهــابييّن الوافديــن من ريــاح الأرض الأربـع، للقتــال في سوريــا، أو العــراق، في صفــوف «داعــش»، و«جبهــة النصرة».

 

خلفيات وتداعيات

وفي العودة إلى لغة الأرقام، نال حزب العدالة والتنمية 21 مليونًا ونصف المليون في انتخابات العام  2011  النيابيّة، فيما نال هذه المرّة أقل من 19 مليونًا، أي أنه خسر مليونين ونصف المليون من الكتلة الشعبية التي صوتت له في 2011، وهذا تحوّل لا بدّ من قراءة خلفياته وتداعياته بصورة متأنية.


أولاً: أمام الرئيس أردوغان فرصة 45 يومًا، إما أن يشكّل حكومة، أو أن يدعو إلى انتخابات مبكرة، ولا أحد يجزم بأن نتائجها ستكون أفضل لمصلحة حزبه، وموقعه في هرمية السلطة.


ثانيًا: لقد أعطى الأكراد أوراقهم في الانتخابات الثلاثة السابقة  لـ«حزب العدالة والتنمية»، كونه كان منفتحًا تجاههم عبر طرحه الإسلامي، أكثر من «القومييّن»، و«الأتاتوركييّن»، والدليل أنه نال في انتخابات 2011، 32 في المئة من أصوات مدينة ديار بكر، و40 في المئة من فان، و32 في المئة من ماردين، و36 في المئة من باتمان. في الانتخابات الأخيرة تحوّلت هذه الأصوات إلى حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي الصاعد، وهو صعود يعيشه الأكراد في العراق ما بعد صدّام حسين، وفي سوريا ما بعد 18 آذار (مارس) 2011.


ثالثًا: تمثل أمام أردوغان المسألة الكرديّة في الداخل، كتحدّ كبير لا يمكن التعامي عنه. لقد تجاهل في السابق النصائح الأميركيّة التي حثّته على الوصول إلى تسوية، أو تفاهمات. بعد دخول الأكراد بكتلة من 80 نائبًا إلى مجلس النواب، أصبحوا هم أصحاب المبادرة، فإما الإصرار على استقلال ذاتي، كما هي الحال في إقليم كردستان العراقي، وهذا ما يرفضه أردوغان وحزبه، أو الاندماج في الدولة، ولكن مقابل حصّة وازنة في النظام، وبضمانات يكرّسها الدستور.


رابعًا: بين الرغيف والحريّة، اختار الناخب التركي الحريّة. وما بين الوفرة الاقتصاديّة التي حققها حزب العدالة والتنمية، والمسار الأمني – السياسي الذي ينتهجه على مستوى الداخل، والإقليم، انحاز الناخب التركي إلى حريته وديموقراطيته وتنوّعه. حملت صناديق الاقتراع صرخة احتجاج مدوّية ضدّ القيم التي يحاول أن يرسخها حزب العدالة والتنمية على حساب العلمنة، والانفتاح، والتحرّر. كان من الصعب الدمج ما بين الديموقراطيّة والسلطويّة، كي لا يقال «التسلطيّة»، ذلك أن الديموقراطية جاءت بالحزب إلى السلطة، لكنه مارس نوعًا من التسلّط ضدّ الإعلام أولاً، والقضاء ثانيًا، والمؤسسة العسكريّة ثالثًا، والعلمانية الأتاتوركيّة رابعًا. كانت هناك دائمًا معارك وجبهات مفتوحة لفرض خيارات حزبيّة لا تتوافق وتطلعات الأحزاب والفعاليات السياسية الأخرى، وجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة كردّة فعل على هذا النهج السلطوي التسلطي وأبعاده، وخفاياه.


خامسًا: إن المآخذ على السياسة الخارجية تركت بصماتها، وكأن الانتخابات قد تحولت بنظر بعض القوى الدولية الكبرى المؤثرة إلى محاسبة و«كشف حساب»، في ما وصفه بعض الإعلام الغربي، وتحديدًا الأميركي بـ «الإعصار الديموقراطي» الذي غيّر، وأطاح ببعض المعادلات، ليفرض أخرى تتعلق بالتسويات المرتقبة في سوريا، والعراق، ودول أخرى مأزومة تبحث عن  مخارج ما  لأزماتها.

 

الريح... والكثبان
قديمًا قيل: «وحدها الريح العاتية تغيّر شكل الكثبان؟!». هذه الحكمة يرددها اليوم الكبار في الأحزاب التركيّة، الباحثون عن الأسباب التي ولدّت «عاصفة التغيير».. وفي حسابات الربح والخسارة أن القيادة الأردوغانيّة، أمام خيارات ضيقة: إما حكومة أقليّة تؤدي إلى إنتخابات مبكرة غير مضمونة النتائج، أو ائتلاف لكن وفق دفتر شروط يرغم حزب العدالة والتنمية على تقديم تنازلات موجعة. لم تعد السلطنة مكسبًا، بل تحولت إلى أمنية. لقد فرضت نتائج الإنتخابات الأخيرة أولويات لا يمكن للحزب الحاكم تجاوزها، لا الآن، ولا في المستقبل، وهو يعرف تمامًا بأن الأمة التركيّة قد اختارت الديموقراطية، ورفضت الديكتاتورية المقنّعة. ويعرف تمامًا بأن الدساتير على قياس أوطان لا أشخاص. ويعرف بأن المزاج التركي العام يرفض تحويل بلاده إلى معبر مفتوح أمام السلاح، والمسلحين، والإرهاب، وثقافته، وأدواتــه، وإنه لا بدّ من أسلوب جديد لمقاربة العديد من الأزمات المتفاقمــة في الشــرق الأوســط، في زمــن الربيــع العربــي.