تأملات

في بقاعصفرين
إعداد: العميد الركن حسن جوني

قتلهُ في بقاعصفرين! هكذا بكل بساطة، أطلق الشرّ، كل الشر، النار على الحقّ، كل الحقّ. فكان الإجرامُ والغدرُ عنوانًا لما حدث في بقاعصفرين.
جندي في الجيش اللبناني، في ربيع عمره، ترك قريته الحدودية الوادعة «مشتى حسن»، ترك أهله وعائلته ورفاقه والتحق في مؤسسة الشرف والتضحية والوفاء، التحق بعائلة الوطن مع رفاقه الذين التحقوا مثله، من قرى وبلدات ومدن لبنانية أخرى، والتقوا في بقاعصفرين، تلك القرية اللبنانية الهادئة المستلقية في أحضان جبال الأربعين، المتشبثة بأعالي الضنية الخضراء، وكأنها تحرس القضاء كله من أعلاه.
كان عامر المحمد (الجندي الشهيد) يحرسُ بقاعصفرين من خطر الارهاب، الذي كان يتوقعه من خارج الحدود! ... نعم، فقد كان يقظًا ومتأهبًا مع رفاقه، يقارع صقيع الأعالي حيث درجة الحرارة تحت الصفر، يصارع النعاس الذي يشن عليه هجمات متكررة بين الفينة والفينة، ولكنها هجمات فاشلة لأن يقظته وإرادته كانتا أقوى وأشدّ. في هذه الأثناء كان الأهالي يغرقون في نوم هانئ، وكانوا مطمئنين إلى أمنهم وأمانهم، كيف لا وعيون الجيش ساهرة في المكان.... وفي كل مكان؟
دخل الليل بكليَّتهِ واشتدَّ الظلام، طبيعة قاسية بجغرافيتها ومناخها، جبال الأربعين منتصبة وممتدة تشكل حاجزًا طبيعيًا حاميًا، كل شيء كان اسودَ إلّا بياض عينيّ الجندي عامر، كانا يلمعان في تلك العتمة الحالكة، ينظران إلى الأخاديد المجهولة التي رسمتها الطبيعة بين هضبةٍ وقنَّة، يراقبانِها بتناغمٍ وثيق مع حاسة السمع التي تعوِّضُ احيانًا عن النظر عندما يعجز الأخير بسبب انعدام الرؤية.
الجهد الأساسي في المراقبة هو باتجاه تلك الأخاديد التي تسمح بالتسللّ من مناطق بعيدة، أمّا منازل الأهل في القرية، فهي الجهة الآمنة والمحروسة !
الظلام لم يكن في تلك اللحظة سيد المكان فقط، فقد تسلل قبل ذلك إلى عقول بعض الشبان المراهقين من أهالي القرية، هذا الظلام الآتي من بعيد، من خارج حدود الوطن بل من خارج حدود الله، عبثَ بهؤلاء!
أدخل السُّمَّ في تلابيبِ عقولهم، حرَفَهُم عن قيمِ اجدادهم وآبائهم، وتاليًا عن قيم منطقتهم ودينهم الحنيف، أدخل إليهم أفكارًا سامّة بهدف برمجتهم كالآلات وتطويعهم لمصلحته واستثمارهم لتحقيق أهدافه المجرمة الشريرة، ومن ثم رميهم كالكلاب بين اثنتين، إما أحضان الموت الذي سوف لن يرحمهم لأنهم قتلة واضحون، وإما بين أسوار السجن المؤبد مدى الحياة مرفقةً بلعنة أبدية من أهلهم واقربائهم أولًا، ومن جميع أبناء الوطن والانسانية ثانيًا.
واحدٌ من هؤلاء المسمومين، اندفع بقوة الحقد المستولد في قلبه من قبل الشياطين الذين اقنعوه بأن طريق الجنة تمرّ عبر قتل جنود الجيش اللبناني! ومن دون التوقف عند ماهية هذا الجندي أو ذاك، هو ربما يكون قريبه أو صديقه، لأن في قريته وعائلته جنودًا شرفاء أيضًا.
لقد أعمت قلبه وعقله هذه الأفكار السامَّة وحولته إلى قاتلٍ غدار، يبحث عن أشرف وأنبل هدف ليغدره وينال منه. وهكذا حصل، فقد تسللّ هذا المجرم من المكان الذي يعتبره الجندي آمنًا، وطعنه في ظهره بعدة طلقات غدرٍ أطلقتها أيديولوجيا مجرمة، كافرة، شيطانية، متخلفة، ولم يكن هو سوى أداة حقيرة لها.
سقط الشهيد مصدومًا ثم مقتولًا، وكأنه قال في قلبه قبل أن يفارق الحياة» لماذا تقتلني يا بني وطني؟ وأنا أحرسك وأحرس أمك وأختك وابنك وأبيك، أنا لست عدوّك ولن أكون، كنت أتوقع منك أن تقف إلى جانبي، تشاركني شرف حماية وطننا من شرّ الأشرار الغرباء، لا أن تغدر بي وتطلق طلقاتٍ لو كانت تفهم مكانةَ كل منّا وموقعَه لارتدَّت عليك، وما أطاعتكَ في إجرامك هذا، فأنا... الوطن، أنا الحق، أنا الشرف والتضحية والوفاء، اللهُ معي حتمًا وليس معك أنت، لأنك الظلام والشرّ، لأنك العميل المرتزق، ولأنك القاتل الغدّار، أنا سأذهب إلى جنّة قبري، ستستقبلني الملائكة وستزُفَّني، لأنني كنت أدافع عن أهلي وتراب أجدادي، أمّا أنت ... فسَتذهب إلى جهنم وبئس المصير. أنا سأكون سيرةً عطرة على كل لسان وسيتشرف بي أهلي. أنت سيخجل أهلك منك، وستكون ملعونًا إلى الأبد وسيكشف التاريخ ذلك .... حتمًا.