قضايا إقليمية

دور اسرائيل في هيكلة النظام الاقليمي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

لقد كانت الثورات التي تفجرت في بعض الدول العربية وليدة تفاعلات تراكمت على مدى سنوات طويلة شهدت تفاقم الكثير من الأزمات والكثير من إخفاقات النظم الحاكمة سواء على مستوى إدارة السياسة والحكم في الداخل (لاسيما أزمات تفشّي الاستبداد والفساد، واحتكار الثروة والسلطة...)، أو على مستوى إدارة الحكم لعلاقاته العربية والإقليمية والدولية.
لكن إلى جانب هذه الحقيقة تكمن حقيقة أخرى، فبعض الجهات الإقليمية والدولية، كانت طرفًا مباشرًا في رسم مجرى تطور تلك الثورات (سواء باتجاه الاحتواء والضبط أو باتجاه التأجيج)، وذلك إن لم تكن طرفًا مباشرًا في تفجيرها.

 

التخريب من الداخل
ربما فاجأ بعض الثورات قوى إقليمية ودولية، لكن قد تكشف الوثائق مستقبلًا أن ثمة قوى أدارت بعض الثورات وتحكمت بمسارها، وأكثر من ذلك أدت أيضًا دورًا  في تهيئة الظروف لتفجرها. فتغلغل هذه القوى على مدى سنوات طويلة في الشؤون الداخلية لبعض الدول احدث انحرافًا كبيرًا بالأداء الوطني لبعض النظم الحاكمة، ومكّن تلك القوى من امتلاك أدوات التخريب الداخلي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، على النحو الذي تحدث عنه عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (امان) في تشرين الاول2010. فقد قال إن إسرائيل قامت بأدوار شديدة الأهمية والخطورة داخل مصر منذ العام 1979 (عام توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية) بما يحول دون تمكين أي رئيس جديد لمصر بعد حسني مبارك، من النهوض بهذا البلد. قبل ذلك جاء على لسان آفي ديختر، رئيس الشاباك الإسرائيلي الأسبق (2008) أن النفوذ الإسرائيلي قوي في مصر لدرجة تحول دون جعل قرار الخلافة السياسية بعد حسني مبارك محض مسألة داخلية مصرية، إذ سيكون لكل من إسرائيل والولايات المتحدة دور في ذلك. وأضاف أن إسرائيل لن تسمح بمجيء رئيس لمصر بعد مبارك لا يعلن التزامه المسبق بمعاهدة السلام مع إسرائيل. إلا أن الأخطر هو ما قاله عن أدوات التغلغل والسيطرة الإسرائيلية على مقاليد القرار السياسي في مصر، حيث ادعى أن هذا النفوذ القوي لإسرائيل داخل مصر يعتمد على ركيزتين: الأولى هي شركاء إسرائيل من رجال الأعمال المصريين المتخمين بالمال، والثانية أصدقاء إسرائيل في الإعلام المصري. إلى ذلك، كان كتاب اليهودي الصهيوني برنارد هنري ليفي بعنوان «الحرب بدون أن نحبها.. يوميات كاتب في قلب الربيع العربي»، الأكثر فجاجة إذ كشف أنه صانع ما جرى في ليبيا ومدبره، وأنه هو من كتب بيانات المجلس الوطني الانتقالي، وحرّك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلى ليبيا...


لقد كان القلق الإسرائيلي من تطورات الثورة في مصر هائلًا بحكم العلاقة مع نظام حسني مبارك والمصالح التي ربطت هذا النظام بالدولة العبرية. وبشكل عام سيطرت ثلاثة اتجاهات على الموقف الإسرائيلي من الثورة المصرية وغيرها من الثورات العربية:


- الأول، يعتقد بوجود مخاطر حقيقية على الأمن القومي الإسرائيلي من جراء الثورة في مصر.


- الثاني، اعتبر أن لا شيء جوهريًا سيتغير، أو ستكون له تداعيات خطيرة على إسرائيل، وأن الأمور ستمضي وفق التقديرات الإسرائيلية الموضوعة.


- الثالث، يقول بوجود بعض المخاطر على إسرائيل، مع استبعاد ظهور آثارها في المدى القريب.


لكن الاتجاه الذى كانت الغلبة له في إسرائيل وما زالت، يرى أن الثورات العربية عمومًا والمصرية خصوصًا، ستكون لها تداعيات أمنية وإستراتيجية على إسرائيل، بعضها في المدى القصير، وبعضها الآخر في المدى البعيد. وبدافع من هذا الإدراك قامت إسرائيل، ومازالت تقوم بأدوار هدفها محاصرة أي خطر قد ينتج عن التحولات العربية، ويهدد الأمن الإسرائيلي. ويمكن القول إن مخاوف إسرائيل من نجاح الثورة في مصر تشمل الخشية من امتدادها إلى الأردن والضفة الغربية، والخشية من أدوار مصرية جديدة محتملة، وأنماط تحالفات إقليمية جديدة، لكن الأهم هو الخوف على مسار العلاقات المصرية – الإسرائيلية.

 

اسرائيل تستفيد من العولمة وداعش
يذهب منظرو العولمة إلى القول بأنه لم يعد ممكنًا النظر إلى السياسة المحلية والسياسة الدولية على أنهما مجالان منفصلان. وقد تناول بعض الدراسات تأثير العولمة في مبدأ السيادة الوطنية في العالم العربي، وذهب معظمها إلى أن العولمة قلّصت نطاق تطبيق هذا المبدأ، وبخاصة بالنسبة إلى الدول الضعيفة. أمّا الدول القوية فقد استطاعت تعظيم مكاسبها وعوائدها المادية والاستراتيجية، من خلال استثمار المزايا التنافسية المتاحة لها. بناء عليه واجهت الدولة العربية المعاصرة في ظل المتغيرات التي صاحبت العولمة خطرين أساسيين تستفيد منهما اسرائيل أيما استفادة، وهما: خطر الحروب الأهلية التي تهدد بتفتيت السيادة وتمزيق الوحدة الوطنية، وخطر انتزاع السيادة ونقلها إلى كيانات دولية وإقليمية أكبر. وتكاد إسرائيل تكون الدولة الابرز في العالم التي تصرّ على إعادة الهيكلة التامة للنظام الإقليمي والنظم الفرعية التابعة له، مستفيدة من واقع الصراعات الدولية في المنطقة. وهي تدعو لتفتيت الكيان الاجتماعي القومي العربي عمومًا، ناهيك عن تفتيت النسيج الاجتماعي الوطني في كل دولة على حدة. ذلك أن الصراع العربي الإسرائيلي يتميز عن غيره من الصراعات بأنه يشمل مختلف الجوانب الإستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، فضلا عن الاستخدام المكثف من قبل العقيدة الصهيونية للأساطير والمزاعم الدينية. وفي ضوء هذا الواقع يمكن اعتبار مشروع «داعش» الذي يجعل أبرز أولوياته إسقاط الدول العربية التي يعتبرها كافرة، قوة مضافة للكيان الصهيوني. لأن تدمير الدول بهذا المنطق، كما يحصل في سوريا والعراق وليبيا وسواها، معناه تدمير الجيوش والقدرات الاقتصادية وتمزيق الكيان السياسي والاجتماعي لهذه الدول، وإطلاق العنان لمشروع التقسيم والحروب الاهلية وإقامة الدويلات الطائفية والعرقية على أنقاض الدول السيادية القائمة، وهذا حلم الكيان الصهيوني منذ وجوده.
وهنا يبرز تناغم وانسجام مشروع ما يسمى»الدولة الإسلامية أو الخلافة الاسلامية» مع المشروع الصهيوني لإقامة «الدولة اليهودية» في فلسطين، وهذا المشروع الذي يحظى بالأولوية لدى حكومة بنيامين نتنياهو، يقضي بقيام «دولة واحدة لشعب واحد» أي دولة إسرائيل الكبرى للشعب اليهودي، وذلك على أنقاض مشروع حلّ الدولتين. وقد حرص نتنياهو وأبرز قادة الكيان الصهيوني على ترسيخ هذا المفهوم ومركزيته قولا وعملا من خلال التوسع في مشروع التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية المحتلة. وهو نادى بضرورة الفصل بين ما يجري في قطاع غزة وما يجري في الضفة الغربية، تحت ذريعة أن «القطاع لا تحتله إسرائيل» وأن الضفة الغربية هي جزء من «أرض إسرائيل»، ومن حقها بالتالي أن تواصل فيها عمليات مصادرة الأراضي والمنازل وبناء المستوطنات. والخلاصة التي يريد نتنياهو أن تصل إلى الجميع هي أنه «ليس هناك شيء اسمه القضية الفلسطينية»، وإن وجدت فإنها ليست السبب في ما يجري في الشرق الأوسط من صراعات، بل هي وليدة تناقضات المجتمعات العربية وثمرة من ثمار الدول العربية «الفاشلة»، العاجزة عن تحقيق التماسك الوطني لكونها تضم مكونات غير متجانسة عرقيًا ودينيًا وطائفيًا، ولأنها دول مستبدة وغير ديمقراطية. باختصار يمكن القول إن النظام الإقليمي العربي يتعرض لضغوط قوية، من داخله ومن خارجه، لمصلحة المشروع الصهيوني السرطاني.