نحن والقانون

جرائم التجسس
إعداد: د. نادر عبد العزيز شافي

تعود ظاهرة التجسس في تاريخها الى العصور القديمة، حيث ترافق التجسس مع تطوّر الحياة من حالة البداوة الى الحالة الحضرية، واشتد مع بدء الحروب والغزوات الأولى؛ فالأقدمون كانوا يعتمدون عليه في حروبهم وغزواتهم، وكانوا يستعملون الحمام الزاجل لتحقيقه.

وقد تطوّرت أساليب التجسس مع تطوّر العلم والتكنولوجيا وباتت تشمل استعمال الأقمار الاصطناعية والتنصت عبر الهاتف الثابت والمحمول في أية بقعة من بقاع الأرض، الأمر الذي خفف من استخدام العناصر البشرية. لكن من الثابت في الوقت الحاضر أن للتجسس أهمية كبرى ودوراً كبيراً على صعيد الدول والحكومات والمنظمات والمؤسسات والأشخاص، وذلك في حالتي الحرب أو السلم على السواء.

 
تعريف التجسس

 يبدو من العسير وضع تعريف جامع شامل للتجسس بسبب تعدد أفعال التجسس واختلافها مما يحول دون وضعها جميعاً في قالب واحد، إذ تشكل كل حالة جريمة خاصة ومميزة عن سواها. كما أن غالبية التشريعات لم تضع تعريفاً للتجسس، بل اقتصرت على تحديد الأفعال الجرمية التي تعتبر جريمة من جرائم التجسس.

 فالقانون اللبناني الذي جرم التجسس في المواد 281 و282 و283 من قانون العقوبات الصادر سنة 1943، لم يضع تعريفاً عاماً له، وكذلك الأمر بالنسبة للقانون الفرنسي والسوفياتي سابقاً والبلجيكي والمصري...

 أما على صعيد التشريعات الدولية فقد عرّفت المادة 29 من اتفاقية لاهاي للعام 1907 الجاسوس، بأنه ذلك الذي يقوم بممارسات في الخفاء أو عن طريق الخداع أو التنكر بهدف البحث أو الحصول على معلومات من دولة بغرض نقلها أو ايصالها الى دولة أخرى عدوة. كما عرفت المادة 46 من بروتوكول 1977 الملحق لإتفاقية جنيف لعام 1949 الجاسوس بأنه ذلك الذي يجمع أو يحاول جمع معلومات ذات قيمة عسكرية، في الخفاء أو باستعمال الغش والخداع. وبالرغم من عدم الاتفاق على تعريف موحد للتجسس، فالمتفق عليه هو اعتبار التجسس من الجرائم المخلة بأمن الدولة الخارجي.

 
أنواع التجسس

 تتعدد أنواع التجسس، وأهمها:

1-­ التجسس العسكري: كان التجسس العسكري من أول أنواع التجسس وأقواها، فكل دولة تسعى للحصول على المعلومات العسكرية الضرورية عن الدول المعادية والصديقة على حد سواء. والتجسس العسكري أو الحربي يهدف الى معرفة أسرار الدول الأخرى المتعلقة بالجيوش والأجهزة العسكرية والخطط الحربية والأسلحة والصواريخ والذخائر والقنابل الذرية والتجهيزات والمواقع والعديد والعدة العسكرية، وقد أعطت العديد من الدول التجسس العسكري رعاية مميزة من خلال رصد الأموال، وإنشاء دوائر ومكاتب مختصة بشؤون التجسس، وتدريب الجواسيس، وتنظيم شبكات التجسس بصورة علمية دقيقة. ولا يقتصر التجسس العسكري على زمن الحرب بل ينشط أيضاً في زمن السلم تحسباً للحرب وتوخياً لتحقيق المخططات العسكرية. وقد قال أحد العلماء إن الحروب هي من صنع الجواسيس والجواسيس المضادين.

2-­ التجسس الإقتصادي: لم تعد الحروب تقتصر على النواحي العسكرية بل تخطتها الى الشؤون الإقتصادية. ويهدف التجسس الإقتصادي الى الوقوف على المقدرات الإقتصادية للدول الأخرى العدوة والصديقة، لمعرفة مواردها وثرواتها ووضعها المالي والنقدي ومستوى تجارتها وصناعتها وزراعتها وطرق استثمارها وتحويلها.

3-­ التجسس العلمي: تمارس الدول ­ خصوصاً الدول العظمى ­ التجسس العلمي بهدف الإطلاع على الأسرار العلمية وسرقتها، أو بهدف اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمواجهتها. ويهتم التجسس العلمي بالكشف عن الأبحاث والدراسات والاختراعات العلمية على الصعد كافة العسكرية والصناعية وغيرها.

4-­ التجسس السياسي: لا يقل التجسس السياسي خطورة عن أنواع التجسس الأخرى، وهو يرمي الى مراقبة أوضاع وأسرار سياسات الدول الأخرى، إن على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي. ويتم التجسس السياسي من خلال رصد تحركات ونشاطات ومواقف القادة والزعماء والحكام والأحزاب والمنظمات السياسية والأمنية. وهو يهدف الى التحكم في سيادة الدول واتجاهاتها، أو الى اغتيال بعض السياسيين أو الى زرع بذور الفتنة، أو تحطيم الأنظمة السياسية المعادية.

5-­ التجسس الديبلوماسي: هو التجسس الذي يمارسه أفراد البعثات الديبلوماسية، ويتمثل في جمع المعلومات بطريقة غير قانونية من دون أن يخفي القائمون به صفتهم الديبلوماسية، مما يميزه عن صور التجسس الأخرى، ويصنف ضمن التجسس زمن السلم. ويذخر تاريخ العلاقات بين الدول بالمشاكل والنزاعات الناجمة عن التجسس الديبلوماسي. ومن الأمثلة على ذلك، النزاع الذي وقع بين كندا وكوبا في العام 1978 نتيجة قيام كندا بطرد مبعوث ديبلوماسي وقنصلين كوبيين لقيامهم بالتجسس ضد المعارضة الأنغولية في كندا. وقيام الحكومة السوفياتية سنة 1964 باعتقال ديبلوماسيين غربيين تورطوا في عملية تجسس داخل الاتحاد السوفياتي السابق بجمع معلومات سرية خاصة بالدفاع وقواعد الرادار والمطارات والأنفاق والجسور، بواسطة آلات تصوير متطورة ومجهزة بتقنية عالية. وقد أثبت التاريخ أن المبعوثين الديبلوماسيين كثيراً ما يمارسون التجسس نظراً لوضعهم القانوني الخاص، وللعلاقة الوثيقة بين الوظائف الديبلوماسية والتجسس، ولتمتعهم بالحصانات والامتيازات الديبلوماسية المكرسة باتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية للعام 1961. لكن قيام المبعوثين الديبلوماسيين بخرق مبادئ ونصوص الاتفاقية المذكورة من خلال التجسس يشكل عملاً خارجاً عن نطاق الوظائف الديبلوماسية وتعسفاً في استعمال الامتيازات والحصانات، لذلك فهو يعتبر عملاً غير مشروع.

 وبالرغم من اعتبار التجسس جريمة معاقب عليها، فمن غير الممكن من الناحية الإجرائية ملاحقة المبعوث الديبلوماسي قضائياً ومعاقبته لأنه يتمتع بحصانة قضائية مطلقة وفقاً للمادة 31 من اتفاقية فيينا للعام 1961. وهذا ما يفسر قيام أغلبية الدول بطرد المبعوثين الديبلوماسيين عند تورطهم في عمليات تجسس، ومن الأمثلة على ذلك: قيام الحكومة بالبريطانية بطرد 105 مبعوثين سوفياتيين عام 1971، و25 عام 1985. وقيام الحكومة البوليفية بطرد 49 مبعوثاً سوفياتياً عام 1972، وكذلك طرد حكومة الولايات المتحدة الأميركية 100 مبعوث سوفياتي عام 1986، و50 عام 2001. وقد تلجأ بعض الدول الى طلب تخفيض عدد أفراد البعثة الديبلوماسية، أو التنازل عن حصانة المبعوث، أو قطع العلاقات الديبلوماسية بين الدولتين المضيفة والموفدة، أو اعتبار المبعوث شخصاً غير مرغوب فيه فتجبر دولته على سحبه وفقاً لاتفاقية فيينا للعام 1961.

 

حالات وأركان جرائم التجسس

رغم أن القانون اللبناني لم يضع تعريفاً عاماً لجريمة التجسس، كالعديد من تشريعات الدول الأخرى، إلا أنه حدد الأفعال الجرمية التي تشكل جريمة من جرائم التجسس. وقد نص في المواد 281 و282 و283 من قانون العقوبات على تلك الأفعال، وهي على الشكل الآتي:

 

1-­ الدخول أو محاولة الدخول الى الأماكن المحظورة بقصد التجسس:

 نصت المادة 281 من قانون العقوبات على أنه: "من دخل أو حاول الدخول الى مكان محظور قصد الحصول على أشياء ووثائق ومعلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة، عوقب بالحبس سنة على الأقل، وإذا سعى قصد التجسس فبالأشغال الشاقة الموقتة". وبالتالي فإن الركن المادي لهذه الجريمة يتمثل في الدخول أو محاولة الدخول الى مكان محظور، لكن المشترع اللبناني لم يحدد صراحة الأماكن التي يحظر الدخول إليها، إذ يعود أمر تحديدها للسلطات المختصة، خصوصاً الى السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها. ومن المعروف أن الأماكن التي يحظر الدخول إليها تكون عادة المناطق والثكنات والمنشآت العسكرية وملحقاتها. إضافة الى بعض الأماكن المحددة في المطارات والمرافئ وبعض الوزارات والإدارات والدوائر الرسمية، التي تتخذ طابع السرية لما تحتويه من أسرار يجب أن تبقى مكتومة لتعلقها بقضايا الدولة العسكرية والسياسية والإقتصادية وغيرها.

 ولا يجوز الدخول الى الأماكن المحظورة إلا للأشخاص المخوّلين الدخول إليها كالعسكريين والموظفين والعاملين والمرخص لهم من السلطة المختصة. أما غير هؤلاء فيحظر عليهم دخول تلك الأماكن تحت طائلة الملاحقة والمساءلة الجزائية. ولم يُشر المشترع الى الوسيلة المستعملة للدخول أو لمحاولة الدخول الى الأماكن المحظورة، سواء كان ذلك بالطرق العادية أم بالإحتيال والتخفي والتنكر. كما أن المشترع اللبناني ساوى في هذه الجريمة بين ارتكابها وبين محاولة ارتكابها، سواء كانت ناقصة أم فاشلة أم حال دون ارتكابها بسبب خارج عن إرادة الفاعل.

 وتتطلب المادة 281 عقوبات توفر القصد الجرمي، الذي يشكل الركن المعنوي في هذه الجريمة، وهو قصد الحصول على أشياء أو وثائق ومعلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة، كالأسرار العسكرية أو المتعلقة بالدفاع الوطني أو الأسرار السياسية أو الديبلوماسية أو الإقتصادية أو الصناعية أو غيرها. ويعود للمحكمة تحديد مدى السرية بالاستناد الى قرارات وتوجهات السلطات المعنية ضمن اختصاصها.

 

2-­ سرقة الأسرار أو الاستحصال عليها:

نصت المادة 282 من قانون العقوبات اللبناني على أنه: "من سرق أشياء أو وثائق أو معلومات كالتي ذكرت في المادة السابقة، أو استحصل عليها، عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة. وإذا اقترف الجناية لمنفعة دولة أجنبية عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة". وبذلك، فإن سرقة الأشياء والوثائق والمعلومات التي يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة، أو الاستحصال عليها، يعتبر جريمة من جرائم التجسس وفقاً للمادة 282 عقوبات. وتتمثل السرقة بأخذ الأسرار خفية أو عنوة أو من دون وجه حق من شخص لا صفة له في الحصول عليها، أكان لبنانياً أم أجنبياً، وسواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبأية وسيلة كانت، كالتسجيل أو التصوير أو الرسم أو غيرها، وسواء ارتكب الفعل الجرمي بصورة بسيطة أو معقدة أو بواسطة الاحتيال أو التنكر أو القتل أو انتحال صفة. فالفاعل يعاقب على جريمة التجسس هذه وعلى الجريمة المستقلة الأخرى التي ارتكبها.

وفرّقت المادة 282 عقوبات بين الفعل البسيط في سرقة الأسرار أو الاستحصال عليها الذي لا يقصد منه تسليمها الى الغير فيعاقب عليها بالحبس من شهرين الى سنتين، وبين حالة الفعل المشدد في السرقة والاستحصال على تلك الأسرار بقصد تسليمها الى دولة أجنبية فيعاقب عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة. ويجب تفسير الدولة الأجنبية بأية دولة صديقة كانت أم محايدة أو معادية على السواء، لأن تلك الأسرار يجب أن تبقى مكتومة لتعلقها بسلامة الدولة التي سرقت منها الأسرار.

 

3-­ ابلاغ أو إفشاء الأسرار من دون سبب مشروع:

نصت المادة 283 من قانون العقوبات اللبناني على أنه: “من كان في حيازتهم بعض الوثائق أو المعلومات التي ذكرت في المادة 281 فأبلغه أو أفشاه من دون سبب مشروع، عوقب بالحبس من شهرين الى سنتين. ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة خمس سنوات على الأقل إذا أبلغ ذلك لمنفعة دولة أجنبية، وإذا كان المجرم يحتفظ بما ذكر من المعلومات أو الأشياء بصفة كونه موظفاً أو عاملاً أو مستخدماً في الدولة، فعقوبته الاعتقال المؤقت في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الأولى والأشغال الشاقة المؤبدة في الحالة المنصوص عنها في الفقرة الثانية. وفي حال لم يؤخذ على أحد الأشخاص السابق ذكرهم إلا خطأ غير مقصود، كانت العقوبة الحبس من شهرين الى سنتين". ويقصد بالإبلاغ أن يتم إيصال الأسرار الى الغير بأية وسيلة كانت، كالاتصال أو الإرسال أو التسليم. أما الإفشاء فهو البوح بالسر الخفي أو نشره أو إذاعته أو كشفه ليصل الى علم الغير ممن لا يجوز له الإطلاع عليه. ويجب أن يحصل الإبلاغ والإفشاء للأسرار من دون سبب مشروع. ويعود تقدير السبب المشروع للمحكمة الناظرة بالقضية بالإستناد الى توجيهات وقرارات السلطة المختصة. فإذا قام أحد الأشخاص الذين يحوزون بعض الوثائق أو المعلومات السرية، بالإبلاغ أو الإفشاء بأمر مشروع من السلطة المختصة، لا يكون قد اقترف جريمة التجسس المنصوص عليها في المادة 283 عقوبات لانتفاء السبب غير المشروع. ومن الأمثلة على ذلك الإبلاغ عن قيام الوحدات العسكرية بمناورات لمنع وقوع الذعر لدى أبناء المنطقة المجاورة، حتى لو وصل ذلك الخبر الى جيش العدو بواسطة أحد عملائه.

وقد فرّقت المادة 282 عقوبات بين الأفعال الجرمية التي يرتكبها الأشخاص العاديون وبين تلك التي يرتكبها الموظفون أو العمال أو المستخدمون في الدولة. فإذا قام الشخص العادي غير الموظف أو العامل أو المستخدم في الدولة بإبلاغ أو إفشاء الأسرار التي في حوزته من دون سبب مشروع، عوقب بالحبس من شهرين الى سنتين، وإذا كان الإبلاغ أو الإفشاء لمنفعة دولة أجنبية عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، سواء أكان الفاعل وطنياً أم أجنبياً، ولا فرق إذا ارتكب الفعل الجرمي داخل الأراضي اللبنانية أو خارجها، وفي زمن السلم أو في زمن الحرب.

 أما إذا قـام بهذه الأفـعال موظف أو عامل أو مستخدم في الدولة، فالعقوبة تصبح الاعتقال المؤقت إذا لم يكن قد حصل لمنفعة دولة أجنبية، والأشغال الشاقة المؤبدة إذا حصل لمنفعة دولة أجنبية. والموظف أو العامل أو المستخدم هو من يقوم بخدمة عامة في أحد مرافق الدولة، سواء كان ذلك بصورة دائمة أم مؤقتة. وإذا ارتــكب الفـعل الجـرمي بالإفشـاء أو الإبـلاغ نتيـجة خطـأ غير مقصـود ناجم عن إهمـال أو قـلة احتـراز ومن دون قصـد، تصـبح العقـوبة الحبـس من شهرين الى سنتين. وتجدر الإشارة أخيراً الى أن جرائم التجسس هي من صالحية القضاء العسكري وفقاً للفقرة الثانية من المادة 24 من قانون القضاء العسكري رقم 24 /1968 المعدل بالقانون رقم 306 /2001.