تأملات

شوكـةُ الوطن التي لا تُكسر
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان

لا ندَّعي نحن العسكريين، من مختلف الرتب، أن جميعَنا قد التحق في الجندية بسبب تدفّق المشاعر الوطنية بداخله... كما لا ندّعي أننا سارعنا الى الالتحاق بمعسكرات التدريب فور سماعنا نداء الواجب «هلموا للدفاع عن الوطن»، مع أنّ ذلك قد يكون حال البعض منّا ولكنه بالتأكيد ليس حالنا جميعاً.
تلك حقيقةٌ لا بد من التسليم بها، لكن ثمَّةَ حقيقة أخرى في السياق عينه هي أننا قد بدأنا نتشرَّب كأسَ محبة الوطن والتفاني من أجله مذ التحقنا في الجيش، كأسٌ بل كؤوسٌ سقت نفوسَنا قطرة قطرة، تماماً كما يُسقى الزرع في عملية الري الحديثة. وقد نبتَت نتيجة ذلك بذور المشاعر الوطنية الصادقة التي أدت الى تكوين وعي وطني في وجدان كل منا، وتشكلت فينا شخصياتٌ جديدة طغت على شخصياتِنا السابقة، التي تحوَّلت بفعل الإنتماء الى المؤسسة العسكرية بعد أن تلقَّت لقاحًا نشَر في مختلف خلايا جذعها رحيقًا من الشرف والتضحية والوفاء... تمامًا كما تتحول الأشجار عندما يتم تلقيحها في أثناء عملية التطعيم فيُنبت ذلك اللقاحُ اغصانًا جديدة من جذعها تحاكي نوع الطعم الذي لُقِّحَت به.
هكذا نصبح، نحن العسكريين، كبستانٍ متراصٍّ من الاشجار المنتظمة التي تنتمي إلى عائلةٍ واحدة، بعد أن تمّ تطعيمها برحيق الوطنية علمًا أنّ لكلّ منها جذعًا مختلفًا نبت في تربةٍ مختلفة، ذلك هو مفهوم الانصهار الوطني الذي نعيشُ روحيته ونذوب فيه فور التحاقنا في الجيش شبانًا قادمين من مختلف أنحاء الوطن.
نتيجة هذا التحول في شخصياتنا، فإن أمورًا كثيرة في أدبياتنا تتغير، فتطغى رتبنا على أسمائنا، ويطغى لباسنا المرقط على لباسنا المدني.
منازلنا تتغير، فتصبح مضاجعنا في الثكنات والمراكز والمواقع العسكرية، القريبة منها والبعيدة، بدلاً من الشقق والأبنية في البلدات والقرى والاحياء.
عائلتُنا الصغيرة تكبر من ثلاثة أو أربعة أشقاء وشقيقات إلى عشرات الألوف بل ما يفوق ذلك بكثير.
مرجعيات كلّ منا، إن وجدت، فإنها تتبدد لتصبحَ قيادة وطنية، سقفها العلم اللبناني، بدلاً من رؤساء العشائر أو الكبار في العائلات او فتوات الأحياء او زعماء الطوائف والمذاهب...الخ.
مواقيت نهوضنا ونومنا وعملنا اليومي تتغير فتضبط على ساعة الوطن الوحيدة، بدلاً من ساعات أخرى تدور عقاربها على محاور إقليمية ودولية.
معايير الكرامة تتغير كما معاني الحياة التي تستحق ان تُعاشَ بشرفٍ، ولكنها في الوقت عينه ترخُصُ في ساحات الشرف أمام قضية الوطن ومستقبله.
حتى طريقة عيشنا وأسلوب حياتنا، نبرات أصواتنا، مفردات كلامنا، تفاعلنا مع محيطنا، طريقة إلقاء التحية على الآخرين، كلّ ذلك يتغير. فلا مجال للتملّق في مخاطبة الآخرين ولا مراوغة في التعامل معهم، إلتزامٌ في الكلام والمواعيد، جديةٌ حيث يستوجب الموقف جدية ولطفٌ تجاه من يستحقه.
باختصار، فإنّ كل شيء فينا يتغير، حتى إنّنا نميلُ الى اعتبار أنفسنا من جنسٍ آخر، خصوصًا عندما نسمّي كل من ليس منا بالمدني، وهو ليس مثلنا نحن العسكريين أصحاب المناقبية العسكرية، وذلك تميُّزاً وليس تحيُّزًا، هذا في قرارة أنفسنا وربما في لاوعينا.
كما ونشعر أننا حين التحقنا في الجيش، إنما انتقلنا من عبثية الحياة المدنية وفوضاها إلى عالم الإنضباط والنظام العام، من التهرب من المسؤولية الى تحمُّلها بالكامل، من ضعف الحياء والخجل الى الشجاعة الأدبية، من التردّد الى الإقدام، من التذمر والتأفف إلى تحمل المشقات...
هكذا نحن معشر العسكريين بكل فخرٍ وتواضعٍ واعتزاز.
نعم هكذا نحن معشر البذًّات المرقطة، المنتشرة على مساحة الوطن من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب ومن أطراف المياه الإقليمية إلى أطراف الحدود.
نحن لا ندَّعي أننا نحب وطننا أكثر من المدنيين، ولا نحتكر شعور الإنتماء الوطني، ولكنّ وطننا لبنان هو بالنسبة إلينا قضيتنا الوحيدة المقدسة، ليس مثل الكثير من غير العسكريين!
نحن لا ندَّعي أننا لا ننتمي إلى طوائف ومذاهب مختلفة، لكننا نعيش بداخلنا حالةً وطنية أقوى بكثير من مشاعرنا الطائفية، ولأنّ مجرد وجودنا إلى جانب بعضنا البعض، في هذه المؤسسة الوطنية الطاهرة، وجهوزيتنا جميعًا للتضحية بأرواحنا من أجل وطنٍ واحد، لهو خير دليلٍ على تجاوزنا تلك الحدود الوهمية، بل العقد النفسية، بل هذا التخلف الذي للأسف ما زال يعيشهُ الكثير من غير العسكريين!
نحن لا ندَّعي احتكار الدفاع عن الوطن، فهناك خطوط دفاع يضطلع بها المجتمع المدني، منها الدبلوماسية والفكرية والاعلامية... الخ، ولكن عمادها الدفاع المسلح ضد أي اعتداء على الوطن، وهذا الميدان نحن أسياده وخبراؤه ومحترفوه.
نحن لا ندَّعي اننا معصومون عن الخطأ او منزَّهون عنه، ولكننا خاضعون للمحاسبة تحت سقف القانون، هذا السقف الذي يمتد فوق رؤوسنا جميعًا، مهما علت الرتب ورَفُعت الوظائف، ليس مثل الكثير من غير العسكريين!
نحن لا ندَّعي أننا أزهارٌ وورود، بل نعتبركم أنتم أزهار هذا الوطن الجميلة ووروده المتنوعة والمتعددة الالوان، التي تقدم صورة فسيفسائية رائعة عنه للشرق والغرب، أما نحن فأشواكٌ منثورةٌ على الحدود وبين المناطق، مهمتنا حماية هذه الورود ومنع العبَث بها وتشويه جمالها أو سرقة رحيقها، فإذا كنتم فعلاً ورود الوطن ولعلَّكم تكونون... فإننا شوكةُ الوطن التي لا تُكسر!!