دراسات وابحاث

صراع الهويات والموارد على خطوط ترسيم المصالح
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

جنوب السودان

 يرى البعض أنه يمكن ردّ النزاع الدائر في دولة جنوب السودان إلى أكثر من سبب: قبلي ،  سياسي، واقتصادي، وهي الاسباب ذاتها التي جعلت جنوب السودان ينفصل واقعيًا عن السودان الأم ليشكل في العام2011 دولة، باتت الآن مهددة بالحرب الأهلية  والتفتت الداخلي  والنزاعات الانفصالية. فعلى الرغم من أنّ دولة جنوب السودان مؤتلفة الإثنية والعرق والدين، إلا أنّ الاختلافات على مستوى القبائل العديدة واللهجات المختلفة ساهمت في انشطار هذا الإئتلاف وتحويله إلى صدامات دائمة...

 

  إتفاقية السلام والانفصال
 في العام 2005، وعلى أثر إبرام إتفاقية السلام الشامل بين حكومة عمر البشير رئيس دولة السودان، ورئيس الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان د.جون قرنق في نيفاشا (كينيا)، والتي وضعت حدًا للحرب الأهلية، أصبح إقليم جنوب السودان يتمتع بـحكم ذاتي، على أن يعقبه استفتاء عام في مطلع العام 2011 حول بقاء السودان موحدًا أو استقلال الجنوب عنه.
وفي 9 كانون الثاني 2011 صوّت جنوب السودان بغالبية 83،98  في المائة لمصلحة الاستقلال والانفصال عن الشمال. وهكذا أصبح جنوب السودان «دولة جنوب السودان» في شهر تموز من العام ذاته، وهي الدولة الرقم 193 في الامم المتحدة، والرقم 45 في افريقيا.

 

الدولة الجديدة
تقع الدولة الجديدة في أقصى جنوب السودان الحالي، وتضم عشر ولايات، عاصمتها جوبا ويحدها من الشرق إثيوبيا، وكينيا من الجنوب الشرقي، وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية من الجنوب، ومن الغرب جمهورية أفريقيا الوسطى، أمّا من الشمال فتحدها باقي ولايات جمهورية السودان القديم بطول يتجاوز الـ 2000 كلم بقليل.
تقدر مساحة الدولة الجديدة بأكثر من 600 الف كيلومتر مربع (باستثناء مناطق جبال النوبة وآبيي والنيل الازرق المتنازع عليها)، وهذا ما يمثل حوالى ربع المساحة الاجمالية للسودان قبل استقلال الجنوب (2,5 مليون كلم2)، وهي توازي مساحة سوريا والعراق معًا.
يتكون سكان جنوب السودان من أتباع الديانات الأفريقية التقليدية ومن الوثنيين والمسيحيين بالإضافة إلى المسلمين. ويشكل المسيحيون نحو 15 الى 20% معظمهم من الكاثوليك والأنغليكانيين، وتقدر نسبة المسلمين بحوالى 15% الى20% من السكان ايضًا، أما الباقون فهم من الوثنيين.
يضم جنوب السودان عددًا من القبائل الأفريقية النيلية  أكبرها الدينكا، والنوير، والشلك.
ويقدَّر عدد سكانه بأكثر من عشرة ملايين نسمة (8،10ملايين ، إحصاء 2012 ).

 

اللغة الرسمية
أعلنت الدولة الجديدة أن اللغة الانكليزية هي لغتها الرسمية، ولكن توجد في جنوب السودان مجموعات قبلية تنطق بالعديد من اللغات (400 لهجة). أما اللغة العربية هناك فتعرف باسم «عربية جوبا»، التي تستخـدم على نطـاق واسـع، وتعتبر  وسيلة التواصل والتفاهم بين القبائل، على الرغم من مناداة بعض المسؤولين الجنوبيين المتشددين بإلغائها من التداول في الدولة الجديدة. كمـا توجـد ثلاث لغات أفريقية يتم استخدامها بشكـل كبير وهـي: «طوك جينق»، و«طوك ناس» و«طوك شلو».

 

الموارد
تعتمد دولة جنوب السودان على النفط بنسبة 98% من مدخولها الوطني. وبعد عقود من حرب ضروس مع الشمال يعاني الجنوب تخلفًا اقتصاديًا هائلًا على الرغم من الاحتياطي السوداني الراهن من النفط والبالغ 6،7 مليار برميل، ومن 600 الف برميل كانت تضخ يوميًا قبل إعلان استقلال دولة الجنوب (أكثرمن ثلاثة ارباع الكمية من الجنوب والمناطق الحدودية). كذلك يتمتع الجنوب بثروات معدنية متعددة من بينها اليورانيوم، والذهب، وخام الحديد، والنحاس والفضة.  ولكن الدولة الجديدة ما زالت تعتمد اعتمادًا اساسيًا على الزراعة، إذ يتوافر لها بشكل كبير الماء والثروة الحيوانية الضخمة من ابقار وماشية، فضلًا عن الامكانات الكبيرة في زراعة القطن والصمغ العربي والاخشاب ذات الجودة العالية. وتحتاج هذه الدولة إلى مزيد من الوقت والادارة الرشيدة للانطلاق في تنمية اقتصادها الوطني، فهي حتى الآن تعتبر من اكثر بلاد العالم تخلفًا ومن أدناها في مستويات الدخل الفردي.
تعتبر الثروات التي تختزنها  دولة الجنوب دافعًا للنزاع الداخلي، كما أن موقع الدولة يعتبر محفّزًا لشراهة القوى الاقتصادية العالمية في سعيها إلى تقاسم الموارد، وتأمين مناطق عبورها الإستراتيجية بمختلف السبل، وبالتالي فهي تسعى إلى السيطرة على الكيان المنفصل الجديد،  الذي  يؤمن مصالحها خصوصًا أنّ الجنوب يحتوي الكمية الأكبر من احتياط  النفط  السوداني.

الصراع في الجنوب
تشهد دولة جنوب السودان حاليًا صراعات عنيفة، أدت إلى مقتل وجرح آلاف الأشخاص، وشردت عشرات الآلاف.  أمّا طرفا النزاع فهما: القوات الحكومية التي يقودها الرئيس سيلفا كير والقوات المسلحة المؤيدة لنائب رئيس جنوب السودان المعزول  رياك مشار. ويعود سبب اندلاع الصراعات إلى شدة الخلافات داخل القيادة، بالإضافة إلى عوامل أخرى.
فقد كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تبدو  في الظاهر بأنها حزب واحد، إلا أنه كان ينقصها برامج سياسية واضحة، فداخل الحزب الكثير  من الفصائل التي تمثل مصالح القبائل المختلفة. وخلال الحرب الأهلية التي شهدتها السودان في السابق، تضامنت هذه الفصائل والتقت حول معارضة السلطة في الشمال ومحاربتها والمطالبة  بالاستقلال. بعد الاستقلال بدأت تظهر التناقضات والصراعات بين مختلف  هذه الفصائل، و أصبح الرئيس كير ونائبه مشار - شركاء حرب التحرير - طرفين رئيسين يصارع بعضهما البعض الآخر.

 

الجذور العميقة للنزاع
عندما حصلت دولة جنوب السودان على الاستقلال في العام 2011، طوت بين جناحي حدودها آثار نزاعات الحرب الأهلية لبلورة هويتها المستقلة  في المجتمع الدولي، إلا أنّه في داخل هذه الدولة الحديثة، كان يدور صراع صامت بين  الهويات القبلية  التي يسعى كل منها للسيطرة .
فقد واجهت الدولة الجديدة  مجموعة من التحديات الجدية أبرزها:
1-تحويل الميليشيات المقاتلة إلى جيش  وطني نظامي وانضباطي.
2-تحويل المجتمع القبلي إلى مجتمع مواطنين في دولة مستقلة.
3-توفير الخدمات العامة للمواطنين وبخاصة الأمن.
4- تعزيزالوحدة والرؤية  السياسية مابين الفصائل التي حاربت معًا للحصول على الاستقلال.

 

 صراع الأقوياء
 تولى سيلفاكير ميارديث رئاسة الدولة الجديدة منذ استقلالها وعين  رياك مشار نائبًا له.
جاء سيلفاكير من أكبر القبائل في جنوب السودان ( الدينكا)، أما مشار فجاء من ثاني أكبر القبائل ( النوير). وتحتل قبيلة الدينكا مكانة قوية اقتصاديًا واجتماعيًا، الأمر الذي أثار استياء وانتقادات كثيرة من قبيلة النوير. مع نهاية العام 2012 سرت شائعات عن محاولة انقلاب ضد الرئيس كير ما  دفعه  مع مطلع العام 2013 إلى إقالة عدد كبير من جنرالات الجيش والشرطة.
وتمّ تخفيض الدوائر الحكومية من تسع وعشرين إلى ثماني عشرة. بعد هذه «الهزة الكبيرة»، تصاعدت حدة الخلاف بين الفصيلين الرئيسين داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهذا ما  دفع مشار الى الاعلان أن الرئيس يسعى إلى إقامة حكم دكتاتوري، وتصفية خصومه، متهمًا إيّاه  بالفساد والاستيلاء على مناصب ووظائف البلاد المهمة لمصلحة قبيلته والموالين له، الأمر الذي فهمه الأخير على أنه محاولة للنيل من سلطته، ما  جعل الصراع بين الطرفين يزداد حدة ، خصوصًا بعد أن أعلنت حكومة جنوب السودان في السادس عشر من كانون الاول أنها أحبطت محاولة انقلابية  في العاصمة جوبا خطط  لها  مشار. أدّى كل ذلك إلى نشوب نزاع مسلح ينطوي على أسباب قبلية وسياسية يتصدرها التنافس على السلطة، وقد استولى الموالون لمشار على ولاية  الوحدة الغنية بالنفط ومناطق أخرى، وامتدت المواجهات إلى مناطق مختلفة من جمهورية جنوب السودان، حيث كان المدنيون ضحيتها الأولى .
يرى بعض المحللين أن الأسباب العميقة التي تقف وراء الإضطرابات في جنوب السودان ترجع إلى عوامل ثلاثة رئيسة:  

 الأول: ضعف الخبرة الإدارية في الحكم لدى المسؤولين في الدولة الجديدة.

الثاني: تغليب الإنتماء القبلي  عند الشعب الجنوبي، وتفوقه على الإنتماء الوطني. و هذا ما أدى  إلى الصراع على السلطة والثروة بين القبائل المختلفة.

الثالث: محدودية سيطرة الحكومة المركزية على الجيش الذي ما برح ولاؤه القبلي أقوى من الولاء للوطن.

الرابع: الثروة والموارد الكبيرة ورغبة بعض القوى في الداخل والخارج في السيطرة عليها واستغلالها لصالحها .                 

 

خريطة النزاع
بدا من خريطة الاشتباكات المسلحة بين الطرفين أن التركيز يتم على مدينة جوبا العاصمة بما تعنيه من رمزية سياسية وسلطوية  للدولة، والولايات الغنية بالنفط، أو تلك التي يشكل المتمرّدون غالبية سكانها، وكذلك على المحاور الاستراتيجية للتقدم باتجاه العاصمة جوبا.
وتتهم الحكومة رياك مشار بأنه يجند شباب قبائل النوير وقوات «الجيش الابيض»  بأعداد وصلت إلى 25 الفًا، وبأنه يستخدمهم في مهاجمة المراكز الحكومية في عاصمة ولاية جونغلي شرقي البلاد وكذلك في مهاجمة عاصمة ولاية الوحدة شمال البلاد ، وأعالي النيل،  وبارتكاب المجازر على أساس قبلي. وهذا ما ينفيه مشار الذي يقول إن بين صفوف قواته جماعات من القبائل المختلفة، وإن عددًا كبيرًا من القوات الحكومية ينضم إلى المتمردين.
ويرى  بعض المراقبين أن مجرد ذكر «الجيش الابيض» الذي يطلق على هذه المجموعات المسلحة يعيد إلى الأذهان سنوات الرعب والمجازر التي وقعت في جنوب السودان، فقد قاتلت هذه المجموعات في تسعينيات القرن الماضي خلال الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إلى جانب مشار قبل الاستقلال.
وفي نهاية العام 2011 ومطلع العام 2012 واجهت هذه المجموعات في جونقلي قبيلة أخرى هي قبيلة المورلي  ما أدى إلى معارك دامية بسبب خلافات حول سرقة الماشية.

 

 تدخل الإيغاد (IGAD)
ناشد قادة دول  الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) التي تضم بلدان القرن الأفريقي وشرق أفريقيا  كلا من  كير ومشار  التحاور  ووقف القتال.
وأوفدت الولايات المتحدةالأميركية  التي كانت راعية استقلال البلاد في 2011 وأكبر داعميها سياسيًا واقتصاديًا، موفدًا إلى جنوب السودان، وفعلت مثلها  الصين، التي تملك مصالح في القطاع النفطي في جنوب السودان، وذلك بهدف المساعدة على التفاوض.
 اجتمع ممثلو الطرفين في أديس أبابا  في الاسبوع الاول من العام  2014، على وقع الاشتباكات المستمرة، والهجومات المتبادلة، في محاولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار والإفراج عن المعتقلين.
 لم تصل الجولة الاولى من المفاوضات الى نتيجة حاسمة، واستمرت المعارك في محاولة لفرض وقائع جديدة  على الارض  من قبل الطرفين.

 

خلاصة
تحاول السودان الوقوف على مسافة واحدة من طرفي النزاع في دولة الجنوب وتدعوهما للتفاوض السلمي، وتدعم مفاوضات اديس ابابا،  وإن كان البعض يتهمها بدعم الرئيس سيلفا كير ضد خصمه مشار الذي يعارض تطبيع العلاقات الجنوبية مع دولة الشمال. كذلك يبدو أن اوغندا، الجارة الجنوبية، تتدخل لمصلحة الرئيس سيلفاكير بالعتاد والرجال. ولكن دولة  السودان هي المعنية الاولى بما يجري على حدودها الجنوبية المباشرة ،وبخاصة في ولايات أعالي النيل والوحدة  وجونغلي الغنية بالنفط لما لذلك من علاقة بأمنها الاقتصادي وموارد الطاقة،  ولما لتداعيات أي حروب قبلية  في الجنوب من تاثير على تركيبة مجتمعها القبلي.  ومن المرجح إن لم يستطع الحكماء في السودانين وكتلة الإيغاد، أو الأمم المتحدة، وبعض الدول الكبرى المؤثرة في المنطقة  التوصل إلى حلول (أو فرضها)،  ترضي الأطراف المتنازعة ، أن تزداد حدة النزاعات في الإقليم، وتتوسع دائرة التدخلات الخارجية، مما سينتج المزيد من سفك الدماء، والمزيد من تشرذم الجغرافيا السودانية على خطوط الصدع القبلية والديموغرافية، أو على خطوط  ترسيم خرائط النفط، والماء، والمصالح الدولية والاستراتيجية الممتدة من الصين، عبر الخليج والقرن الافريقي، وحتى الولايات المتحدة الأميركية.


المراجع :
www.lebarmy.gov.lb/ar/news/?29432‎- مجلة الجيش – العدد 316.
ar.wikipedia.org/wiki/جنوب_  السودان.
www.bbc.co.uk/arabic/topics/south_sudan  
en.wikipedia.org/wiki/Intergovernmental_Authority_on_Developmen


الايغاد
 تتشكل من مجموعة دول افريقيا الشرقية: السودانين واوغندا، كينيا، اثيوبيا، الصومال،  دجيبوتي، واريتريا .تأسست في  العام 1986 للعمل على مكافحة التصحر والتنمية وحل الخلافات ما بين هذه الدول.

من هو؟
يعرف «الجيش الأبيض» بهذا الاسم نسبة إلى الرماد الناتج عن حرق روث الابقار، الذي يغطوي عناصره به أجسادهم لحمايتها من الحشرات، وهو يتسلح بالبنادق والمناجل والعصي. و«الجيش الأبيض»، ميليشيا مرهوبة الجانب تتألف بشكل كبير من شبان من قبيلة النوير.