لقاءات

دخلت غينس من بابي الاحتراف والانسانية
إعداد: إلهام نصر تابت

ريما نجيم:

أحيانًا أكون متعبة لكن الشغف يبقيني... وأنا أبحث عن شيء ما لا أعرف ما هو بعد

هي رفيقة الصباحات التي لا تنتهي مع بلوغ النهارات منتصفها، أو حتى مع المغيب وتقدم ساعات الليل. كلماتها على هواء برنامجها الصباحي «يا ريما» ترافق المستمعين غالبًا إلى ما بعد انتهاء البرنامج. بعضهم يتزود منها الطاقة، وبعضهم ينال كمًّا من الأمل في أوقات الشدة والضيق وما أكثرها... البعض الآخر يجد برفقتها متعة التفكير في قول أو حكمة أو قصة أو رأي خارج سياق السائد والمتداول ليعيد تقويم هذا الأخير انطلاقًا من نظرة عميقة إلى أعماق الذات.
وثمة من يستمع إليها لأنه يجد في اختيارها لما يبث في فقرتها من أغان وموسيقى ما يبحث عنه «لينظف» أذنيه من السائد الرخيص الذي يهاجم الذوق ويشوه الإحساس. وثمة آخرون أيضًا، مأخوذون بحسها الإنساني العالي وبقدرتها على التواصل الإيجابي، وعلى الإصغاء إلى الناس، جميع الناس، سواء كانوا من أصحاب الأسماء اللامعة وسواء كانوا ممن قست عليهم الحياة كثيرًا.


مسيرة شغف وجرأة
استطاعت ريما نجيم أن تكون إعلامية من طراز رفيع، إنسانيًّا ومهنيًّا. مسيرتها شغف لا ينتهي، جرأة لا تقف عند حدود، وتحد دائم لذاتها، وربما كان في ذلك سرّ من أسرار نجاحها وسببًا من أسباب كون «يا ريما» ظاهرة أكثر منه مجرد برنامج صباحي يرافق الناس مخفّفًا عنهم أعباء زحمة السير وهموم كل ساعة.
بدأت ريما نجيم مسيرتها الإعلامية وهي طالبة صغيرة لم تكمل دراستها الثانوية بعد. يومها كانت الإعلامية ليليان أندراوس معلمة اللغة العربية في صفها. براعتها في قراءة النصوص وطريقة إلقائها للشعر كانتا مميزتين. ليليان أندراوس كانت تقول: يا ريما يجب أن تكوني مذيعة. استقر هذا القول في ذهن الطالبة الصغيرة وكانت تملك من الجرأة ما يكفي لتدخل استديوهات إحدى الإذاعات (لم تعد موجودة بعد صدور قانون الإعلام) وتقول لصاحبها: أريد أن أعمل مذيعة. كان لها ما أرادت، بعد ذلك تنقلت بين عدة إذاعات قبل أن تنطلق عبر إذاعة «صوت الغد» في برنامجها «يا ريما». تلك كانت انطلاقتها الجدية وأولى خطوات النجاح الذي ما لبث أن تمظهر سريعًا وكبر.
أين هي ريما اليوم من تلك التي كانت قبل نحو 15 عامًا؟ تقول، طبعًا ريما اليوم ليست تلك التي كانت يومها، كان عندي حلم، كان البث على الهواء حلمًا بالنسبة لي، لكن لم أكن أملك من الجرأة ما يجعلني أفكر أن كلماتي ستكون مسموعة، أو أن تكون قد علقت في مكان ما. لذلك أقول أجمل شيء في الدنيا أن تعرف أن كلماتك لم تذهب في الهواء، وأنها «معلّمي بشي مطرح».
في الواقع كلماتها «معلّمي» كثيرًا وشهادات مستمعيها على الهواء وعبر الـ»فايسبوك» والـ»تويتر» وسواها تقول ذلك بوضوح وقوة. ويوم انتفضت بسبب قرار اعتبرته مجحفًا من إدارة الإذاعة تركت «الهواء» وغادرت الأستديو مغلقة الباب، لتتفرغ للإذاعة الخاصة بها التي تبث عبر الإنترنت.
أما جمهورها الذي ترفض أن تصنفه كمجرد مجموعة مستمعين، فكان إلى جانبها وخلفها، معلنًا أنه سيكون حيث تكون. يومها قال الكثيرون إنهم يفتقدونها، وقال آخرون إنهم جهزوا سياراتهم بكمية من الـ C.D. والأشرطة ليستمعوا إلى الأغاني والموسيقى التي يحبون. لكن الأمر ليس كما كان. فالأغنية التي تأتي عبر أثير الإذاعة، عندما نشعر أننا نشتاق إلى سماعها، تكون أشبه بهدية، أو بمفاجأة سعيدة...

 

أفراح وخيبات تصنع التجارب
مع أولى خطوات النجاح، فرحت بنفسها، تقول: عشت حالة من الزهو، لكنني لم أسمح لنفسي بالإنجرار إلى المكان الفارغ، فهذا عمره قصير.
كيف فعلت ذلك؟ تجيب، إنه تراكم التجارب، تراكم الأفراح والأحزان، الخيبات وفسحات الأمل، التواصل مع الناس، الإحتكاك اليومي مع الحياة بكل أوجهها، والتوقف عند قيمة الحياة .

 

«الله معكن»
تبدأ ريما نجيم إبحارها الصباحي في يوميات الناس والحياة بعبارة «الله معكن»، تدعو إلى وقفة تأمل ودعاء، وتغوص في نظرة إلى الداخل، إلى الأعماق، قبل أن تنصرف إلى معالجة الراهن ومناقشة ما يجري في الوطن والعالم. عفويتها مشبعة بعمق ملفت وبأسلوب مميز في التفكير. فنصها المرتجل على الهواء يرتقي أحيانًا كثيرة إلى مستوى النص المكتوب بتأن.
كيف توصلت إلى ذلك؟ هل تقرأ كثيرًا، وهل تحضر ما ستقوله في اليوم التالي؟
تجيب: أقرأ كثيرًا نعم، أحضّر قليلاً، ليس بالقدر الذي يعتقده الآخرون. أتكلم من داخلي، أعيش الحالات والأحداث وأتحدّث «من جوّا».
يخصص «يا ريما» مساحات واسعة للقضايا الإنسانية، عائلات من دون معين أو سند، مرضى سدّت في وجوههم جميع الأبواب، ضحايا عنف أو مشاكل لا تحتمل، شبان وشابات وأرباب عائلات يبحثون عن عمل. أولاد ينتظرون بهجة عيد لا تأتي... تستمع ريما، بل تصغي إلى كل منهم، «تطرح الصوت» أحيانًا وتطلب المساعدة من القادرين على تقديمها، تذكّر بقيمة أن نعطي وبالفرح الآتي من العطاء. أحيانًا تغضب وترفع الصوت في وجه ظالمين، وفي كل الحالات غالبًا ما تستطيع تقديم المساعدة، فمن يستجيبون لصوتها كثر.
حول هذه النقطة تقول، قصص الناس تتعبني كثيرًا أعيش كل حالة بحالتها. من يعملون في المستشفيات ربما يتعودون على رؤية الناس يتألمون. أنا لم يحصل معي ذلك. «كل قصة تعيد الأمر من الأول». في مناسبات الأعياد تكبر المساحة التي نخصصها لهذه القصص. غالبًا أعود إلى بيتي مع شعور بأنني لا أستطيع أن أعيش العيد وأنا أحمل هذا الكم من مآسي الناس. أبذل كثيرًا من الجهد لأخرج من هذه الحالة. أحيانًا أقول لماذا أتعب نفسي إلى هذا الحد؟ ثمة الكثيرون ناجحون من دون هذا القدر من التعب. لكنني أظلّ أنا، ربما هو الشغف، هو الفرح الآتي من كوني قادرة على الوقوف إلى جانب الآخرين في مكان ما. مآسي الناس تتعبنا صحيح، لكن في أوقات كثيرة تنبهنا، تقول لنا إن علينا تقدير النعم الكثيرة التي نتمتع بها.

 

أنا أتمرّن
واضح كم لريما من تأثير على جمهورها، غير أن مكانتها ونجاحها لا يعطلان قدرتها على الإصغاء إلى من تحاوره، سواء كان شخصًا من النجوم «الأوائل» وكبار المشاهير، أو كان إنسانًا عاديًا يعرض مشكلة أو رأيًا. أهو طبع أم هو التمرّس والإحتراف؟
تضحك وتجيب، في الأساس أنا شخص يحب الإستماع أكثر مما يحب الكلام. قد يكون الأمر مفاجئًا ومناقضًا لكوني مذيعة، لكنني هكذا. أمر آخر لم يكن لدي هذه القدرة على الإصغاء إلى الآخرين وفهم وجهات نظرهم. «لقد تمرنت على هذا الأمر، وما زلت أتمرن على أشياء كثيرة».
مثلاً أنا آتية من خلفية فيها الكثير من العقد: الحرب، الآخر المخيف الذي يطلق النار، خطوط التماس، التقوقع كضرورة للإحتماء... حاولت على الهواء أن أتعرف إلى الآخر، أن أصغي إليه بعد أن كنت أعتقد أنه آت ليلغيني، ليأخذ ما عندي. أؤمن بضرورة التواصل الحقيقي بين الناس. النقاش في القضايا يجب أن يكون نقاشًا في الأفكار وليس نقاشًا في الأشخاص.

 

همجية في الكلام
حاليًا أحضر مجموعة حوارات عنوانها «الآخرون». هؤلاء يمكن أن يكونوا أناسًا معروفين أو مواطنين عاديين أو ناشطين في المجتمع يتناقشون على الهواء. سأحاول أن أجعلهم يتحاورون باحترام ويصغون إلى بعضهم. ما نشهده اليوم من «همجية بالحكي» غير مقبول، وغير مسموح. إذا راقبت الحملات التي يشنها الشباب على بعضهم عبر مواقع التواصل الإجتماعي تجدين صورة مخيفة. مستوى الخطاب حول أي قضية منحطّ. لا وجود للحدّ الأدنى من تقبل الآخر، أو الإستعداد للإستماع إليه. مع الأسف شباب مفترض أنهم يحملون شهادات وأنهم سيصنعون المستقبل، يتناقشون بطريقة مخيفة. هؤلاء إذا تسلموا سلاحًا سيخوضون الحرب من جديد... أريد أن أحاور محاربين قدامى ليتحدثوا عن تجاربهم، فيكشفون معاناتهم بسبب الحرب، وما كلفهم الخروج من ذهنية التقاتل. أنا لست إنسانًا بائسًا يرى الصورة من منظار قاتم، أرى الصورة الحقيقية.

 

صورة يمكن تغييرها ولا خلاص بدون الجيش
هل يمكن تغيير هذه الصورة؟ تعتقد ريما أنه يجب تغييرها بالتأكيد، وتقول لماذا في الجيش نجد اللبنانيين من كل الفئات والطوائف قادرين على عيش القيم الوطنية خارج الإنتماءات الضيقة؟
في كل المحطات الصعبة التي مر فيها لبنان في السنوات الأخيرة، كانت عبارة «الله يحمي الجيش» لازمة ترافق محطات برنامج «يا ريما» وفقراته. وكانت تحية شهدائه وتضحيات أفراده دائمًا حاضرة بشكل مميز من خلال الكلمة والأغنية والحوارات مع الضيوف. وتقول ريما: لا خلاص بدون الجيش، وحده للجميع. السياسات تتغير، السياسيون يغيرون مواقفهم، وحده الجيش على ثباته في مبادئه وروحه الوطنية. يؤلمني كثيرًا أن هذه الجهة أو تلك مع الجيش اليوم وغدًا ضده، ووفق ما يلائم توجهاتها وأهدافها. من يكون حقًا مع الجيش ومؤمنًا برسالته يكون معه دائمًا وفي كل المراحل. فهو يمثل الثبات بينما السياسة تمثل التحولات. الجيش لم يتغير ولا مرة، وممنوع المساومة حين يتعلق الأمر به.

 

فيروز خط أحمر
نصل إلى فيروز، صوت فيروز يرافق «يا ريما» في كل فقراته. والأغنية ليست هنا أبدًا مادة لتعبئة وقت أو «هواء»، إنها حالة تتخطى الإستماع، «أنا أعيش فيروز» تقول ريما نجيم. وتضيف، في الموسيقى لا أساوم، فيروز خط أحمر. لا يمكن أن يكون لي يوم من دونها، وليس فقط في الصباح، بل في كل الأوقات. عندما تمرّ أغنية فيروز في البرنامج أكون في مكاني في الإستديو. كل ما سمعت الأغنية مرة جديدة، أشعر أنني أعيد اكتشافها من جديد، أعيشها من جديد.
لكن معظم الإذاعات تكتفي ببث أغاني فيروز في الصباح، وتراثنا الفني الراقي لا يجد على الأثير مساحة موازية لأهميته، فالرأي السائد أن المستمعين يريدون الجديد؟
تقول، ليس صحيحًا، من خلال تواصلي مع الناس أعرف أنهم يستسخفون ما يقدم لهم من تلك الأغاني التي لا تعيش أكثر من شهر، مع الأسف هناك «قلة ثقافة» عند الكثيرين من القيمين على إدارة الإذاعات، معظمهم «ناس بزنس»، ولا يفهمون ذوق الناس. الذوق الفني يصقل ويهذب بما نقدمه للجمهور.

 

في الإذاعة صدق أكثر
تتمتع ريما نجيم بحضور قوي وإطلالة جميلة، مع ذلك وفي عصر الصورة لم تغادر العمل الإذاعي إلى التلفزيون، لماذا؟
في التلفزيون لا يوجد من الصدق هذا الكم الذي تتيحه الإذاعة. الأشخاص أنفسهم الذين حاورتهم في الإذاعة أجريت معهم حوارات تلفزيونية لكنهم في الإذاعة حلقوا أكثر... الراديو يتيح البوح الصادق، وهذا مهم جدًا في الحوارات. بالإضافة إلى ذلك لم أجد في ما عرض عليّ حتى الآن ما يناسب ما أحبه وأعمل عليه.
خلال مسيرة طويلة من العمل الإعلامي، ما هي ابرز المحطات إلى حملت لك أثرًا مهمًا لا ينسى؟ إنها قصص الناس تقول، وتوضح: كل الحوارات التي أجريتها مع أناس مشهورين وكبار في جانب، وقصص الناس العاديين في جانب آخر. قصص مظلومين في السجون، قصص التجارب القاسية إلي يعيشها آخرون ويظلون قادرين على التحمل، من يتلقون العلاج من الإدمان في مراكز التأهيل... هذه تجارب نتعلم منها بينما نرى الإعلام مشغول أكثر بما ارتدته هذه الفنانة، أو مع من سهر فلان، وماذا قالت فلانة عن...

 

أول دخولو... غينيس
لقد عدت إلى « الهواء المباشر مطلع كانون الأول الماضي بعد غياب نحو سنة، وكانت عودة مجلجلة عبر كسرك الرقم القياسي لأطول بثّ إعلامي (40 ساعة) بحيث سجلت 46 ساعة من البثّ المتواصل ودخلت موسوعة غينيس، ماذا يعني لك  ذلك؟
لقد ترسّخ الاسم «في مطرح حلو» وليس بشيء بلا معنى، خصصت إعادة إطلاق البرنامج لهدف إنساني، إذ استطعنا تامين كلفة عملية جراحية لفتاة صغيرة. الحمد لله الناس تجاوبوا كما كل مرة، والعملية تمت بنجاح. كان ثمة شيء خفي بيني وبين هذه الصغيرة. من بين قصص كثيرة شعرت أن قصتها هي قضيتي، وعندما نجح الأمر كان فرحي كبيرًا. لن تنسى هي ولن أنسى أنا. وهذا ما يبقى: «التواصل الحلو» مع الناس.
أنت اليوم مديرة إذاعة «أغاني، أغاني»، التي يبث عبرها برنامجك، هل تشعرين بالإكتفاء بما أنت عليه؟
لا، ربما هذه مشــكلتي، دائمًا  أفــكر «شـو بدي أعمل بكرا؟» لا أعــرف مــا هــو هذا الشــيء، ربمـا لـيس إذاعة ولا تلفزيون، ما زلـت أبحث...