كلمة الرئيس

رئيس الجمهورية في احتفال تخريج الضباط

الجيش واحد للجميع وهو الجميع في واحد

أكد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أن الجيش هو القوة القادرة والعادلة التي تعمل في ظل الضوابط المنبثقة من القوانين والأنظمة والشرائع... معتبرًا أنه على القضاء أن يصدر الأحكام على الذين اعتدوا على المؤسسة العسكرية.
في ما يأتي كلمة رئيس الجمهورية في احتفال تخريج الضباط بمناسبة الأول من آب.

 

أيها الضباط المتخرجون
التاريخ محطات، وبعض المحطات تاريخ قائم بذاته. في مثل هذا اليوم قبل سبعة وستين عامًا، في الأول من آب 1945، تسلّم مؤسس الجيش المؤسسة والعلم، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الفصل الأطول والأكثر التصاقًا بمعاني الشرف والتضحية والوفاء في تاريخ لبنان الحديث. تغيرت صيغة الحكم والتوازنات وتبدلت العهود، وبقي الجيش حافظًا للميثاق والعهد. أما الاستثناء القاتم خلال سنوات المحنة الوطنية الكبرى، فولد من خطيئة شل الجيش وتغييبه. فعندما استهدفت المؤسسة العسكرية وعطلت كضامنة للوحدة وحامية للوطن والمواطنين، أعطيت إجازة المرور للأمن المستعار الذي استحال وصاية لرعاية الوضع القائم لفترة ثلاثين عامًا.
في لحظة الانعتاق من دولة الحماية الأجنبية والانتداب، أمسك الجيش بمسؤولية حماية لبنان المستقل. وعند انتهاء الوصاية بعد التحرير من العدو، حمى الجيش الساحات المتقابلة، المتناقضة المشاعر والمختلفة الشعائر والشعارات، وأمن طريق الانتقال إلى الحرية واستقلالية القرار.
 

أيها الضباط المتخرجون
تتقلّدون السيوف اليوم في زمن واقف على حافة المصائر حيث يتسارع التاريخ، فيما الشعوب المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية تتلمس خياراتها السياسية وتحاول وضع الحجر الأساس لمستقبل تعترضه المصاعب وإشكالات التوفيق بين مستلزمات الحداثة والرغبة في التقليد. وها هي التحولات التاريخية في العالم العربي، المشوبة بالعنف، تلتحق أخيرًا بالنموذج اللبناني في بعده المنفتح على الديموقراطية والذي طالما ظهر شذوذًا على عادات المنطقة وتقاليدها. فيوم كانت الجيوش تسقط الأنظمة، كانت السلطة في لبنان تنبثق من صناديق الاقتراع. ويوم كانت الأقوال المنزلة والأوامر الناهية مرجع الحكم وقانونه، كان الدستور المدني اللبناني القانون الأسمى للجمهورية، مصانًا ومحترمًا من القوى العسكرية الشرعية.
في عصر الإنقلابات بقي الجيش قلب الوطن، وفي زمن طغيان الأنظمة حافظتم على النظام العام وفي عز سطوة السلطة حفظتم الولاء للدولة والمؤسسات. إنها الأدوار تنقلب، فارضة مسارات وتحدّيات جديدة. ومن المفترض بهذا التغيير في البيئة المحيطة أن يدفعنا لتحسين ممارستنا الديموقراطية ولتحصين دعائم وفاقنا الوطني وأمننا الاجتماعي وتعزيز موقعنا ودورنا على الصعيدين الإقليمي والدولي، مما قد يحتم عليكم ممارسة دور أكبر وأكثر طليعية في ظل احتمال تبدّل التوازنات الاستراتيجية. كما تبدو لنا الحاجة ملحة لوضع استراتيجية وطنية للدفاع تتم من ضمنها معالجة موضوع السلاح، استراتيجية ترتكز على الجيش اللبناني وتجمع القدرات الوطنية المقاومة والرادعة للتصدي لمخططات العدو الاسرائيلي.
 

أيها الضباط المتخرجون
لقد حددت المادة الأولى من قانون الدفاع مهمات الدفاع الوطني «بإعداد الدفاع المسلح لحماية أراضي الجمهورية اللبنانية والمحافظة على سلامة البلاد من كل تعدّ داخلي وخارجي وإعداد الأمة والبلاد لأداء واجب الذود عن كيان الوطن المقدس». إنطلاقا من هذا الإطار يجوز البحث في دور الجيش القاطن في كنف العلم، والحافظ الأخير لصورة الوطن الذي ولدتم فيه وحلمتم به أيها اللبنانيون، من الناقورة إلى النهر الكبير ومن أعالي السلسلة الشرقية إلى البحر المتوسط. غير أن الجيش لا يستطيع إتمام مهماته من دون توفير بيئة وطنية مرتكزة إلى البدهيات التي وضعها الآباء المؤسسون بأشكال ومناسبات مختلفة، وآخرها ما أعيد صياغته وتأكيده في «إعلان بعبدا» بتاريخ 11 حزيران 2012. كما تبقى الحاجة قائمة بإلحاح إلى دعم الجيش وتجهيزه بالعتاد وبالأسلحة المتطورة والهادفة.
 

وفي عيد الجيش نقول:
نعم للعيش الإنساني والسياسي المشترك على قاعدة الثوابت والقيم، لكن لا للتعايش بين دويلات ومنعزلات اجتماعية وطائفية تنمو على هامش الدولة وعلى حساب وحدتها.
نعم للمشاركة في الدفاع الوطني بصيغة متوافق عليها في إطار الدستور ومستلزمات الوفاق الوطني وقرارات الشرعية الدولية، لكن لا شراكة مع الجيش والقوى الشرعية الرسمية في الأمن والسيادة والتصرف بعناصر القوة التي هي حق حصري للدولة، لا للسلاح المنتشر عشوائيًا ولا للضغط على الزناد لأهداف خارجة عن التوافق الوطني.
نعم للصراع السياسي والفكري المرن، المنفتح والمفتوح على حق الاختلاف الديموقراطي، وعلى آفاق الثقافة الرحبة، ولا للعقائد المعطلة للحرية وللرأي الآخر في مجتمع متعدد ثقافيًا ودينيًا كلبنان.
نعم لحياد لبنان عن سياسة المحاور وعن الصراعات العربية والإقليمية التي تشكل موضع تنازع بين اللبنانيين أنفسهم، ولا لتحييد لبنان عن محيطه وقضايا العرب المحقة، لا سيما منها القضية الفلسطينية المقيمة في وجداننا مع اللاجئين والتفاعلات على أرضنا منذ أربعة وستين عاما، مع حرصنا الدائم على العدالة وإقرار حق العودة ورفض أي شكل من أشكال التوطين.

 

أيها الضباط المتخرجون
لأن الطبيعة تأبى الفراغ، ولأن الواجب الوطني فوق أي اعتبار، فإن الدولة لن تقبل تحت أي ذريعة وفي أي ظرف بإجبار الجيش على التخلي عن واجبه في أي بقعة من لبنان. فحيث الجيش لا تسيّب ولا احتلال. ولقد أثبتت تجربة العقود المنصرمة أن أي منطقة ينزع عنها غطاء الجيش تصبح مكشوفة لجميع أشكال التسيب والعدوان. فلا يخطئنّ أحد في التقدير أو الحساب حيث تجربة السنوات الثلاثين الماضية كانت مريرة، عندما تم تهميش دور الجيش في الدفاع عن الجنوب.
سيواصل الجيش التزامه في الجنوب مواكبة عمل اليونيفيل في استكمال تطبيق القرار الرقم 1701 والتصدي للخروقات التي يقوم بها العدو الاسرائيلي جوًا وبرًا وبحرًا.
وسيستمر في حماية المواطنين ورعاية النازحين على الحدود مع سوريا ومنع تحويل الأراضي اللبنانية ممرًا أو مقرًا للسلاح والمسلحين تطبيقًا لمبادىء إعلان بعبدا وقرار مجلس الوزراء في 9 تموز 2012 ولأحكام القانون الدولي.
كذلك سيواظب على التحسب لمخاطر الإرهاب ومحاربته إذا ما قام سعي لإحيائه، وعلى تفكيك شبكات التجسس والعمالة، ومؤازرة قوى الأمن الداخلي والأجهزة الشرعية الأخرى في السهر على الأمن على كل الأراضي اللبنانية.
لن يفيد أي سعي للاستئثار بتأييد الجيش ومحبته ودفعه إلى الانحياز إلى فئة من دون أخرى، وكذلك ستفشل أي نية في تغطية مرتكب أو مسيء إلى الجيش والأمن، في ظل إرادة سياسية معلنة ومفترضة بعدم توفير مثل هذا الغطاء للمعتدين. هناك معادلة دقيقة بين ميزان الأمن وسيف العدل. ميزان الأمن لا يعني توازن الفوضى وتقسيم الأمن، وسيف العدل لا يساوي بين قطع دابر الظلم وفتح سبيل الحق.
إن الجيش هو القوة القادرة والعادلة التي تعمل في ظل الضوابط المنبثقـة من القوانين والأنظمة والشرائع. يؤدي الحسـاب ويقبل المحاسبة بالطرق القانونية والقضـائية والإجراءات المسلكية التي تنص عليها أنظـمته، والجيش يحمي ولا يعتدي، يبني ولا يهدم، يعمر ولا يدمر، يحافظ على الحق ولا يغتصب حقًا.
وباسم الشعب اللبناني، كل الشعب، على القضاء أن يصدر الاحكام على الذين اعتدوا او تطاولوا على الجيش وذلك من دون تردد او خوف او حسابات من أي نوع كان. والجيش قبل كل شيء يجسد الوحدة اللبنانية بامتياز جغرافيًا وبشريًا. ضباطه ورتباؤه والجنود ينتمون إلى كل الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات، وتمتلك فؤادهم والقناعات، ثقافة الانتماء إلى الوطن والتضحية من أجل عزته وعنفوانه. هو الجيش فوق الطوائف والمذاهب والأحزاب والفئات، يلتزم قرار السلطة السياسية يحمي الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان. هو جيش للوطن لا جيش للنظام. إنه واحد للجميع والجميع فيه واحد.

 

أيها الضباط المتخرجون أيها اللبنانيون
إن الابتعاد عن الخيارات القصوى والرهانات القاتلة حكمة في الحكم وقيادة المصير. فلا مقاومة إسرائيل يعززها تفاقم التوتر الأهلي، ولا السيادة والكرامة والاستقلال تتحقق إذا ما سمحنا باستيراد أزمات وقدرات من خارج الحدود. وقد جاء «إعلان بعبدا» ليؤكد تمسّك جميع الأفرقاء بأهمية الوحدة الوطنية والتزامهم تحييد لبنان عن أي أزمة إقليمية، وعدم اللجوء الى وسائل غير ديموقراطية أو أدوات خارجية لتغيير الموازين الداخلية. لذلك فإن البحث عن تفاهمات تمنع استيراد الأزمات الإقليمية يتطلب التزامًا حقيقيًا اتفاق الطائف ومشروع الدولة التي تؤمن مصالح وشراكة جميع الطوائف في إطار ديموقراطي.
صحيح أن العنف الكامن والتطرف المواجه بعضه البعض الآخر في المنطقة عوامل لا تسمح بتسهيل مهمة ضبط النزاعات اللبنانية، لكن الحوار الدائم والبحث المستنير عن الغد في الحاضر كفيلان بإدارة التنوع وتحقيق الاستقرار والمضي على طريق التنمية. إننا سنواصل الدفع باتجاه المصالحة التامة على أسس ثابتة لا الحوار فحسب، فالخطر الأكبر ليس في حفر الخنادق بل في رفع الجدران بين اللبنانيين.
وفي سبيل تثبيت دعائم الاستقرار في خضم الاضطراب المحيط بنا والتوتر الإقليمي عمومًا، تبقى الحاجة قائمة لإزالة الالتباسات وتخفيف حدة الصراع على السلطة المركزية من خلال قانون انتخابي عادل ومتوازن ينسجم مع روح الدستور ووثيقة الطائف، ويؤدي إلى مساهمة كل مكونات المجتمع في الحكم وإدارة الشؤون الوطنية. كذلك فإن اللامركزية الإدارية الموسعة المشفوعة بخطة تنمية متوازنة تشكل بدورها مجالا لتخفيف الضغط وتفتح طريق العدالة الإجتماعية والمساواة.

 

أيها اللبنانيون
الأخطار ليست ضيفًا يزور لبنان ويرحل. إنها ظل مقيم يكمن ثم يستيقظ. وقدرنا أن نصارع الأخطار بالشجاعة والحكمة وبالأناة والحزم، وأن نعزز دومًا مكونات مناعتنا وقدرتنا. عندها يرتسم الحد الفاصل بين الأمن والفوضى، وبناء الدولة وسقوطها، بين الموقت والدائم، وبين العيش المشترك والحرب الأهلية الباردة.

 

أيها الضباط المتخرجون
تقسمون قَسم الوفاء للوطن، حفاظًا على تضحيات شهدائه الأبرار، وفي طليعتهم الرائد الشهيد وليد الشعار الذي سميتم دورتكم على اسمه. إرفعوا راية الحق وتمسّكوا بسيف العدل والأمن، حينها ينجح لبنان في المشاركة في صناعة التاريخ الذي يتجدد ويتكثف من حولنا. لكم مني في هذا اليوم المعقود على العزم وروح التضحية والأمل كل التشجيع والتقدير والاعتزاز، وكامل الدعم.

 

عشتم
عاش الجيش
عاش لبنان