تحت الضوء

سيكولوجية التظاهرات والتحركات الشعبية
إعداد: ندين البلعة خيرالله


ما هي الآليات التي تحكم سلوك المشاركين فيها؟
كيف ينشأ الحراك المدني في مجتمع ما؟ وما هي الآليات والديناميات التي تتحكّم بسلوك الأفراد فيه؟ وما هي العوامل التي تحفّزه وتجعلها جاذبًا للجماهير، أو على العكس تقوده إلى الفشل؟ وما أثر كل ذلك على المجتمعات؟
عن هذه الأسئلة تجيب الدكتورة في علم النفس الاجتماعي والأستاذ المساعد في الجامعة اللبنانية سحر حجازي، شارحةً سيكولوجية الحراك المدني.

 

في التعريف
بدايةً تلفت حجازي إلى أنه لا تعريف موحّد للحراك المدني، إذ تختلف تعريفاته من باحث إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ولكن يُجمِع الكل على أنه عبارة عن مجموعة من الأشخاص، يقرّرون تنظيم جهودهم لتحقيق هدف معيّن. وغالبًا ما يكون هذا الهدف تحسين الواقع وتحقيق نوع من المساواة الاجتماعية، أو مواجهة ظاهرة قد تكون مسيئة للمجتمع.

 

العوامل المحرّكة
تشرح د. حجازي أنّ الحراك لا ينشأ في الفراغ، بل يتحرّك ضمن مجتمع معيّن. هذا المجتمع هو مجال نفس- اجتماعي يتميّز بديناميّة معيّنة هي نتيجة سلوكيات الناس المكوّنين له، والذين غالبًا ما يكون هدفهم إمّا التكيّف مع متطلّبات البيئة أو تحسينها، أو تلبية حاجة معيّنة قد تكون بيولوجيّة أو اجتماعية أو إنسانية... لذلك ثمّة عدّة أسباب نفس- اجتماعية تحفّز الحراك.

 

المحفزات الاجتماعية
تؤدّي الظروف الاجتماعية غير المستقرّة وحالات القلق الاجتماعي أحيانًا إلى إثارة حراك مدني. فحين يكون المجتمع في حالة غليان، تغيب المرجعية الواحدة، فيشعر الناس بأن التدابير الاجتماعية القائمة والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء في مجتمعهم لا قيمة لها ولا تساعد في تغيير الوضع، الأمر الذي يحرّك ديناميّة سلبيّة ويؤدّي إلى انطلاق سريع للحراك لمناهضة اللامساواة واللاعدالة وتغيير الظروف.
كذلك يشكّل تغيّر القيم والمعايير مع الوقت، دافعًا لبعض الجمعيات للتحرك ضمن نشاطات خارج النطاق الرسمي قد تتطوّر إلى تظاهرات، خصوصًا في ظل الواقع الحالي للمجتمعات حيث لم يعد الإنسان قادرًا على مجاراة المتطلّبات المادية والتطوّر التقني السريع. ويدعم هذا العامل أيضًا تجانس الوضعيات الاجتماعية، فكلما كان القائمون بالحراك من طبقة اجتماعية متجانسة أو من جمعيات متشابهة من حيث الوضع الاجتماعي أو القضايا المثارة، كلما ساعد هذا الأمر في توسيع الحراك وتعزيزه وزيادة العدوى الانفعالية التي تنشأ من خلاله، وبالتالي ينشأ توافق حول ضرورة التغيير في قضية معينة، أو معالجة موضوع معيّن، ما يزيد من ثبات الحراك وتوسّعه.

 

العوامل النفسية
إلى المحفّزات الاجتماعية، تدخل عوامل نفسيّة تفعّل الحراك المدني أو تحفّز على نشأته وأهمّها العدوى الاجتماعية. فهناك نوع من اللاوعي الجماعي في كل مجتمع يمكن وصفه على أنّه استعداد مشترك للتأثّر بالعاطفة أكثر من التأثر بالعقل والمنطق. وكلما كانت القضية التي تتبنّاها الجمعيات المشاركة في الحراك أكثر إنسانية ولها أبعاد عاطفية، كلما تأجّجت مشاعر الأفراد وحدّة انفعالاتهم الفردية وبتنا أمام ما يُعرَف بالعدوى الاجتماعية.
لنفترض مثلاً، أنّ جمعية معيّنة تناضل ضدّ الفقر، شاهدت صورة لرجل مسنّ يبحث عن الطعام في النفايات، هذه الصورة تخلق لدى أفراد هذه الجمعية حالة من التأثر والحزن، فيتناقلونها، ويزيد التأثّر من فردٍ إلى آخر، إنها العدوى الاجتماعية التي تخلق حالة من الهيجان والاستعداد لتغيير الواقع، فنصبح أمام وحدة نفسية تساعد على تصريف النزعات النفسية الفردية الكامنة لدى كل إنسان، الأمر الذي يشجّع أحيانًا على تصرّفات قد تعتبر شغبًا.
يُضاف إلى ذلك، عامل الإيحاء الذي نعني به القبول المبدئي للانصياع لفكرة معيّنة، فيكون الفرد في حالة تهيّؤ ذهني وسلوكي لرفض أو تأييد فكرة مطروحة في الحراك. تأييده يجعله قابلاً لكل ما يقوله الشخص القائد (leader) في الحراك، فيصفّق له ويتبعه، ما يزيد القائد قدرةً على الإيحاء والتأثير بالناس الذين لا يحتاجون إلى دليل منطقي ليؤيّدوا شخصًا ما بل يتأثّرون بالإيحاء العاطفي الذي يمثّله.
ومع العدوى والإيحاء، نجد الرغبة بالتماثل، أي رغبة الإنسان في أن يكون مثل غيره، سعيًا إلى التكيّف مع من حوله والتماثل مع الجماعة لكي لا يُنبَذ. وقد أثبت علم النفس الاجتماعي أن سلوك الشخص حين يكون بمفرده يختلف عمّا يكون عليه حين يكون في تظاهرة، حيث يغيب المنطق ويهيمن الإيحاء والرغبة بالتماثل على معتقدات الفرد. ويعزّز هذا العامل، تشارك المسؤولية، إذ تغيب في الحراك المسؤولية الفردية المباشرة عمّا يحصل، وتظهر المسؤولية الجماعية الموزّعة على كل من يشارك فيه، ما يجعله أكثر انتشارًا ونجاحًا.
كما أنّ لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي دورًا مهمًّا في هذا المجال. فتناقل الأخبار وتكرارها في أكثر من موقع ووسيلة مختلفة، يجعل الناس يصدّقونها وكأنها حقيقة ثابتة لا يمكن مناقشتها وإن لم تكن كذلك.

 

أسباب أخرى
إلى الأسباب السابقة المصنّفة في خانتَي المحفّزات الاجتماعية والنفسيّة للحراك، تأتي أسباب أخرى إضافية لتكون هي أيضًا من العوامل المقوّية للحراكات المدنية ومن بينها:
- التماس الخير وتحقيق المصلحة العامة، أي أهداف الحراك التي ترنو إلى خير الناس والمجتمع عبر تغيير الواقع البشع لبعض الفئات المهمومة أو المهمّشة اجتماعيًا أو المعنّفة. هذا النوع من الشعارات يساعد في عملية الإيحاء وزيادة عدد المناصرين وتوسيع الحراك.
- توافر أشخاص محرّكين (leader) يكونون بمثابة نواة يتجمهَر حولها الجميع، فعلم النفس يؤكّد نزعة الإنسان ليكون دائمًا تحت سلطة قائد ما. يختار المنظّمون هذا القائد الذي يجب أن يتميّز بالكاريزما والشخصية الجاذبة التي تعرف كيف تخاطب المشاعر والعاطفة لا العقل، فيبتعد في إطار العدوى الانفعالية عن المنطق ويستثير شفقة الناس وحماستهم أكثر ممّا يطرح الحلول والخطط والاستراتيجيات. وحين تتحرك المشاعر يتخدّر العقل ويتصعّد الحراك فيتمّ استغلاله من قبل وسائل الإعلام بسرعة قياسية فيسري كالنار في الهشيم.
- ثقافة المشاركين ووجود المشاهير: يحاول منظّمو أي حراك استغلال بعض المشاهير أو المثقّفين والذين يكونون في مواقع مؤثّرة ثقافيًا، حيث يوفّر وجودهم دعمًا واستمرارية للحراك ويشجّع الناس على المشاركة تماهيًا بهؤلاء المشاهير.
من جهة أخرى، تدخل التنشئة الاجتماعية وبيئة الفرد بشكلٍ أساسي في تحديد مشاركته أو عدمها في الحراك. فالأغنياء والميسورون مثلاً يرفضون عادةً المشاركة في أي حراك أو تظاهرة لأي سبب كان، حتى لو كانوا مؤمنين بالقضية وداعمين لها معنويًا. أمّا الآخرون الذين يعانون الفقر والعوز فكلمة واحدة كفيلة باستثارتهم وإنزالهم إلى الشارع للمشاركة في أي حراك حتى لو تحوّل إلى شغب.

 

إيجابيات وسلبيات
تشرح د. حجازي أن لكل حراك إيجابياته وسلبياته، ولكن كل مجتمع يتميّز بخصوصية معيّنة تؤثّر في طبيعة الحراك وأهدافه. ومع ذلك، يمكننا تحديد بعض الإيجابيات والسلبيات التي تشمل أي حراك مدني بشكلٍ عام.
في تأثيره الإيجابي، يعتبر الحراك وسيلة لإلقاء الضوء على ظاهرة معيّنة، أو إنذارًا من القاعدة الشعبية للطبقة الحاكمة حول تأزّم وضع المجتمع ورغبة الشعب في محاربة الظاهرة المسيئة لمجتمعه حتى لا يتفكّك، وبالتالي يكون الحراك إنذارًا بالأسوأ إذا لم تتّخذ الخطوات اللازمة لتصويب الوضع. كما قد يكون لفتًا لانتباه قادة المجتمع إلى ظاهرة اجتماعية خطيرة تتفشّى من دون درايتهم، وذلك بهدف وضع خطط لمواجهة هذه الظاهرة والتوعية حولها كي لا تتسبّب بانهيار المجتمع. وفي هذا الإطار يخلق الحراك نوعًا من الوحدة والصهر في بوتقة واحدة لمجموعة من الفئات الاجتماعية التي قد تختلف بالقناعات السياسية أو الانتماءات أو تكون من مناطق مختلفة.
في المقابل، لا يمكن أن نغفل عن سلبيات الحراك المدني الذي قد يخلق إرباكًا في المجتمع ويزيده عدم استقرار. فالمجتمعات التي تتظاهر وتتحرك هي ليست تلك الميسورة والتي تؤمّن للمواطن عيشًا كريمًا، وإنما هي المجتمعات الجائعة والفقيرة التي تنتفض وتلبّي الدعوة إلى الحراك فور تلقّيها، وعدم استقرار هذه الشعوب قد يتحوّل من حراك سلمي إلى أعمال شغب إذا ما تكرّرت وتصعّدت، قد تصل إلى حالة من الثورة أو ما يشبه الثورة، بحسب نسبة تنظيم الحراك وتمويله. فالحراك يبدأ عفويًا، ولكن استمراره وتوسّعه يتطلّب تمويــلاً وتسويقًــا وقــادة.
 

ما الذي يؤدّي إلى نهاية الحراك؟
حول هذه النقطة تقول حجازي: إن جزءًا من العوامل المؤدّية إلى نهاية الحراك يرتبط بمسبّباته. فإذا فقدت القضية أو الشعار وهجهما، وإذا لم يطَل الحراك النسبة الأكبر من الناس فهو آيل حتمًا إلى الفشل. وكمثال على ذلك، نلاحظ أن الشعب اللبناني لما كان اجتمع حول قضية معيّنة وأظهر دعمه بمختلف الطرق، لو لم تطرق هذه القضية، وهي النفايات باب كل واحد منّا وتهدّد صحّته، الأمر الذي لم نشهد له مثيلاً من قبل.
كذلك إذا لم يتمّ استغلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بالشكل الصحيح، لن يتمكّن الحراك من النجاح وتحقيق أهدافه. فالفرد يتفاعل مع التعليقات التي تُنشَر في هذه الوسائل ويشتعل غضبًا ويتحمّس للمشاركة.
في الخلاصة، تحذّر د. سحر حجازي من التجارب السلبية التي عرفها العالم العربي للحراكات المدنية التي تطوّرت بشكل دراماتيكي، وأدّت إلى عنفٍ ودمارٍ وتدخل خارجي ما زاد من حالة عدم الاستقرار فيها. وبالتالي فإنّ الحراك المدني حالة دينامية ضمن المجال النفس- اجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، ولاستمرار هذه الدينامية بشكلٍ إيجابي يجب أن تكون أهدافها سامية وتمسّ أكبر قدر ممكن من مشاعر الأفراد واهتماماتهم، وعلى المنظّمين والقيّمين عليها أن يدرسوا قضيّتهم وتحرّكاتهم بإمعان، وأن يوزّعوا مهمّاتهم بالشكل الصحيح، ليُكتب لحراكهم النجاح.
كما تدعو الناس إلى أن يعوا أهمية المشاركة في الحراك، لكنها تحذّرهم من كونه سيفًا ذا حدَّين، ففي حين قد يكون أداةً لتطوير المجتمع إذا حسن تنظيمه، قد يؤدّي في المقابل إلى هدم المجتمع إذا لم يكن له مرجعية موحّدة، فغياب المرجعية يسهّل استغلاله لمآرب تفكّك المجتمع!