قصة قصيرة

زينة الرجال
إعداد: العميد الركن إميل منذر

نُعِيَ إليّ ذات يوم وفاة إحدى قريبات نسيبٍ لي في قرية من قرى وسط شمال لبنان؛ فذهبتُ لأداء واجب التعزية. وعندما ضاقت الصالة الواسعة بالمعزّين الذين كانوا ما يزالون يتقاطرون زرافات ووحدانا، سألتُ نسيبي: كم تَعُدّ قريتكم على وجه التحديد؟
- حوالى ألف وخمسماية بارودة. أجاب جادًّا.
- ألف وخمسماية بارودة!؟ سألتُ وكادت أن تفلت ضحكة من بين شفتيّ.
- لا تعجب. في منطقتكم يقولون: ألف نسمة أو ألف ناخب. أما في منطقتنا فيعدّون البواريد. ومَن كان لا يملك واحدة أو غير قادر على حملها، فلا يُعَدّ.
- أصدقًا تقول!؟
- وحياة الشيخ جواد.
- الشيخ جواد!
- وهذا أمر آخر نختلف فيه عنكم. أنتم تُقسمون بالله، بالأولاد، بنور العينين. أما الناس عندنا فيحلفون كلٌّ بزعيمه.
- لا شكّ في أن الشيخ هو أوفر الناس عِلمًا وأكثرهم ثراءً وأفصحهم لسانًا حتى أصبح زعيمهم وقَيْدومهم.
- من جهة الثراء، أجل. أما من جهة العلم والفصاحة، فالشيخ لا يُحسن رسم أحرف اسمه... العِلم في هذه الأرض، يا أخي، ليس غاية تُرجى ولا وسيلة يُرتَزق منها. إنه لا شيء، وسنوات الدراسة القليلة، مجرّد وقت ضائع. لذلك لن تجد إلا قِلّة قد تخطّوا الشهادة التكميلية. الشهادات ليست ما يُزيّن الجدران في المنازل. ما يزيّنها هو السيوف والخناجر والبواريد. وأثمن البواريد ما عاد بالقِدَم إلى أيّام ابراهيم باشا، أو كان من مخلّفات الألمان والفرنسيين والإنكليز.
- إن أمركم لعجيب حقًّا.
- أظنّ أن الستّ «نَهلا» ستحضر بعد قليل؛ فهي لا تفوّت مثل هذه المناسبة الدعائية، لأن الانتخابات أصبحت على الأبواب.
- أليست ابنةَ...
- أسعد بك. لقد ورثت عن أبيها المرحوم زعامته ومحازبيه. وكما يعرف الراعي قطيعه، هي تعرف مَن معها مِن هؤلاء ومَن ضدّها.

وما مضى بعد ذلك دقائق معدودات حتى «اقتحمت» الساحةَ سيّارةٌ سوداء طويلة من أحدث طراز؛ فهرع الناس نحوها، وفتحوا أبوابها لتترجّل الستّ نهلا ومرافقوها. وما كادت قدم الستّ تطأ الأرض حتى نتأت أفواه البنادق من السيّارات، من الشرفات، ومن كلّ مكان، ليتمزّق صدر السماء بالرصاص ينطلق رشقات رشقات، ويعبق الجوّ برائحة البارود والدخان. فقلتُ لقريبي وقد رفعتُ صوتي إلى حدّ الصراخ ليسمع: «أيعرف هؤلاء أين تقع الرصاصات!؟ إنها تؤذي وتقتل إن كانوا لا يعرفون». فضحك قريبي، وقال: «المهمّ أن تخرج من أفواه البنادق. أما أين تسقط، فهذا ممّا لا يحسبون له حسابًا».
دخلت الستّ نهلا، ووقفت بين أبناء الفقيدة تتقبّل التعازي مثلهم. وكان الناس يمرّون أمامها واحدًا واحدًا. هذا يحني رأسه لها تحيّةً وإجلالًا و... مبايعة. وذاك يدعو لها بالصحّة وطول العمر. وإذ لاحظتُ أنّ بين الناس مَن كان يمرّ من دون أن ينظر إليها أو يمدّ يده نحوها، همستُ في أذن قريبي مستفسرًا؛ فقال: «هؤلاء من جماعة الشيخ جواد».
- والذين يلثمون يدها ويحنون جباههم إليها؟
- بالتأكيد يبغون شيئًا منها. هذا وظيفة لابنه، وتيك توصية بابنتها. هم يكذبون عليها، وهي تَعِدُهم وتكذب عليهم.
- أترى ذاك الذي يشكّ في وسطه مسدّسًا «على عينك يا تاجر!!!».
- هذا صديقي «سايد» أجاب مبتسمًا، وأضاف: «إن له حكاية مضحكة. أترغب في سماعها؟».
- بكلّ سرور.
- التقيتُ «سايد» ذات مساء في بيت صديق مشترَك من أبناء القرية يُدعى «فِراس»؛ فاقترحتُ أن نصعد إلى الجرد لتناوُل العشاء.
- فكرة ممتازة. هيّا بنا، قال فِراس. اللقمة، والله، لا تطيب صيفًا إلا في الجبال.
- هيّا إذًا. قلتُ، ونهضت.
- مهلًا، قال سايد. إنتظراني قليلًا ريثما أذهب إلى البيت وأعود.
- عيب يا سايد، قلت. إني أحمل من المال ما يكفي لعشاء ثلاثة. أنتما الليلة ضيفاي.
- ليس المال ما أريد إحضاره. لكن المسدّس... عشر دقائق وأعود.
- ما حاجتنا بالمسدّس يا رجُل! أوَذاهبون نحن إلى الجبهة!
- لا. لا يصحّ أن نخرج من القرية وليس بحوزتنا قطعة سلاح.
- أستطيع أن آخذ بندقيّتي؛ فلا تذهب. قال فِراس.
- إفهماني أرجوكما. مسدّسي قطعة مني. لا أستطيع أن أذهب إلى أيّ مكان من دونه.
- حسنًا يا أخي. إذهب ولا تتأخّر، قلت.

وخرج سايد لا يلوي على شيء. وعاد ومسدّسه إلى وسطه؛ فركبنا سيّارة فِراس، وانطلقنا صعودًا. ثم سلكنا طريقًا فرعيًّا لا يضيئه غير القمر لأن التيّار الكهربائيّ كان- كما في معظم الليالي والحمد لله- محجوبًا عن مصابيح الأعمدة. وفيما نحن نصعّد في الجبل، لمحتُ ما يشبه حيوانًا برّيًّا نائمًا بجانب الطريق؛ فصرختُ بفراس أنْ توقّفْ وارجعْ إلى الوراء؛ فتوقّف ورجع بالسيّارة؛ فإذا ما رأيته غزال نجح، على الأرجح، في الافلات من المحميّة.
- وتقولون إنكم محرومون عطفَ الدولة وحنانها، قلتُ. ها هي وزارة البيئة قد أقامت لكم محميّة فيها من الحيوان حتى الغزلان.
- ليست وزارة البيئة مَن أقام المحميّة، لكن الشيخ جواد؛ فهو في هذه البقعة من الوطن ممثّل وزارة البيئة والزراعة وكلّ الحكومة. أو قُل إنه يقوم مقامها. وتابع قريبي يقول: «عندما صوّب فراس مصابيح السيّارة نحو الغزال، نهض يريد الفرار. قلت: هيّا يا سايد. ها هو عشاؤنا يقف في طريقنا؛ فأين مسدّسك؟ فانتشل صاحبنا مسدّسه وهَمَّ بتلقيمه. لكنّ المسدّس لم يطاوعه. جرّب ثانيةً وثالثة ورابعة، ولم ينجح. عندئذٍ ضحكتُ وفراسًا، وأخذنا نسخر من سايد.
- يبدو أن الصدأ هو السبب... الحقّ عليّ؛ فأنا لم أتعهّده منذ مدّة طويلة، قال سايد، وقد نَدِيَ جبينُه خجلًا؛ فطأطأ رأسه، وقطع أنفاسه.
- لا أعتقد أن السبب هو الصدأ. هذا المسدّس هو من النوع العاطل الذي لا أحد يقتنيه في بيته، قال فِراس، ولكزني خفيةً لأسانده.
- بكم اشتريته يا سايد؟ سألت. أما كان يجدر بك أن تدفع «ليرتين» بعد وتشتري أفضل منه!؟
- لقد غشّوك والله فيه، قال فِراس جاهدًا في منع نفسه من الضحك.
- من الأفضل أن تعثر على مغفَّل تبيعه إيّاه، ثم تتدبّر لنفسك مسدّسًا لا يخذلك أمام الناس. ثم أضفتُ: «لكن إيّاك أن تشتري إن لم أكن برفقتك لأُسديك نصحي».
- كفى أرجوكما، صاح سايد، وفكّ زرّ قميصه العلويّ، وفتح شبّاك السيّارة لإحساسه بأنه يختنق. وعندما بلغنا المطعم، جلستُ إلى المائدة قبالة فِراس، وجلس سايد إلى جانبي ساكتًا لا يُبدي ولا يُعيد.
- يا له من غزال! الفرصة لا تسنح دائمًا. كم وددتُ لو كان بحوزتنا عصا! قلتُ، ونقرتُ حذاء فِراس بحذائي.
- آه لو كان مسدّسي معي! قال فِراس.
- ألا تريدان أن تقطعا هذا الحديث الليلة قبل أن أقتل نفسي! قال سايد حانقًا، ووقف.
- أجلسْ يا أخي... كفى يا فِراس... المهمّ ألا يعلم أحد من رفاقنا بما حدث.
- والله لو نطقتما بكلمة، لخاصمتكما مدى الحياة، قال سايد كمَن يتهيّأ للبكاء.
وحضر الطعام؛ فتناولتُه وفِراس، لأن سايد لم يضع لقمة في فيه بالرغم من أننا رجوناه، ووعدناه بألا نفتح فمًا بكلمة. ثم ركبنا السيّارة عائدين. وفي الطريق أحببنا أن نمازحه بعد ونزيد في طينه بِلّة. قلتُ: «أتعرفان أيها الصديقان؟ حسنٌ أننا لم نصادف مَن يستفزّنا بحركة أو كلمة في الطريق قبل أن نصادف ذاك الغزال المحظوظ».
- أجبناء نحن حتى نخشى مثل هذا الأمر!؟ قال فراس.
- لسنا بجبناء. لكنّ الشجاعة العَزْلى لا تنفع في وجه السلاح، قلتُ. والله لو حصل أن تشاجرنا مع بعضهم، لقتلونا جميعًا.
- أبهذه البساطة يقتلوننا! قال فِراس.
- بالتأكيد يفعلون، لأنهم ما كانوا ليتردّدوا في إطلاق النار علينا قبل أن يشهر سايد مسدّسه الذي لا يعمل، كما رأيت. أما لو لم يكن بحوزتنا سلاح، لاقتصر العراك على السباب والتضارُب بالأيدي من غير أن تُراق نقطة دم واحدة.
عندئذٍ لم يتمالَك فِراس عن الضحك، ولا أنا تمالكت. فما كان من سايد إلا أن فتح باب السيّارة، وقد انشقّ صدره غيظًا: «أوقفِ السيّارة يا فِراس. قلتُ لك أوقفْها الآن. أريد أن أترجّل وأعود إلى البيت سيرًا على قدمَيّ... لعنَ الله الساعة التي أتيتُ فيها معكما... يا ألله! أما لهذه الليلة من نهاية!».
ساعتئذٍ خفنا حقًّا أن يقفز سايد من السيّارة؛ فسكتنا. أما الرجُل فبقي يغلي، وما عتّم أن فتح الشبّاك ورمى مسدّسه بعيدًا عِبْره: «إذهبْ عني في لعنة الله».
صباح اليوم التالي، تابع قريبي يقول، قُرع باب بيتنا بإلحاح؛ فسارعتُ إلى فتحه لأجد «صوفيا» زوجة سايد بحال يُرثى لها. لقد كانت حزينة، مشعّثة الشعر. وبدت بقعة بنفسجية اللون تعلو تفّاحة خدّها. سألتها عمّا بها؛ فحنت رأسها ولم تُجب. عندئذٍ دعوتُها إلى الدخول؛ فدخلت. ولمّا كرّرتُ عليها السؤال، رفعت بصرها إليّ، وقالت: «أنت وفِراس السبب في كلّ ما حصل». وإذ اعتصمتُ بالصمت، تابعت المرأة تقول: «ليلة أمس عاد سايد إلى البيت في ساعة متأخّرة، وكان غاضبًا جاحظ العينين، كأنه يبحث عن أحد ليقاتله».

- ما الأمر يا سايد! إنك تبدو على غير ما يُرام، قلت.
- دعيني وشأني. أجاب بجفاء.
- كيف أدعك وشأنك! أخبرْني بما يسوءك، فلربّما استطعتُ أن أخفّف عنك.
- تخفّفين عني إن تركتِني وهمّي.
- همّك!!!!
- ما بالك يا امرأة! إكفيني شرّ هذه الليلة، واسكتي.
- أنا زوجتك يا سايد.
- إذًا ارحميني، واسكتي.
وسكتتُ، قالت صوفيا، وتابعتْ: «خرج صديقك إلى الشرفة وأشعل سيجارة. ثم أعقبها بأخرى وأخرى حتى أتى على العلبة كلّها، وأنا ساهرة أنتظر أن يدخل علّه يخبرني بما يُثقل صدرَه. ولما غلبني النعاس، لجأت إلى السرير، وسايد ما زال يروح على الشرفة ويجيء، ويقاتل ظلّه. وعندما بزغ الفجر، نهضتُ لأجده قد سبقني إلى غرفة الجلوس».
- صباح الخير، قلتُ.
- صباح الخير، أجاب بصوت كاد ألا يكون مسموعًا، ورأسه منحنٍ فوق ركبتيه.
- إبننا يطالبونه بقسط المدرسة.
- لا أستطيع أن أدفع في الوقت الحاضر.
- لقد تخلّفنا عن الدفع طويلًا؛ فإلى متى سينتظروننا!؟
- لينتظروا بعد، أو انقلي الصبيّ إلى مدرسة رسمية.
- مدرسة رسمية!!!
- أجل، ما بها المدرسة الرسمية! أجاب صارخًا.
- لكن قلتَ إنك تدبّرتَ المبلغ. ألم تتدبّره؟
- بلى. لكنني لن أدفعه للمدرسة... ثمّة أولويّات في هذه الحياة.
- صحيح أننا نعيش عيشة الكفاف، لكن لا ينقصنا- والحمد لله- شيء.
- بلى ينقصنا. ينقصنا الكثير... ينقصنا العِزّة والكرامة. أمسِ تمرّغ رأسي في الوحل؛ فتمنّيتُ لو تفغر الأرض فاهها وتبتلعني؛ فهذا أهون من ارتداء ثوب الهوان والعار.

ثم قصّ عليّ ما كان له معك ومع فِراس في الطريق إلى الجرد، وختم قائلًا: «أريد أن أبتاع مسدّسًا أرفع به رأسي أمام الناس».
- إعقَلْ يا سايد، قلت. علِّم ابنك؛ فيكبر، ويرتفع رأسك به.
- أتريدين أن أنتظر ابني ليرفع رأسي بشهادته!؟ أما اقتنعتِ بعد أنْ ليس الشهادات ما يرفع الرؤوس في هذه الأرض؟ ما يرفعها يا زوجتي العزيزة هو السلاح. إنه زينة الرجال. أبشهادته بنى الشيخ جواد كلّ هذا العزّ والمجد، أم ببواريد الرجال الذين حوله!؟
- لا، ليس بشهادته. لكن- أنت الصادق- بقطيع البشر الذين يسيرون كالماعز وراءه.
- انتبهي لكلامك، ولا تذكري اسم الشيخ بالسوء، وإلا...
- وإلا ماذا؟ تضربني؟
- أجل، أضربك. قال، ولطمني على وجهي.

هكذا قالت صوفيا، ومسحت دمعتين تدحرجتا على خدّيها، وأضافت: «وخرج سايد غاضبًا يقول: كان يجب أن أضربك قبل اليوم. لقد كنتِ وما زلتِ حمقاء، مثل أبيك وأخوتك، تكرهين الشيخ جواد وتذكرينه بالسوء في كلّ مناسبة... لستُ أعرف بعد ما ترون في الستّ نهلا حتى تحبّوها هذه المحبّة العمياء. ألا ألحقَها اللهُ بأبيها عمّا قريب».
وتابع نسيبي الحكاية. قال: «رجتني صوفيا أن أكلّم سايد وأثنيه عمّا هو مُزْمِع عليه؛ فكلّمته. لكنه لم ينثنِ. واشترى المسدّس الذي رأيتَه منذ قليل يزيّن وسطه. وفي آخر السنة نقل ابنه إلى مدرسة القرية الرسمية».
هنا ختم نسيبي حكايته لي. وإذ حانت مني التفاتة إلى الخارج عبر النافذة، رأيت شابًّا يدخل الساحة بخطى حثيثة، ويخبر الجمعَ أن رصاصة طائشة أصابت قبل قليل طفلًا وهو يلعب على الشرفة؛ فتألّب الناس عليه يستفسرونه.
وفي اليوم التالي مشى أهل القرية والجوار موكبًا حزينًا خلف نعش صغير أبيض يحمل إلى القبـر طفــلًا بعمــر الرياحــين.