وجهة نظر

ربيع الاستقلال.. وربيع الاستغلال
إعداد: جورج علم

كانت الإرادة الوطنيّة متأهّبة عند المنعطف المصيري. احتلال يتلاشى مع أمبراطوريّة هرمة، وانتداب يترجّل من موكب الحلفاء بعد الانتصار الذي تحقق في نهاية الحرب العالميّة، ومعاناة اجتماعيّة - اقتصاديّة سرقت طحينها من إهراءات القحط، وعجنته في معاجن الجوع، وخبزته في تنّور العوز والفاقة. لقد ذهبت خيرات ذلك الزمان مع رحيق الأرض الطيبة بعدما امتلأت جثثًا، وارتوت من دموع الثكالى.
وسط هذا الخضم المتلاطم تفتّحت براعم الاستقلال في لبنان، والعديد من دول المنطقة، بعد قرون مديدة من الظلم والظلاميّة. إنه الربيع الذي ينبلج فجره من فجوات المأساة الخرساء الهامدة فوق أشلاء الخراب والدمار، ينشر أنواره رويدًا رويدًا في أفياء المنطقة على وقع تطوّرات دوليّة وإقليميّة مختلفة.

 

ربيع ذلك الزمان
ربيع الأربعينيات من القرن الماضي، كانت له نكهته الخاصة. كان الصوت اللبناني الشعبي الوطني واحدًا، من قمم الجبال، حتى فقش الموج... «إمشِ على ما يقدّر الله... ويللّي مقدّروا ربك يصير؟!». نخوة وطنيّة استقلاليّة، وبوح من جرح الكرامة المشرئبة، التواقة للتكيّف مع أجواء تلك الحقبة المنتشية بفرح الانتصار على الظلم، والاستبداد، والاستعباد، والسخرة، والمهانة.
كانت الطائفيّة والمذهبيّة والفئوية ماثلة في ربيع ذلك الزمان، لكنّها كانت محتشمة، على خجل وتأدب، لا يعلو صوتها على صوت المواطنيّة، و«اللبنانيّة». كان الاعتزاز بالأصل لا بالهوامش والبدع، وكان للخصوصيّة حرمتها، ونكهتها، والدليل أن مقولة «الدين لله، والوطن للجميع»، قد نبعت من صميم قناعة، وفعل إيمان ذلك الزمن، متعففة من زيف الشعارات، ومكر المزايدات، خلافًا للواقع الصادم القائم على مداميك الطين المتراخي، بديلًا من مقالع الصوّان؟!... ربما تكسّرت نصال كثيرة في زمن «أفندم»... و«أمرك باشا»، لكن بقيت الإرادة الوطنيّة منتصبة في وجه العتمة الزاحفة المترامية آنذاك، إنها إرادة البقاء، المخضّب بدماء الأبطال الشهداء، المصقول بأنين الشيوخ، وصراخ الأطفال، ونحيب الأمهات... ومن يستطيع أن يختزل سنوات الاضطهاد، ويختصر مسافة المعاناة، عندما يكون الخيار ضيّقًا محسومًا بين موت.. وموت، أو موت.. وحياة؟!.
 

كتاب الاستقلال
كثيرون هم أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أساتذة على تلك المرحلة، لكن قلّة من بينهم هي التي قرأت كتاب الاستقلال بتمهّل وتمعّن. البعض قرأه مسطحًا، البعض الآخر بالطول والعرض، بحثًا عن «الكلمة السحريّة». فاته أن الاستقلال ليس قصيدة حبّ مهداة من أدونيس إلى حبيبته عشتروت، ولا باقة شعر من غزل، برسم صبيّة مغناج تغسل قدميها عند فقش الموج؟!... إنه أبجدية وطن، وملحمة أبطال كتبت بمداد من الهمم والقيم والشيم.
بالتأكيد لم يكن الاستقلال مجرّد فرمان من سلطان الباب العالي، ولا كتابًا منزلًا على ممالك الطوائف والمذاهب، إنه – وفي كثير من جوانبه - من حواضر البيت اللبناني الأبي، الوفي المتعطش لقيم الحياة العزيزة الحرّة الكريمة.
إنه ألف باء الوطن، وأبجديته، ومواويل صيفه وشتائه، ونكهة «الأجنحة المتكسّرة» لجبران، و«الشخروب» لنعيمة، و«الرغيف» لتوفيق يوسف عوّاد، و«صخرة طانيوس» لأمير الأكاديميّة الفرنسية، أمين المعلوف... إنه سيرة شعب دوّنها كبار من هذا الجبل الأشم بدماء التضحية والمعاناة.

 

متغيّرات دوليّة
يحـلو للبعض أن يقرأ كتاب الاستقلال من خلفيّة تاريخيّة، فرضتها ظروف، واعتبارات، ومتغيرات كثيرة، منها: الحرب العالمية كقوة تغييريّة فرضت معادلات أمنيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة على الدول والشعوب، وكان للشرق الأوسط النصيب الوافر منها، إذ تحوّل من «التركة» العثمانيّة إلى «جبنة» الانتداب. ثم اتفاقية سايكس – بيكو العام 1916، والتي برزت كثمرة تفاهم سرّي بين فرنسا والمملكة المتحدة، بمصادقة الأمبراطوريّة الروسيّة على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، بعد تهاوي الأمبراطوريّة العثمانيّة. وقد تمّ الوصول إلى هذه الاتفاقية ما بين تشرين الثاني من العام 1915، وأيار 1916، بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، مارك سايكس، وفرنسوا جورج بيكو، وكان نصيب لبنان من ضمن الجبنة الفرنسيّة. وأخيرًا، وليس آخرًا، انطلاق ربيع الاستقلال في لبنان، بالتزامن مع الحراك الذي بدأ في سوريا، ثم في مصر، وبعض دول المنطقة.
بالطبع لم تكن الخلفيّة التاريخيّة معجم أسرار موضّب ضمن صندوقة فولاذيّة، وإن كانت كذلك في ما مضى، فإن هذه الفرضيّة لا تصحّ الآن، في زمن «الويكيليكس»، وثورة التكنولوجيا، وهناك من يؤكد اليوم، وبشكل جازم، بأن الحرب الكونيّة لم تبدأ نتيجة حسابات خاطئة، أو طموحات جموحة، بل كانت بمثابة «الشرّ الذي لا بدّ منه» لأنها كانت مقرونة بسلال من الأهداف والمرامي التي أعدتها شبكات المخابرات الدوليّة بشكل واضح ومتقن. والدليل أنه بعد أن سكتت المدافع، وهمدت المعارك، وهدأت الجبهات، جاء الانتداب حاملًا معه أطباقًا من الوعود. وعد بلفور البريطاني بتقسيم فلسطين، ووعد الجنرال غورو الفرنسي بلبنان الكبير مستقلًا، لكن بعد فترة من الانتداب «لتدريب الشعب على أن يحكم نفســه بنفسه؟!».
 

الشروال والقمباز
لما حاول العرش البريطاني الإخلال بالوعد، والامتناع عن التنفيذ، ضغطت المخابرات الأميركيّة، تحت تأثير اللوبي اليهودي على لندن مهددة بزعزعة استقرار العملة الوطنيّة، وضرب اقتصاد «بريطانيا العظمى» في الصميم؟!... أما في لبنان فقد تمثّلت «الانتفاضة الشعبيّة» بتكاتف ما بين الشروال والقمباز، وأهل الجبل، وسكّان الساحل، وأيضًا بصداح الصوت الواحد النابع من الإرادة الوطنيّة الصلبة: «كلّنا للوطن»، بديلا عن «كلّنا عالوطن» كما هو الحال الآن؟!...
 

هناك حقائق أربع حكمت ربيع ذلك الزمن.
- الحقيقة الأولى: إن الربيع اللبناني قادته ثورة فكريّة حضاريّة أربابها أدباء، وشعراء، ومفكرون، وكتّاب، وصحافيون لهم حضورهم، ومكانتهم في لغة الضاد، واحترامهم في أوساط الرأي العام. كانت هناك قضيّة وطنيّة، تستحق كلّ جهد وتعب لتسويقها، والدفاع عنها بأسلوب مبتكر راق يعتمد الحجة، والشفافيّة، والصدق، في شرح الفكرة لبلوغ الهدف. اليوم، احتلت التقنيات المساحات، وشغلت الفضائيات كل الفراغات الإعلاميّة، بإدارة شبكات ماليّة وسياسية ومخابراتية لها أهدافها التي يمكن أن تكون متعارضة مع الهدف الأساسي والرئيس.
لم يعد الهدف الوطني فوق أي اعتبار، لأنّ هناك أهدافًا ماديّة، ومعنوية، وسياسيّة، ومصلحيّة يصار إلى الترويج لها من خلال الضجّة الاعلاميّة المثارة حول القضايا المصيريّة. كان زمن الاستقلال على همّة، وعلو، وشمخة رأس نفتقر إليها في زمن الفوضى والتسيّب.
يومها: «الشعب يريد الاستقلال والحريّة والكرامة الوطنية»، اليوم الطرح مختلف: «الشعب يريد إسقاط الأنظمة»، وقد سقطت فعلًا في بعض الدول، لكن لم يأت بالأفضل لغاية الآن. ولم يتمكن الشعب من التفاهم على البديل، لأن الشبكات العنكبوتية قادرة على دفع الأمور بالاتجاه الذي يخدم مصالحها، قبل مصالح الشعب، وهذا ما أدى إلى فوضى مسلّحة استباحت أوطانًا، وكيانات، وسيادات... ربيع الماضي أزهر استقلالًا، ربيع اليوم أزهر عبثية سافرة وخرابًا ودمارًا...
- الحقيقة الثانية: إن الإرث الثقافي الحضــاري المتنوّع كان حاضرًا في زمن الاستقلال، وعلى حشمة، ودعة، وترفّع، وتعاون، وحشـد للطاقات والإمكانات لبلوغ الأهـداف الوطنيّة السـامية. اليوم، لا يزال هــذا الإرث قائمًــا، ويشكّل بمجمـوع مكوّناتــه لوحة الفسيفساء الوطنيّة اللبنانية، لكن مع «بهرجة» إعلامية فيها الكثير من العصبية المشدودة إلى مصالح خاصة، أو خارجيّة تساهم في تسميم الأجواء أكثر مما تساعد على تحسينها وتحصينها.
حتى الحياة الحزبيّة كانت من كلّ لبنان، ولكل لبنان، وعلى هيبة و«شياكة»، تكتسي زيًّا وطنيًّا لبنانيًّا، في حين أنها اليوم أشبه بتجمعات عائليّة، أو مذهبيّة، أو مناطقيّة، يكاد أن ينعدم فيها الحسّ الوطني أمام الغلوّ الطائفي، أو المذهبي، أو العائلي، أو المناطقي... ماذا تغيّر؟. لقد تغيّر الكثير، ربما كان الاستقلال أمنية وطنية واحدة، جامعة، مقدّسة، ولما تحقق وتحوّل إلى خيمة واقية، تحوّل الوطن إلى بيت بمنازل كثيرة، كما هي الحال الآن؟!.

 

شالات الحرير
- الحقيقة الثالثة: وهي اقتصادية صرفــة. لقد ربــط موســم الحرير الجبــل بالسـاحل، وشكلا معًا خارطة طريق استقلاليّة. كانت الأقبية الريفيّة المعقودة القناطر على موعد مع كل ربيع لاستقبال عشرات الألوف من دود القز، وتتولّى العائلات الريفيّة تربيتها مستعينة بأوراق التوت كي تنمو، وتحيك الشرانق الكبيرة، ومن النوع التجاري الجيد، ويصار في الوقت المناسب إلى جمعها ووضعها في أكياس من الخيش، وشحنهــا إلى المصانــع الخاصــة بها في كفرشيما، وبيروت، وسوق جونيـة القديم لتحليلها، واستخلاص خيط الحريــر منهــا، وتحويلــه إلى مصانــع الحياكــة والخياطــة، حتــى يتغــاوى الشبــاب والصبايــا بشــالات الحريــر.
هذه «الدورة الاقتصادية ما بين الجرد والساحل»، أسهمت إلى حدّ بعيد في منعة البيت الاستقلالي اللبناني. إنها لا تزال إلى اليوم... لكن انتهى زمن «القز والعز»، وغابت تلك الزراعة – الصناعة عن الكثير من أريافنا وقرانا، لتحلّ مكانها الصناعات البديلة الحديثة المتطورة.. كنّا نتباهى بالشروال، واللبّادة، أصبحت صناعتنا اليوم بربطة عنق من ماركات عالميّة؟!.
 

الريادة اللبنانيّة
- الحقيقة الرابعة: لقد خطّ لبنان بقلمه ميثاق جامعة الدول العربيّة. كان من الطليعييّن المؤسسين، حضر بإبداعه، وانفتاحه، وثقافته، وتنوّعه، وخطّ وثيقة الحياد السياسي، وأكّد أمام الملوك والرؤساء والأمراء العرب بأنه «مع الإجماع العربي، عندما يجمعون...ومع الحياد عندما يختلفون؟!». لقد حفظ للعروبة اللغة، وحماها من «التتريك»، قدّم لها الأدب، والشعر، والفلسفة، والاختراع، والسياسة والدبلوماسيّة... كان حاضنة العرب، وجامعتهم، ومستشفاهم، ومصيفهم، ومشتاهم، وفندقهم، وصحيفتهم، ومقهاهم. ولا يزال في مرتبة متقدمة في الحفاظ على هذا الإرث المعنوي الضخم والفخم، لكن الحقائق الماثلة اليوم على أرض الواقع فاضحة وفادحة، إذ ليس بالقليل أن يتحمل كل هذا العبء من اللجوء نتيجة تفاعل القضيّة الفلسطينيّة التي تخلّى عنها الكثير من الأشقاء والأصدقاء؟!.. وليس بالقليل أن يتحمل نزوحًا منهكًا نتيجة الربيع العربي في سوريا. أن يتحول هذا البلد إلى مستوعب، لمشاكل الآخرين، وأزماتهم، وقضاياهم، فهذا ظلم كبير، وتحت وطأة هذا الظلم فإن لبنان يعاني نتيجة التراكمات، والتداعيات، وأيضًا حدّة التجاذبات، وضعف الإمكانات؟!.

 

حيتان المصالح.. والطعم
خــطّ لبنــان بقلمــه وقلبــه وفكــره شرعة حقــوق الإنســان في الأمــم المتحــدة، عند انطلاقتهــا، ومطالــع بواكيــر تأسيسها، وما جاد به، ما هو إلاّ بعض مما فيــه، أو مــا هــو عليــه من مكانــة وإمكانــات. لكن لعبة الأمم لم ترحمــه، وقديمًــا قيــل: «عندمــا تحــطّ حيتان المصالح في محيطات الأزمات، فلا تسأل عن الطعــم... إنهــا الأسمــاك بكبيرهــا وصغيرهــا...؟!». وليست المسألة محصورة، أو مقتصرة على مساءلة الحاضر أمام محكمة الماضي، إن مثل هذه المعادلة غير مطروح، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن للظروف أحكامها، وما يصحّ في ربيع الاستقلال، لا يصحّ اليوم قطعًا. والفرضيات المتداولة في المنتديات السياسيّة الدولية والإقليميّة، حول حاضر المنطقة ومستقبلها لا تزال محاصرة بالكثير من علامات الاستفهام. إلاّ أن الرسائل المتداولة تقرأ من عناوينها، والعناوين واضحة، كان للعديد من الدول كياناتها المعروفة بحدودها ومساحاتها، باستقلالها، وسيادتها، وأنظمتها، وقد أضحت اليوم كيانات بحدود مستباحة، ومساحات مقطّعة مقتطعة، واستقلالات فئوية مذهبيّة طائفيّة عشوائية، وسيادات مبعثرة بين حملة السلاح، وأنظمة «لم تركب على الجالس بعد» تحاصرها الكثير من علامات التغيير، والغضب، والفوضى العارمة... بانتظار المبضع الخارجي الذي «يقصقص ورقًا يساويهم ناس... ويقصقص دولًا يساويها كيانات مبعثرة؟!»...