قصة قصيرة

خير جليس
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

أتتنا أمس إحدى الصديقات زائرةً بعد غياب طويل. هذه الصديقة عرفتُها مذ كنت شابًّا، وكانت هي في مقتبل العمر، صبيّة صبيحة الوجه متناسقة القسمات. لكنّ عيبها أنها تتكلّم كثيرًا، وأكثر كلامها ممّا لا يهمّ السامع من قريب أو بعيد. بمعنى آخر، هذه الفتاة تثرثر. وكنت كلّما جالستُها، قفزتْ إلى خاطري فجأةً حِكَم وأمثال حفظتُها، نحو: «إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب»، و«الصمت زين العالِم وسِتْر الجاهل»، و«المرء مخبوء تحت لسانه لا تحت طيلسانه»، وحضرني قول الشاعر:
خيرُ الكلامِ قليــــــــــلُ   على كثيرٍ دليلُ
وفي الكلامِ فُضولٌ    وفيهِ قالٌ وقيــــلُ.
وإذ اجتمع في لينا كمال الشكل ونقص العقل، فقد صحّ فيها قول أبي نواس:
فخيرُ ذا بشرِّ ذا          وإذا اللهُ قد عفا.
​لكنني كنت، في كلّ مرّة، أجد لصديقتنا الأعذار: «ما زالت صغيرة. للعمر حقّ. غدًا تكبر وتنضج، وتمسك بناصية العِلم إلى جانب هذا الجمال. وأيّ تاج أعزّ من هذين!!».
​وكبرت «لينا»، وتزوّجت، وسافرت مع زوجها إلى أوستراليا، وأنجبت بنينًا وبنات. وبعد انقطاع أخبارها لأكثر من ثلاثين عامًا، عادت وسألت عنّا. لا أعرف كم مرّة زارت لبنان من قبل ولم تسأل. لكن هذه المرّة سألت، واتّصلت، وجاءت تزورنا في بيتنا؛ فرحّبنا بها أجمل ترحيب. وكم ذهلتُ عندما رأيتها!! يا ألله أين ذلك الجمال الأخّاذ!! كيف ذَوَتْ تلك الأقحوانة وجفّت عروقها! لا، هذه المرأة التي أمامي اليوم ليست لينا التي كنت أعرفها منذ زمن بعيد. العينان النجلاوان الخضراوان ابتلعتهما فوهتا محجرَين عميقَين. والوجه النضر كأنما عركتْه كفّ قويّة فخلّفت فيه تجعّدات لا لون فيها ولا حياة. لكن عندما بدأت صديقتنا تتكلّم من دون توقّف وتقفز من موضوع إلى آخر من غير رابط، قلتُ والله لو سمعتُها تتكلّم بين آلاف النساء لعرفتُها، وإنّ الوجوه تتغيّر أما الطبائع فلا، وإنّ خير الورود ما كان عطرًا؛ فإن يبس الورق وبهت اللون، بقي العطر. أما لينا فلا عطر كان ولا ورق ولون بقي.
​بعدما سلّمتُ عليها وسألتها عن أحوالها، تركتُها مع زوجتي وذهبتُ لبعض شأني. لكنّ خلوتي لم تدُم طويلًا، إذ ما كادت القهوة تحضر حتى استُدعيتُ للمشاركة في احتسائها؛ فجئت. وقبل أن أتلفّظ بعبارة ترحيب جديدة، تولّت لينا الكلام، قالت: «زوجتك هذه ملاك من دون جناحين. والملائكة قد يكونون على الأرض مثلما هم في السماء. أنظرْ إلى فوق. أترى هذه النجمة اللامعة المنفردة؟ هذه أمّي. أسامرها كلّ مساء. لقد ربّتْنا- رحمها الله- في بيت صغير: غرفتا نوم، وغرفة استقبال، ومطبخ. هكذا كانت معظم بيوت ضيعتنا. لكن اليوم ثمّة أبنية عالية كثيرة قامت. الزمن تغيّر. الأرض تغيّرت، حتى المناخ. لم يكن شهر حزيران في لبنان حارًّا بهذا المقدار من قبل. لكنّ الحرارة هنا لا تُقاس بتلك التي تضرب أوستراليا في كانون وشباط. الصيف عندكم هو شتاء عندنا. وصيفنا شتاء عندكم. في أوستراليا يأتي بابا نويل بالشورت. ما زال الأطفال يعتقدون أنه يهبط عند منتصف الليل عبر داخون المدفأة. أنا لم أُقِم في بيتي مدفأة. لا أحبّها، لأنها تملأ الغرفة دخانًا. الدخان يضايقني. في الثلاثينات من عمري كنت أدخّن علبة كاملة في النهار. أما اليوم فما عدتُ أمسك السيجارة بأصابعي. التدخين يؤدّي إلى أمراض خطرة، وبالتالي إنفاق أموال تعبنا على الأدوية والطبابة. لا أوقع الله أحدًا بيد طبيب أو حكومة. أتقول إنّ تأليف الحكومة في لبنان بات وشيكًا؟ أنا أقول أنْ لا. كلٌّ يسحب اللحاف صوبه. رحمكِ الله يا أمّي. كانت تصنع لنا اللُحُف من الصوف. إنها الآن في السماء. هي تلك النجمة التي أسامرها كلّ ليلة. أسمع صوتها تسبّح الله مع الملائكة. الملائكة هم على الأرض أيضًا، وزوجتك هذه واحدة منهنّ».
​- منهنّ أم منهم؟ ماذا تقولين في جنس الملائكة؟ أسمعتِ يومًا بالجدَل الذي كان يدور حول هذه المسألة؟ سألتُ وندمتُ لأنني وجدتُ نفسي مجبَرًا على سماع الجواب. وأيّ جواب!!
​- في الحقيقة أنا لا أحبّ الخوض في هذا الموضوع، ولا ذِكْر هذه العبارة أو سماعها حتى. نحن راشدون وقد نتفهّم الأمر. لكنْ لنا أولاد علينا أن نربّيهم تربية صالحة، وألا نفسد أخلاقهم منذ صغرهم. ولكن ما نصلحه نحن في البيت يفسده المعلّمون في المدرسة. فأيّ معلّمين هم وأيّ تربية هي!! تصوّرْ أنهم يشرحون للتلامذة دروسًا في «لا النافية للجنس» واسمها وخبرها. اسمها والله معيب، وخبرها كلّه شؤم. ألا يستحيون؟! والغريب أنّ لجان الأهل لا يرتفع لها صوت احتجاج. هذا والله آخر الأزمنة.
​عندئذٍ أفلتت مني ضحكة؛ فقالت لينا: «إضحكْ. إنّ شرّ البليّة ما يُضحك. أتعرف؟ الضحك يُطيل العمر. إلا أنّ الأعمار بيد الله خالق السموات والأرض. الأرض أصبحت في هذا الزمن الرديء فاسدة. والفساد مُعدٍ: تفّاحة واحدة مهترئة تفسد مئة صالحات. ومئة تفّاحة سليمة لا تصلح واحدة فاسدة. مساكين هم مزارعو التفاح في لبنان. يا لضياع أتعابهم! أصداء خسارتهم وصلت إلينا في أوستراليا. أين الدولة تعوّضهم ما خسروه! على أيّ حال فالزراعة مثل التجارة: فيها ربح وفيها خسارة. ولكن ما يفيد الإنسان إذا ربح العالَم وخسر نفسه! النفس أمّارة بالسوء دائمًا. لذلك»...
​- أعتذر منكِ أيتها الصديقة. هكذا قاطعتُها، وأضفت من غير أن آخُذ نفَسًا مخافة أن تجذب طرَف الحديث مجدّدًا: «لديّ والله عمل مُلحّ لم يعُد يحتمل التأجيل». ثم انسحبتُ إلى غرفتي شاكرًا ربّي على خلاصي من هذه الجلسة بأقلّ وجع رأس ممكن. لكنّي حملتُ همّ زوجتي التي كان عليها أن تصبر لثلاث ساعات اُخَر قبل أن تنصرف صديقتنا مودّعةً وواعدةً بزيارة ثانية قريبة.
​ما كاد وجع رأسي يتلاشى حتى أتاني زائر آخر من غير ميعاد. إنه رستم المعروف في القرية بشطحاته. ومخافة أن يبدأ بغوص أعماق المحيطات وتسلّق أدراج السماء واكتشاف غابات الأمازون العذراء، أدرتُ التلفاز بجهاز التحكّم: «لنرَ أين أصبحت الاستعدادات الأميركية في الكويت. يبدو أن غزو العراق بات وشيكًا... شوارزكوف ينام وينهض وفي رأسه يدور تساؤل واحد: ماذا لو بدأت الحرب الآن؟».
​- هذا الدبّ الروسي يعرف ماذا يفعل. القيصر يثق فيه ثقة عمياء. لذا أقول إن الأميركيين سيقعون في مصيدته.
​- رستم صديقي، حبيبي. شوارزكوف هذا هو القائد العامّ للقوّات الأميركية. اسمه كأسماء الروس، لكنه أميركي. ثم إنك على أيّ قيصر تتكلّم!! نحن في العام 2003، وزمن القياصرة ولّى منذ الثورة البولشفية في العام 1917 يا رجُل.
​- أتظنّني لا أعرف!! كنتُ ألعب بأعصابك قليلًا، أجاب وضحك. ثم أضاف: ما هذه الألعاب المضحكة التي يحملها هؤلاء الجنود المساكين! أوليست بنادق م 4 السريعة العطب؟
​- بل م 16.
​- أين هي من تلك التي كان يحملها جدّي- رحمه الله- أيّام ابراهيم باشا! كانوا يسمّونها ابراهيمية نسبةً إليه.
​- ابراهيم باشا يا صديقي خرج من لبنان في العام 1840، أكان جدّك في جيشه؟!!
​- عفوًا، أيّام الفرنسيين.
​- هذا معقول أكثر.
​- لقد كان، رحمه الله، أمهر قنّاص في فرقة الشرق الفرنسية. قميصه، لناحية الصدر، لم يعُد يتّسع للنياشين والميداليات التي منحوه إيّاها تقديرًا لشجاعته ومهارته. وذات مرّة استدعاه قائد الفرقة إلى مكتبه وهنّأه شخصيًّا، وقال له: اتّكالي عليك وحدك يا شاكر. هؤلاء الأولاد في الفرقة لا يفيدونني في شيء.
​- أحقًّا؟
​- لم تسألني ما كان سبب التهنئة.
​- ما كان؟
​- ثمّة قنّاص في الفيلق الثالث الذي كان يقوده جمال باشا...
​- الفيلق الرابع يا رستم.
​- عفوًا. لقد زلّ لساني. ذلك القنّاص كان قد جعل مكمنه في محراب حصين يشرف على إحدى الطرقات المؤدّية إلى معسكر الفرقة. فما كان راجل أو خيّال يمرّ إلا يطلق عليه النار. وقد أصاب الكثيرين من غير أن يتمكّن منه أحد من عناصر فرقتنا. ولما عيل صبر القائد، طلب من جدّي القضاء عليه. يومذاك قال له: «لا أعرف ما عليك أن تفعل. أريد رأس هذا الرجُل اليوم». فما كان من جدّي- طيّبَ الله ثراه- إلا أن أعدّ حشوة بارود قويّة ملأ الخرطوشة النحاسية بها تاركًا بعض الفراغ للرصاصة، ثم تسلّق مرتفعًا، وسند البندقية على صخرة واطئة انبطح خلفها، وقال: «ضعْ يدك معي يا ألله». وسدّد وضغط على الزناد. وإذا الرصاصة تخترق خوذة ذلك التركيّ وتفجّر رأسه... أتعرف كم كانت المسافة؟
​- كم؟
​- مقدار ما يبعد بيت عبده يونس في أوّل الضيعة لجهة الشرق عن مزرعة الدواجن لجهة الغرب.
​- خمسة آلاف متر!!
​- ربما كانت أقلّ ببضعة أمتار.
​- رستم!!
​- حسنًا. لنَقُلْ إنها تساوي أربعة آلاف وسبعماية متر. بمَ أُقسم لك؟
​- صادق من غير قسَم. يبدو أنه كان لجدّك عينا صقر لا إنسان. أوَيتحدّثون بعد عن زرقاء اليمامة!!
​- وإليك عن جدّي هذه الرواية أيضًا.
​- إسمعْ. يمكنك أن ترويها لي في فرصة ثانية. الآن دعنا نصغي إلى وجهة نظر هذا الرجُل في ما يجري. إنه خبير استراتيجي مشهود له.
​- خبير استراتيجي!! قال رستم مبتسمًا وهزّ رأسه استنكارًا، وأردف: إذا أردتَ أن تعرف ما سيحدث هناك بكلّ تأكيد، فأنا أخبرك.
​- أرجوك، دعنا نسمع ما سيقول الخبير.
​عندئذٍ سكت صاحبي على مضض، وأنصت مثلي. قال «الخبير» لمحاورته: «انظري معي إلى الخريطة. هذا نهر دجلة هنا»، ومرّ برأس عصاه الطويلة على مجرى النهر، وتابع: هذا مانع طبيعي قوي. إذا حاولت القوّات الأميركية اجتيازه، فستتكبّد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد قبل أن تعود أدراجها مهزومةً شرّ هزيمة.
​- ولكن ألا تعتقد، حضرة الخبير، أن الأنهار لم تعُد تشكّل عوائق مهمة أمام الجيوش الكبرى كجيش الولايات المتّحدة؟
​- دجلة ليس مجرّد نهر عادي. مجراه واسع وعميق. لذلك أقول إن ضفّتَيه ستغرقان بالدماء.
​عندها نهض صديقي رستم من مقعده بعدما ضايقه حبس لسانه في فيه طويلًا، وودّع وانصرف؛ فأطفأتُ التلفاز وخرجت. وكم فوجئتُ في اليوم الثاني عندما أدرتُ تلفازي وسمعتُ مذيع الأخبار يقول: «الساعة الرابعة فجرًا دخلت القوّات الأميركية بغداد من دون مقاومة تُذكر. وما أذهل العالَم أن خمسة آلاف دبّابة حديثة الطراز اختفت من غير أن تطلق قذيفة واحدة. أين الدبّابات؟ أين الطائرات والمدافع وألوية الجيش المجهّزة بأحدث سلاح؟ لا أحد يعلم. لا أحد يصدّق ما حصل».
​يومذاك قلتُ إن خبيرنا ربّما اعتقد أن الحرب اليوم ما زالت بالسيف والرمح والقوس والسهم، ووسيلة النقل فيها هي الجمل والحصان. ولكن حتى لو كان كذلك، أفلَمْ يخطر ببال هذا العبقري أن بغداد لم تعصَ على هولاكو الذي دخلها جيشه عام 1258 حفاة عراة، فكيف تمتنع على دولة عظمى غوّاصاتها في كلّ محيط ومركباتها الفضائية حطّت على سطح المرّيخ!! إلا أني لم ألُمْه، والله، بقدر ما لمتُ أولئك الحمقى الذين ما زالوا يصدّقونه ويستقبلونه منظرًا على شاشات محطّاتهم. ولكن أين العجب!! أفما زال الناس يصغون إلى قراءات العرّافين والمنجّمين والضاربين بالرمل والحصى ولو أخطأ الواحد منهم مرّة ومرّتين وثلاثًا!! آه ما أخفّ حديثك على الآذان والقلوب يا لينا أمام أحاديث هؤلاء!!
​لماذا أخبرتُكم بكلّ هذا اليوم؟ أخبرتكم به لأقول لكم إنّ في الناس الجاهل، والثرثار، والمدّعي، وضامر الأذيّة... وقلَّ فيهم مَن جمعَ العِلم والفهم والطيبة والتواضع. فإن لم يكن للمرء صاحب من هؤلاء، فخير له أن يبتعد عن الناس، ويفتح كتابًا مفيدًا؛ فهو خير جليس وأنيس.