نحن والقانون

شهادة الزور ومفاعيلها القانونية
إعداد: د. نادر عبد العزيز شافي
محام بالإستئناف


تعتبر شهادة الشهود من أقدم وسائل الإثبات وأهمها الحقيقة، كما أنها من أهم الأدلة التي قد تستند إليها المحكمة في أحكامها، لذلك فإن لها أهمية كبرى وخطيرة في الدعاوى القضائية، خصوصًا الجزائية منها. فإذا كانت الشهادة زورًا، قد تؤدي الى أن يُدان بريء ويعاقب، أو يُبرَّأ مجرم ويفلت من العقاب. ولهذا عاقبت القوانين على الشهادة الزور التي عُرِفت منذ أن عرف الإنسان الجريمة والعقاب، في المجتمعات القبلية وفي الحضارات الفرعونية وبلاد ما بين النهرين. وقد عاقب عليها قانون حمورابي بقطع لسان صاحبها. كما نهت الديانات السماوية عن الشهادة الزور واعتبرتها من الكبائر. أما قانون العقوبات اللبناني، فاعتبرها جريمة تحت الفصل المتعلق بالجرائم المخلَّة بسير القضاء سندًا الى المادة 408 وما يليها.

 

عناصر جريمة شهادة الزور
نصت المادة 408 من قانون العقوبات اللبناني على أنه: «من شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري فجزم بالباطل أو أنكر الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. وإذا أدلى بشهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية حكم بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر. وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبَّدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات».
وبذلك، يتبين أن عناصر جريمة الزور هي: أداء الشهادة أمام سلطة قضائية - كذب الشهادة أو تحريفها للحقيقة، والقصد الجرمي.
 

• أداء الشهادة أمام سلطة قضائية: يجب أن تكون شهادة الزور قد أديت أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري في دعوى جزائية أو مدنية أو إدارية تنظر فيها هذه السلطة، ويكون الشاهد قد استدعي بقرار من السلطة القضائية، بناءً على طلب أحد الخصوم أو بناء على ما رأته المحكمة جلاءً للحقيقة. وليس من الضروري لقيام جرم شهادة الزور أن يتم حلف اليمين القانونية، إلا أنه في حال أديت الشهادة الكاذبة أمام القضاء من دون حلف تلك اليمين لوجود أسباب أو عقبات قانونية تحول دون تحليف الشاهد اليمين القانونية فإن العقوبة تُخفَّض إلى النصف (المادة 408 عقوبات).
أما بالنسبة الى صيغة حلف اليمين القانونية فهي: «أقسم بالله العظيم بأن أشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق». ولا تطبق هذه الأحكام على الشهادة المؤداة خارج القضاء؛ كأن تحصل أمام مراجع إدارية أو موظف عام أو الكاتب العدل أو السجل العقاري أو الضابطة العدلية، فهي وإن كانت كاذبة، لا يمكن توصيفها بأنها شهادة زور.
 

• كذب الشهادة أو تحريفها الحقيقة: تقتصر مهمة الشاهد عمومًا على سرد الوقائع المادية التي علم بها والتي لها علاقة بموضوع النزاع الذي يشهد فيه، من دون إبداء رأي خاص في تقدير الوقائع أو استنتاج نتائج منها، لأن مسألة التقدير تعود للمحكمة وتدخل في صلب مهماتها عند إصدار الحكم في الدعوى. وإذا كانت أقوال الشاهد مبنية على رأيه الخاص أو استنتاجاته فلا يكون قد ارتكب جريمة شهادة الزور حتى ولو كان رأيه خاطئًا أو استنتاجاته غير صحيحة أو تقديره مخالفًا للواقع ما لم تُقدّر المحكمة عكس ذلك بما يتكوَّن لديها من معطيات. ولذلك، يجب أن يثبت الكذب في الشهادة أو تحريفها للحقيقة بهدف التغيير المقصود والمتعمد للحقيقة وللوقائع. ويتم استخلاص ذلك من أقوال الشهود والأدلَّة والظروف المحيطة بالدعوى. ويجب أن ينصبّ القول في شهادة الزور على واقعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع النزاع المطروح أمام السلطات القضائية أو له أهمية كبيرة في مركز أطراف النزاع، ومن شأنه التأثير في قناعة القاضي. ولهذا عاقبت المادة 408 من قانون العقوبات اللبناني من جزم بالباطل أو أنكر الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها. والجزم بالباطل هو أن يدلي الشاهد عكس ما رآه بقصد إخفاء الحقيقة أو تشويهها، أو الزعم كذبًا أنه رأى شيئًا لم يَرَه أو خلافًا لما رآه.
أما إنكار الحق فهو الموقف السلبي الذي يتَّخذه الشاهد من وقائع أو حقائق معينة عبر نفي الحقيقة بما يتعارض مع صحتها من خلال إنكار علمه أو معرفته بواقعة معينة رغم علمه الأكيد بها. وكذلك، إن كتم بعض أو كل ما يعرفه الشاهد من وقائع القضية التي يُسأل عنها يشكل أيضًا زورًا في شهادته عبر تجريد الفعل المنسوب الى الفاعل من بعض أو كل الظروف التي من شأنها تغيير الحقيقة للتأثير على قناعة القاضي؛ كأن يكتم الشاهد ظروف العنف أو حالة الليل التي رافقت السرقة مما يُوثّر في توصيف جرم السرقة من موصوفة الى عادية كما يؤثر في العقوبة.
وتقتضي الإشارة الى أن التناقض في أقوال الشاهد من دون قصد الكذب في شهادته أو تحريف الحقيقة بسبب مرور مدة زمنية طويلة على الواقعة لا يُشكّل شهادة زور، ما لم تُقدّر المحكمة الناظرة في هذه الجريمة عكس ذلك من خلال تقدير أن التناقض كان بهدف تضليل العدالة.
 

• القصد الجرمي: تعتبر جريمة شهادة الزور من الجرائم العمدية التي يجب أن يتوافر فيها القصد الجرمي العام أو النية الجرمية التي تتكون من العلم والإرداة اللذان يشكلان القصد العام، إضافة الى وجوب توافر القصد الخاص من خلال تعمّد الشاهد الجزم بالباطل وإنكار الحقيقة وكتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يُسأل عنها. فيُعاقب الشاهد إذا كذَّب عن قصد أمام السلطة القضائية عن علم وإرادة وبهدف تشويه الحقيقة وبقصد تضليل العدالة. فإتجاه إرادة الجاني إلى الإدلاء بشهادة الزور بكامل إرادته وهو على يقين بأن ما يدلي به هو باطل وأنه لا صحة له في الواقع يثبت نيته الجرمية. أما الشاهد الذي يدلي بشهادة غير صحيحة بسبب ضعف ذاكرته أو تسرّعه في الجواب أو وقوعه في الغلط حول بعض الوقائع وفي تقديرها أو مفاجأته ببعض الأسئلة، فلا يثبت توافر نيته الجرمية، وهذا يعود لتقدير المحكمة الناظرة بدعوى شهادة الزور وقناعتها.

 

عقوبة جريمة شهادة الزور
عقوبة شهادة الزور في القانون اللبناني هي على النحو الآتي:
- الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات: إذا أديت شهادة الزور أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري.
- الأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر: إذا أديت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية.
- لا تنقص العقوبة عن عشر سنوات أشغال شاقة ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة، إذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة (المادة 408 عقوبات).
 

• تخفيض العقوبة:
 تُخفَّض العقوبة على النحو الآتي:
- تُخفَّض إلى النصف، إذا تمّ الإستماع إلى الشاهد من دون أن يحلف اليمين (المادة 408 عقوبات).
- تُخفَّض العقوبة من النصف إلى الثلثين، إذا عرَّضت شهادة الزور شخصًا آخر لملاحقة قانونية أو لحكم (المادة 410 عقوبات).
- تُخفَّض إلى النصف عقوبة المحرض على شهادة الزور إذا كان الشاهد يعرضه حتمًا لو قال الحقيقة أو يعرِّض أحد أقربائه لخطر جسيم.
 

• الإعفاء من العقوبة:
يعفى من العقوبة:
-  الشاهد الذي أدى الشهادة في أثناء تحقيق جزائي، إذا رجع عن الإفادة الكاذبة قبل أن يختم التحقيق ويُقدَّم بحقه إخبار.
- الشاهد الذي شهد في أية محاكمة، إذا رجع عن قوله قبل أي حكم في أساس الدعوى ولو غير مبرم (المادة 409 عقوبات).
- الشاهد الذي يتعرَّض حتمًا، إذا قال الحقيقة، لخطر جسيم له مساس بالحرية أو الشرف، أو يُعرِّض له زوجه ولو طالقًا أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوته أو أخواته أو أصهاره من الدرجات نفسها.
-  الشخص الذي أفضى أمام القاضي باسمه وكنيته وصفته ولم يكن من الواجب استماعه كشاهد أو كان من الواجب أن ينبه إلى أن له أن يمتنع عن أداء الشهادة إذا شاء (المادة 410 عقوبات).

 

إجراءات الملاحقة الجزائية
تختلف هذه الإجراءات في كل من مرحلتي التحقيق والمحاكمة:
 

• مرحلة التحقيق لدى قاضي التحقيق:
نصت المادة 89 أ.م.ج. على أنه إذا جزم الشاهد بالباطل أو أنكر الحقيقة أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها فيحيل قاضي التحقيق المحضر الذي دونت فيه إفادته إلى النيابة العامة الاستئنافية لتلاحقه بجريمة شهادة الزور.
 

• مرحلة المحاكمة لدى القاضي المنفرد الجزائي:
نصت المادة 188 أ.م.ج. على أنه إذا تبين للقاضي أن الشاهد يدلي بإفادة كاذبة يُكلِّف قوى الأمن بوضعه في نظارة المخفر ويضع تقريرًا يرفعه إلى النائب العام في هذا الشأن ويشير فيه إلى وضع الشاهد في النظارة. وللنائب العام أن يلاحق هذا الشاهد بجرم شهادة الزور وفق الأصول.
 

• مرحلة المحاكمة لدى محكمة الجنايات:
نصت المادة 261 أ.م.ج. على أنه إذا ظهر تباين أو تغيير بين شهادة الشاهد وبين أقواله في التحقيق الأولي أو الابتدائي، يأمر الرئيس كاتب المحكمة بتدوين ذلك. ولكل من المدعي الشخصي وممثل النيابة العامة والمتهم أن يطلب تدوين ذلك التباين (أو التغيير) في محضر المحاكمة. وإذا تبين أن في ذلك ما يحمل على الاعتقاد أن الشاهد كاذب في إفادته فلرئيس المحكمة أن يأمر، بتوقيفه. ويصار إلى الادعاء عليه بشهادة الزور، وبالتحقيق معه.
 

• بعد مرحلة التحقيق والمحاكمة:
إذا لم يتم الإدعاء على الشاهد بجرم شهادة الزور وفق المذكور أعلاه خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة، ثم تبيّن (حتى بعد صدور الحكم النهائي)، أن الشهادة المدلى بها أمام السلطات القضائية هي كاذبة وأُدلي بها زورًا، تبقى ملاحقة شاهد الزور جائزة أمام القضاء الجزائي المختصّ وفق الأصول العادية بإدعاء شخصي من المتضرر أو بإدعاء من النيابة العامة. وإذا صدر حكم مبرم بأن الشهادة كاذبة يحق للمحكوم عليه استنادًا إلى هذا الحكم طلب إعادة المحاكمة.

 

إستقلالية جريمة شهادة الزور
إن جريمة شهادة الزور هي جريمة قائمة بحدّ ذاتها ومستقلَّة عن الدعوى التي تمَّ سماع الشهادة فيها ومستقلَّة أيضاً عن النتيجة التي تمَّ التوصّل اليها في تلك الدعوى، لأن المشترع اللبناني لم يعلّق قيامها وملاحقتها ومعاقبتها على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، فتتم الملاحقة بها، حتى لو لم تقتنع بها المحكمة الناظرة في الدعوى الأصلية، ولو لم تستند إلى هذه الشهادة في حكمها، وتُفرض العقوبة على مرتكب جريمة شهادة الزور حتى لو لم يستند عليها الحكم بالإدانة أو بالتبرئة، إذا توافرت جميع أركانها وعناصرها.


المراجع:
- تقرير وزير العدل إبراهيم نجار المرفوع الى مجلس الوزارء اللبناني عن شهود الزور في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
- دراسة قانونية حول شهود الزور أعدّتها الجمعية اللبنانية للقانوني الجزائي بالتعاون مع مكتب مدكور للمحاماة.
- القاضي عدنان عضوم: ملاحقة مرتكبي جريمة شهادة الزور من اختصاص المحكمة الدولية.
- د. خليل حسين: شاهد الزور في قانون العقوبات اللبناني، 17/9‏/2010.