العوافي يا وطن

في الأرض التي انتظرت عُمْرًا...

كم كان بهيًّا وجودهم في الأرض التي انتظرتهم عُمْرًا... كم كان بهيًّا وقوفهم على المداخل، وفي الطرقات، على السطوح، وفي الشرفات، والقلوب.
29 تشرين الأول في العيشيّة، كان يوم إعلان الفرح في بلدةٍ انتظرت فرحًا تجسّده بزّة بلون الأرض وشجرها، ورجال بِلَوْن الوطن يحملون وعدَ الأمان ودفن أوجاع الماضي.
بين يوم الجرح في العام 1976 ويوم الفرح في العام 2017، 41 عامًا. عُمْر. مَن كانوا أطفالًا كبِروا، من كانوا شبابًا صاروا في المقلب الأخير من الأيام، ومن كانوا كبارًا حزموا ذكرياتهم وتعبهم، ورحلوا.
في المدينة وفي مدن الأرض، ولد أطفال كثيرون، كبروا مع حكاياتٍ عن أرض انسلخ عنها أهلهم، وظلّت «في البال أغنية»، وفي العيون صبحٌ يصلّي على أقدام صنوبر في ترابه ترابُ أحبّاء.
حكايات ناسٍ كان التعب والرضى خبز أيامهم ولياليهم. بالفرح يأكلون اللقمة المرّة وهم «يشكّون» أوراق تبغ يسابقون الليل لقطافها، وبالفرح إيّاه يجاهدون طوال موسمٍ أيّامه لا تنتهي.
حلّ الجنون وتكسّرت كلّ الحكايات. أكل الشوك حقول الزرع وحَبَق الشرفات. انطفأت القناديل، وما عادت للبيوت رائحة خبز الصاج وقهوة تنْدَه إلى جلسة هنيّة.
أذكر من طفولتي هناك كلّ بيت وحاكورة، كلّ صوتٍ ورائحة. لكنّ بالأمس، ونحن هناك في استقبال قائد الجيش، كان في ذاكرتي صوتٌ واحد وبضع كلمات: «ما تخافوا بابا، بكرا بيجي الجيش». في موسم الخوف والجنون الذي أخذ الوطن، لم يأتِ الجيش. أتت «جيوش الحرب الكريهة». وذهبنا، عشرات ارتَدوا تراب أرضهم وذهبوا إلى ربّهم، وآلاف حملوا قدَرَهم ومَضوا... كلٌ اختار وجهته أو رَضِيَ بما وفّره له القدر. المؤسسة العسكرية التي كان الانتماء إليها حُلُم الكثيرين، احتضنت العشرات من أبناء بلدتنا. ضباط، رتباء وأفراد خدموا في صفوفها جنودًا مخلصين لوطنهم. وها هو ابن العيشيّة يزور بلدته قائدًا للجيش، حاملًا أمانة الوطن، حاملًا مفاتيح الفرح والأمل.
من ميدان الانتصار ومن شجاعة الموقف، أتى إلى البلدة الوادِعة. سلّم على الكبار، تعرّف إلى الصغار، أشرقت ابتسامته في كل قلب، وانطلقت «الآويها» من حناجر أمّهات لم يخلعن الأسود بعد. بعيدًا من أيّ تكلّف، شارك أهل بلدته الصلاة والخبز والملح، وأمضى بينهم ساعات، قبْل أن يعود إلى اليرزة.
ساعاتٌ سيبقى صداها فرحًا وفخرًا وأمَلًا، في بلدة اشتاقت للحياة، وها هي تُزغرِد بفرحٍ وتقول:
«العوافي يا وطن».