رحلة في الإنسان

عندما نفقد السيطرة على الإرادة!
إعداد: غريس فرح

على من تقع الملامة؟

الجدال حول حرية الإرادة لا يزال حتى الآن غير محسوم. مع ذلك، فإن الأحكام الفطرية بالإضافة إلى الأبحاث النفسية والعلمية بدأت تلقي الضوء على معطيات تؤكد أننا أقل حرية مما نظن. فعلاقتنا بالجينات الوراثية، وطرق تربيتنا ومحيطنا الاجتماعي، تؤثر على تصرفاتنا بأشكال تتعدى الوعي، وبالتالي الانضباط الإرادي، لكن ثمة ما هو أكثر من ذلك...


جرثومة تغزو الدماغ
إذا ما أخذنا بالاعتبار الاكتشافات العلمية الحديثة التي أكدت وجود كائنات مجهرية حيّة تغزو أدمغتنا وتسيطر على وظائفها، يصبح الأمر أقرب إلى أفلام الرعب منه إلى الواقع.
والجرثومة المعنية بالدراسة في الوقت الحاضر، هي Toxoplasma Gondii باعتبارها الأكثر انتشارًا. فهي تغزو الدماغ، وتتسلل إلى الجهاز العصبي لتجعل حاملها يقوم بأعمال لا إرادية تؤثر على حياته. ونحن نعلم أن الأمراض الناجمة عن غزو الجراثيم للجسم قد تضعفنا، وربما تجعلنا عاجزين عن القيام بأعمالنا اليومية، وفي أسوأ الظروف قد تودي بحياتنا، لكن هذه الجرثومة تتولى كما يبدو مهمة أكثر اختصاصًا ودقة. وهي في هذا المجال تعمل كالفيروسات التي تغزو أجهزة الكومبيوتر لتزرع الفوضى في برامجها.

 

 

أين تنمو هذه الجرثومة؟
إنها تنمو وتتكاثر في أمعاء القطط، وتنتقل عبر برازها إلى الحيوانات والقوارض والبشر. وبحسب الدراسات، فهي تتسلل إلى العضلات ومنها إلى الدماغ لتتفادى هجوم الأجسام المضادة التي يفرزها جهاز المناعة. وعندما تختبئ تبقى راقدة بشكل أكياس محاطة بجدران صلبة. وفي هذه المرحلة بالذات، تقوم بتغيير طريقة عمل الدماغ، لتجعله يصدر أوامر معاكسة لمصلحة بقاء حاملها.

 

كيف اكتشفت هذه المعطيات؟
في البداية تم اكتشاف مرحلة رقاد الجرثومة في أدمغة فئران وجرذان كانت قد أخضعت للفحوصات بسبب تصرّفاتها، ومن بعدها انتقلت الدراسات لتطال الدماغ البشري. المعروف أن الفئران والجرذان تختزن خوفًا غرائزيًا من القطط التي تطاردها، وهي تتجنب الأمكنة التي يوجد فيها بول القطط وبرازها، لكن ثبت أن الفئران والجرذان التي تنتقل إليها عدوى هذه الجرثومة، لا تفقد خوفها من القطط فحسب، بل تتقرّب منها وتبدو منجذبة نحو الروائح الصادرة عنها، الأمر الذي يعرض حياتها للخطر، فالقطط تستفيد من هذه الظاهرة وتهاجم الفئران المريضة، فتنتقل الجرثومة الراقدة إلى مرحلة التكاثر بحيث تكتمل دورة حياتها وتنتقل إلى مخلوقات أخرى. وجدير بالإشارة أن القوارض التي تحمل جرثومة TGondii، لا تبدو مريضة، وذلك على عكس الحيوانات التي تصاب بداء الكَلَب وتصبح هائجة، إذ إن هذه القوارض لا تهاجم من تصادفه وتنقل إليه الجرثومة عن طريق العّض.

 

ماذا عن البشر؟
كما ورد في دراسة نشرتها مجلة العلوم الأميركية، فإن عشر سكان الولايات المتحدة الأميركية يحملون جرثومة TGondii التي تقطن أدمغتهم في منطقة اللوزة (Amygdala) أي المنطقة التي تحرّك المشاعر وفي مقدمها الخوف. وفي بعض الدول الأوروبية، في فرنسا بشكل خاص، ترتفع الإصابات بنسبة أكبر بسبب إقدام السكان على أكل اللحوم النيّئة، وتربية الحيوانات الداجنة التي قد تحمل هذه الجرثومة. وبحسب الدراسة فإن مرحلة رقاد الجرثومة في الدماغ البشري قد لا تسبّب دائمًا عوارض ظاهرة للعيان، علمًا أنها تولّد لدى الكثيرين عوارض ذهانية شبيهة بتلك المرافقة لمرض إنفصام الشخصية، عدا عن كونها تتلاعب بالمشاعر وعلى رأسها الخوف والحذر. واللافت في الموضوع أن الأبحاث العلمية كانت قد أكدت أن مرضى انفصام الشخصية يحملون أجسامًا مضادة لجرثومة TGondii، بمعنى أنها لا تتمكن من اختراق أدمغتهم، كما أن الأدوية التي يتناولونها تعتبر فعالة في القضاء عليها.

 

سيطرة الجرثومة على الإرادة
تدل المعلومات العلمية في الوقت الحاضر إلى وجود علاقة بين العدوى بالـ TGondii وبين العوارض التي ترافق الأمراض العقلية. إلى ذلك، هناك دلائل ثابتة تؤكد علاقة الجرثومة بالتهوّر الذي يميز البعض، ويتجلى بتصرفات خارجة عن الإرادة. في هذا السياق، عُرف أن نسبة كبيرة من حوادث السير يتسبب بها أشخاص تملكت الجرثومة إرادتهم، وجعلتهم يتصرّفون بطرق غير عقلانية.
العام 2009 أكّد بعض علماء الأعصاب أن الشعور بحرية الإرادة يكون أحيانًا شعورًا وهميًا، والدلائل على ذلك كثيرة أهمها، نبأ نشرته الصحف في حينه عن شخص كان قد قرر بملء إرادته تسلّق جدران ناطحة سحاب أميركية. لكن الفحوصات المخبرية التي أخضع لها لاحقًا، بيّنت وجود جرثومة TGondii البالغة الصغر، ذات الخليّة الواحدة في دماغه. هذه الجرثومة كانت سبب انسياقه وراء الفكرة المدمرة التي راودته، وفي الوقت ذاته وراء مفاخرته بإرادته الحرّة.
إنها عيّنة مما يدور حولنا من غرائب الحياة والتي لسنا سوى حلقة دائرة في أفقها.