عظماء

رجل الحرية الذي دمّر آخر قلاع التمييز العنصري
إعداد: تريز منصور


نلسون مانديلا لشعبه: أقف أمامكم كخادم ذليل فلولا تضحياتكم لم أكن هنا
«أقف هنا أمامكم لا كرسول، بل كخادم ذليل أمام الشعب. إن تضحياتكم الدؤوبة والتاريخية هي التي جعلت من الممكن أن أقف هنا اليوم. ولهذا أضع ما تبقّى من سنوات عمري بين أيديكم». بهذه الكلمات توجّه نلسون مانديلا إلى الشعب المحتفي بخروج زعيمه من السجن في 11 شباط 1990.
«قاهر العنصرية»، رجل المصالحة والإعتدال والإنفتاح، ورئيس جنوب أفريقيا الزعيم الملّهم الذي أثّر في حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، من خلال كفاحه المتواصل ضد الفصل العنصري، ودوره الحاسم في تحوّل جنوب أفريقيا سلميًا من دولة الفصل العنصري إلى دولة موحّدة وديموقراطية، رجل الحرية هذا، ودّعه العالم في آواخر العام المنصرم.

 

أحلام أمة وكفاحها في سيرة رجل
من الصعب الإحاطة بشخصية رجل مثل نيلسون مانديلا الذي جمع المجد من أطرافه ليستحقّ لقب «أبو الأمة»، فهو رجل شهدت حياته تحوّلات كانت أحيانًا جذرية ومفصلية، نقلته من مقاتل شرس يؤمن بالسلاح وسيلة لتحرير بني قومه من ظلم العنصر الأبيض، إلى إنسان رحيم لا يجد صعوبة في احتساء الشاي مع زوجة ألدّ أعدائه من أجل أن يعمّ السلام في وطنه.
ولد روليهلاهلا داليبهونغا مانديلا في قرية مغيزو، في منطقة ترانسكي جنوب جوهانسبورغ، في 18 تموز 1918، أمّا إسم نلسون الذي اعتمده وعرف به فقد أطلقه عليه معلّمه في المدرسة التبشيرية.
كان والده زعيمًا قبليًا، ورث الزعامة عن أجداده الذين كانوا يعتبرون ملوكًا، غير أن مانديلا لم يعش عيشة الملوك، بل على العكس من ذلك، فقد عاش طفولة قلقة بعد أن طردت السلطات الحاكمة والده من منصبه كشيخ للقبيلة.
 نشأته في ظلّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كانت عاملاً أساسيًا في رسم خياراته حيث بدأت حياته السياسية باكرًا بالعمل على توحيد فصائل السود المضطهدين ضد البيض الحاكمين في البلاد.
أمضى مانديلا طفولته متنقلاً بين منزل والدته، ومنازل زوجات أبيه وربما كان ذلك سبب قوله يومًا إنه «في كل مراحل حياته، كان يشعر بالراحة مع النساء».
كان مانديلا يسمع بشغف أخبار أجداده ملوك شعب التَمبو، فيشعر أنه في زمن لا يعترف بالملكيات الغابرة، خصوصًا في ظل وجود التمييز العنصري وانهيار المجتمع الزراعي التقليدي.
حين أنهى دراساته العليا، كانت الحياة الجامعية قد زوّدته تجربة قيادية من خلال النشاطات الطالبية ذات البعد السياسي، إضافة إلى اختلاطه بطلاب من مختلف الأعراق، لينتقل بعدها إلى جوهانسبورغ، المدينة الرئيسية في البلاد، حيث عمل مساعدًا لأحد المحامين.

النضال
شارك مانديلا في العام 1942 في حملة ناجحة لمقاطعة الحافلات احتجاجًا على رفع ثمن التذاكر. وشكّل ذلك بداية ارتباطه بحزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» الذي  تأسّس في العام 1912، والذي رسم إطارًا لنشاطه السياسي والاجتماعي.
وبسبب الحظر الذي فرض على «المؤتمر الوطني الأفريقي» بقرار من الحكومة التي يقودها البيض، والتي قامت بفرض نظام «الفصل العنصري» (Apartheid)، مارس مانديلا عمله سرًا مع المؤتمر.
في تلك المرحلة، راح ينظمّ مع رفاقه في الحزب حملات عنف لتخريب الدورة الاقتصادية في بلده جنوب أفريقيا. وأدّى ذلك إلى اعتقاله وإحالته إلى المحاكمة، بتهمة التآمر لإطاحة نظام الحكم. وفي تشرين الأول العام 1963 بدأت المحكمة النظر في قضيته، وسط اهتمام عام وعالمي بهذه القضية.
في أثناء المحاكمة، ألقى مانديلا خطابًا دفاعًا عن نفسه، استغرق نحو 5 ساعات، واعتبر الأعمق من بين خطاباته السياسية كلها، إذ أبرزه زعيمًا من دون منازع، ليس فقط لحزب «المؤتمر الوطني الأفريقي»، وإنما للمعارضة المتعددة الأعراق والمعادية للتفرقة العنصرية. في العام 1985 عرضت عليه صفقة تشمل إطلاق سراحه في مقابل وقف المقاومة المسلحة، إلاّ أنه رفض العرض، وبقي في السجن حتى 11 شباط 1990، أي نحو 27 سنة، إلى أن أدّت الضغوط المحلية والدولية إلى إطلاقه، بأمر من رئيس الجمهورية فردريك دوكليرك، الذي شارك مانديلا جائزة «نوبل» للسلام العام 1993.
عندما خرج من السجن وأنهى نظام الفصل العنصري وانتخب رئيسًا للبلاد، قال: «كرّست حياتي لكفاح الشعب الأفريقي وحاربت هيمنة البيض بقدر ما حاربت فكرة هيمنة السود. كنت أرفع دائمًا نموذج المجتمع الديموقراطي الحر، حيث الجميع يعطون فرصًا متعادلة ومنسجمة. وإذا اقتضى الأمر سأموت من أجل هذا الهدف».

 

الحرية للجميع
لقد تشبّع مانديلا بثقافات متنوّعة، فلم يكن عقائديًا بالمعنى المتحجّر، ولم يسر في سياق إيديولوجي يمنعه من استخدام عقله والعمل بما هو ملائم لكل مرحلة. فلدى وصوله إلى جوهانسبورغ في العام 1941 حين كان في الثانية والعشرين من عمره، كان يحلم بأن يلقي المستعمرين البيض في البحر، وانتهى به المطاف رئيسًا للبلاد يدعو إلى التعايش بين الأعراق. ثمّة ثلاثة منعطفات أساسية مرّ بها رئيس جنوب أفريقيا السابق، المنعطف الأول تلا مرحلة نشوء نظام الفصل العنصري (Apartheid) عام 1948، حينها بدأ نضالاً سلميًا ما لبث أن تحوّل الى نضال مسلّح. يومها لم يستسغ المناضل اقتصار حركة التحرير على السود، فدعا إلى اندماج كل من يرفض النظام العنصري من جميع الأعراق في جبهة واحدة تناضل بالطرق السلمية. دعوة أدّت إلى اتفاق حزبه (المؤتمر الوطني) مع المعارضين بجميع أطيافهم، وكان لهذا الإتفاق ثماره، ففي العام 1955 أقر الجميع ميثاق الحرية لجميع شعوب جنوب افريقيا.

 

الرئيس الزعيم والرمز
أصبح مانديلا أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا في 10 أيار 1994، وذلك بعد فوز حزبه «المؤتمر الوطني الأفريقي»، بأكثرية ساحقة في أول انتخابات متعدّدة الأعراق، في بلد كان يشكل آخر قلاع التمييز العنصري.
وفي العام 1999 قرر التقاعد بعدما انتهت مدة ولايته، ورفض أن يُمدَّد له، فتنحى عن الحكم، لكنه تابع نشاطه مع الجمعيـات والحركــات المنادية بحقوق الإنســان حول العالم.
بعد 12 سنة من تركه الحكم، أدخل المستشفى في العام 2011 لتعرضه لالتهاب حاد في الجهاز التنفّسي، وبدأ صراعًا مع المرض أدخله المستشفى عدة مرات، كان آخرها في 8 حزيران 2013. وبهدوء وخشوع العظماء الكبار رحل السياسي الأشهر عالميًا، والمناضل والزعيم الأفريقي الكبير، وأحد أبرز أبطال الكفاح ضد التمييز العنصري، نسلون مانديلا في السادس من كانون الأول 2013، عن عمر يناهز الـ 95  عامًا في منزله بجوهانسبورغ.
شهرة مانديلا التي اكتسبها عالميًا جاءت نتيجة لنضاله الطويل وإيمانه بقضيته، وسعيه لتحرير شعبه، وعبارات التأبين في العالم الغربي التي صدرت فور وفاته، لم تتحدّث كثيرًا عن كونه مناضلاً سلميًا، كما يشاع دائمًا. فالرئيس الأميركي باراك أوباما قال: «كان رمزًا للنضال من أجل العدالة والمساواة والكرامة في جنوب أفريقيا وأنحاء العالم». الزعماء البريطانيون أشاروا جميعًا إلى شجاعته واعتباره رمزًا عالميًا، من دون وصفه بالمناضل السلمي.

 

نموذج مانديلا
برحيله يكون هذا العالم العاصف والمليء بشتى أنواع العنصرية والعنف والتمييز بين أبناء البشر، قد خسر رجلاً مميّزًا ترك بصمة استثنائية في مسار التاريخ الإنساني، كيف لا ونلسون مانديلا قد أمضى حياته ساعيًا لتحقيق مبادئه في العدالة والمساواة والحرية والسلام من دون أي مساومة على الرغم  من كل المصاعب والأهوال التي واجهها وخرج منها منتصرًا قويًا. سيبقى نلسون مانديلا بإرثه ونهجه وتعاليمه حاضرًا بقوة في ذاكرة وقلوب ووجدان الشعوب ورمزًا حاضرًا في تطلعات الأحرار، ومُلهِمًا لملايين المناضلين الذين لا يزالون يرفضون الخضوع إلى القهر والتعسف، وستكون تجربته أمامهم الأمل الواعد بأنه مهما طال عهد الظلم والإستبداد، لا بدّ في نهاية الأمر أن يستجيب القدر وينبلج فجر الحرية والعدالة.
 ومسيرة مانديلا ستبقى المثال الحاضر دائما لتقديم النموذج السياسي والإجتماعي الذي يؤكد بأن الإختلافات الدينية والعرقية والإثنية لا يمكن أن تشكل عائقا أمام بناء دولة القانون والمؤسسات، الديمقراطية و التعددية التي تحفظ التنوع والتعدد ضمن مكونات أبنائها من خلال تحقيق مبادئ العدالة والمساواة، لا بل أن هذا التعدّد والتنوّع ضمن مفهوم ورؤية مانديلا يشكّل مصدر غنى لهذه الدولة في ثقافتها وحضارتها وليس مصدرًا للإقتتال والدمار وارتكاب أفظع الجرائم ضد الإنسانية على النحو الجاري في مناطق كثيرة من هذا العالم. سيبقى مانديلا مثال الإنسان القدوة والزعيم الذي تخلّى عن الكثير في حياته في نضاله من أجل الحرية، وكي يكون للملايين مستقبل أكثر إشراقًا.

 

مانديلا من خلال  بعض ما قاله

- 26 حزيران 1961: لن أترك جنوب أفريقيا ولن أستسلم. الحرية لا تكتسب إلا من خلال المحن والتضحية والعمل الثوري. الكفاح هو حياتي. سأستمر في النضال من أجل الحرية إلى آخر أيامي».
- 20 نيسان 1964: «طوال حياتي كرّست نفسي لنضال الشعب الأفريقي. قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت أيضا ضد هيمنة السود».
«تعلّقت بمبدأ المجتمع الديمقراطي الحر، الذي يعيش فيه الجميع معًا في وئام وبفرص متساوية».
إنه مبدأ أتمنى أن أعيش من أجله وأراه يتحقق. لكن إذا اقتضت الضرورة فهو مبدأ أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجله».
- 22 حزيران 1990 أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة لمكافحة التمييز: «ستظل جريمة التمييز العنصري الى الأبد، آفة لا تُمحى في تاريخ البشرية. ستتساءل الأجيال القادمة بالقطع: ما الخطأ الذي ارتكب حتى ينشئ هذا النظام نفسه بعد التصديق على الاعلان العالمي لحقوق الانسان؟
«ستظل إلى الأبد اتهامًا وتحدّيًا لكل رجال ونساء الضمير، لأننا أمضينا جميعًا كل هذا الوقت لنقف ونقول «كفى».
10 أيار 1994 في أول خطاب له كرئيس لجنوب أفريقيا: «حان الوقت لمداواة الجراح… حان وقت تخطّي الهوّة التي فرّقت بيننا. حلّ علينا وقت البناء».
- من سيرته الذاتية «رحلتي الطويلة من أجل الحرية» العام 1994: «لا يولد أحد وهو يكره شخصًا بسبب لون بشرته او خلفيته أو دينه. الناس يتعلمون كيف يكرهون وإذا كان يمكن أن يتعلّموا كيف يكرهون، فيمكن أن يتعلّموا كيف يحبّون، لأن الحب هو الأصل في قلوب البشر لا العكس».
- من الفيلم الوثائقي (مانديلا الاسطورة الحية) 2003:» أعتقد أن الولايات المتحدة ثملت من القوة «.
- لدى اختياره سفيرًا للضمير من قبل منظمة العفو الدولية عام 2006 قال:»مثله مثل الرق والتمييز العنصري، الفقر ليس طبيعيًا. الناس هم من صنعوا الفقر وتحملوه والناس أيضا هم من سيتغلبون عليه».
- 1999: « في اليوم الاخير من حياتي أريد ان أتيقّن من أن من عاشوا بعدي سيقولون، هذا الرجل الذي يرقد هنا قام بواجبه من أجل بلده وشعبه».