ثقافة وفنون

خليل رامز سركيس المفكر المؤمن
إعداد: وفيق غريزي

خليل رامز سركيس، علم من أعلام الحركة الثقافية اللبنانية، وصحافي لامع أغنى  المكتبة الثقافية بعطاءات أدبية مهمة. ولد خليل رامز سركيس في بيروت عام 1921، درس في جامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت. جدّ أبيه لوالدته المعلم الكبير بطرس البستاني. وجدّه خليل خطار سركيس انشأ جريدة «لسان الحال» البيروتية في العام 1877، وأنشأ المطبعة الأدبية، أما والده رامز سركيس الذي ورث عن أبيه «لسان الحال» من 1919 الى 1941، فانتخب نائباً عن بيروت، وعيّن وزيراً للتربية الوطنية.
من 1942 حتى 1959 تولى خليل رامز سركيس رئاسة تحرير جريدة «لسان الحال» وهو المستشار الأدبي «للندوة اللبنانية». تزوج العام 1959 جوان وديع واكد ولهما ولدان. بعض مؤلفاته ترجم الى لغات عديدة منها الفرنسية والانكليزية، والاسبانية والبرتغالية والإيطالية.
يعتبر خليل رامز سركيس أن حياة الأديب في مؤلفاته، أكثر مما هي في سيرته وأخباره. مؤلفاته: «صوت الغائب»، «من لا شيء»، «أيام السماء» «وصية في كتاب»، «أرضنا الجديدة»، «مصير» و«جعيتا».


بعيداً عن المادة

ابتعد خليل رامز سركيس في كتاباته عن المادة، متطلعاً الى التسامي والرقي، ففي كتابه «أرضنا الجديدة» حاول أن يوجّه أنظار الإنسان الى الرؤى، والى مجالات جديدة، بعيداً عن جاذبية المادة. ولقد أخذ عنوان الكتاب من رؤيا يوحنا. في «أرضنا الجديدة» فتح جديد لسعادة الإنسان، الذي لم يعد في صراع مع الكون، بل في حوار مثير ومثمر، ومحبة توازي محبته لنفسه، فإذا بالكون والإنسان يتناغمان في خلجة واحدة: الإنسان بمدى الكون، ورحابة الديمومة، والكون بروح الإنسان. واذا بالسماء كما يقول خليل رامز سركيس: «تبذر نفسها في الأرض رحمة، والأرض تثمر نفسها محبة، والى السماء ترتفع». بذلك يدل سركيس الإنسان على طريق سعادته الخالدة، ولكن يفرض عليه شرطاً واحداً لبلوغ هذه الغاية، وهو الإيمان الكامل باتحاد جوهري بين المادة والروح».

وحسب رأيه، فإن المؤمن وجد وجهاً من تجربة الإيمان، وغير المؤمن وجد التجارب التي يمرّ بها المؤلف قبل أن يؤمن، وإن كان لم يشارك الكاتب في إيمانه. وأما كيف يصبح القارئ واحداً من إثنين، فذلك أن كتاب «أرضنا الجديدة» يفترض على قارئه - مؤمناً كان أم غير مؤمن - مستوى من الإطلاع الفلسفي والفكري القديم والحديث. ولهذا فنحن ننتظر من القارئ أن يبذل جهداً فكرياً في مطالعة مؤلفات سركيس.


الوعي وعلاقة الإنسان بالكون

بين الإكتشافات الحديثة، والوعي الفلسفي، عند الإنسان الحديث، وشائج متبادلة التأثير، والمشاركة. فيرى خليل رامز سركيس أن الوعي الفلسفي المعاصر أثر في الإكتشافات الحديثة التي بدورها أثرت في الوعي الفلسفي المعاصر. مثال ذلك: تيار دي شاردان وآنشتين. فدي شاردان، بآرائه العلمية وجرأته الفلسفية، شارك في الإكتشافات الحديثة مشاركة يزداد تأثيرها مع الأيام. وآنشتين، بنظريته النسبية وعلاقة الزمان بالمكان في ما يصنع الدوام، كانت له مشاركة مسؤولة في التفكير المعاصر، ولا يخفى أن الإكتشافات الحديثة ولدت أول الأمر في أشكال أفكار، ولم تولد في أشكالها المادية. يجوز أن نقول إن التفكير الفلسفي قد شارك في الإكتشافات الحديثة، وفي الوقت نفسه، يمكن القول ان الإكتشافات الحديثة قد شاركت في التفكير الفلسفي، وفي سائر ضروب التفكير والتعبير الفني والعلمي. أما علاقة الإنسان بالكون فهي قديمة قدم الإنسان وهي علاقة طبيعية مادية شبه عضوية، تتصل بالعالم الخارجي. وهي فوق هذا علاقة روحية فكرية، تتناول ما فوق الطبيعة. وحسب إعتقاد خليل رامز سركيس فإن العلاقة المادية تخضع لأحكام العقل، والتجارب الحسيّة، والقياسات المادية. والعلاقة الروحية على ما لها من أحكام ومجريات، لا تخضع لأحكام العقل وحده، بقدر ما تخضع لتجربة الإيمان، فالمقصود بالكون ما هو كائن، مادياً كان أم روحياً، وهذا ما يفسّر جعلنا العلاقة على وجهين، غير أنهما وجهان لا يتجزأ جوهرهما.

ويتناول المفكر والأديب خليل رامز سركيس مشكلة القلق التي تلازم العصر رغم وصول الإنسان الى معرفة حقائق الكون نسبياً. وحسب رأيه، فإن القلق لم يلازم عصرنا وحده دون سائر العصور، بل القلق قديم قدم الوجود. الإنسان يقلق، الحيوان لا يقلق، فالقلق إذاً، هو علامة الإنسان فينا. وأما القلق المعاصر، فليس له سبب واحد، ولكن له أسباب كثيرة. هناك القلق الميتافيزيقي، وهناك القلق الوجودي، وهناك القلق الإجتماعي، والقلق الإبداعي، وغيرها من ألوان القلق. على أنه يمكن اختصار القلق بقولنا: إنه صراع الإنسان مع نفسه أو مع غيره من الناس أو الكائنات، وربما كان صراع الإنسان المعاصر مع الطاقات التي فجّرها عقله، من أهم أسباب القلق، لأنه كلما ازداد وعي الإنسان كلما ازداد قلقه.


الإنسان الجديد

الإنسان، عاملاً لأرضنا الجديدة، يتحد بعمله حتى القداسة، ولخليل رامز سركيس نظرة قد تختلف عن نظرات غيره إزاء هذه المسألة فهو يقول: «يا لعمل القداسة في وعينا غاية الوجود، وفي محاولتنا إياها وسيلة للكمال! القداسة ليست وقفاً على محترفي الصلاة، بل إنها، أيضاً، من حق الذين بأعمالهم يصلّون. لا ننتظر فراغنا من العمل حتى نصلّي، بل فلنذهب إلى عملنا وصلاتنا معنا فنؤديها بكل شأن لنا. فإذا صلى العالم كله وهو يعمل، كان عمل العالم قداسة كلّه، ولم يكن العالم بعيداً عن الله، ولا كان الله بعيداً عن العالم. ولكن، أما للصلاة من أوقات؟ أما كنا نلبث زمناً بغير صلاة، لو كنا لا نصلي إلا بأعمالنا؟». هذه الأوقات المقدسة لدى سركيس هي التي تحدونا على العمل الصلاة. إنها العبادة بالقوة، والعمل هو الصلاة بالفعل. كلاهما يجعل الله حضوراً لا يقتصر على الخالق، بل يتعدّاه الى الإنسان. فلكي ندخل الملكوت يوماً، يجب أن نقبل الله كل يوم، فنعدّ له الطريق، لا إلى أنفسنا وحدها، بل كذلك إلى سائر الناس.

والعوامل التي انعكست في آثار خليل رامز سركيس الكتابية، ليست شيئاً جامداً، يظل هو إياه على توالي المؤلفات، وإنما هي على وفائها للفكرة الرئيسية التي توجب عمله الأدبي، تستمد حركتها من حركة الحياة نفسها في تطورها وتجددها، وكأنها لعبة الفصول على توالي العمر. وإذا شئنا المزيد من التخصيص والتحديد، جاز لنا القول أن العامل الأول الذي هو خلق أدبي، هو علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الله بالوجود، من خلال المخلوق الناطق. هذه المعضلة التي عاناها أديبنا، هي أنه آمن بالعقل في خدمة العلم، وإيمانه بالعلم لخدمة الإنسان، فالتجربة العقلية بنظره ليست غريبة عن العالم الذي يعيش فيه، وكأنه لفظ تمرس به، أبدعه على نحوه الخاص من خلال النحو الإنساني العام الذي يتوق إليه. ثم أخذت فكرة الله والإنسان تتجلى أكثر فأكثر، في مؤلفات تالية، وخاصة، فقد تجلت فكرة الله والإنسان، تجلياً وجودياً، في كتابه الأخير «أرضنا الجديدة». فإذا هو يحاول أن يؤدي ما في الأرض من معاني السماء. من هنا نصل الى ناحية مهمة من نواحي التفكير الذي لازم سركيس، هذه الناحية أدت به إلى الإيمان بأنه لا بد للإنسان، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً في أغلب الظن، من أن يرى بعض أيام السماء، وأن يطير الى الأرض الجديدة.