مؤشرات ودلالات

قراءة في الإجماع حول الجيش ودلالاته
إعداد: ريما سليم ضومط

حالة لا تحصل إلا في المنعطفات التاريخية تعكس التوق إلى الدولة وترتبط بالكيان الوطني

 

يؤشر اجماع اللبنانين على الوقوف خلف جيشهم في معركته ضد الارهابيين في مخيم نهر البارد إلى عدة أمور جوهرية.  
فهذا الاجماع يدل من جهة إلى عمق ما يختزنه الوجدان الجماعي للبنانيين من مشاعر التقدير لجيشهم باعتباره حامي الكيان ورمز الوحدة والاستقلال والكرامة، كما يدل من جهة اخرى على ما يختزنه هذا الوجدان من خوف العودة إلى تجارب الماضي الاليمة.
في ما يلي محاولة لتفسير ظاهرة الالتفاف الشعبي حول المؤسسة العسكرية وصولاً إلى «حالة الالتحام بالجيش»، من خلال قراءات لأكاديميين.

 

معتوق: حالة لا تحصل إلا في المنعطفات التاريخية
الدكتور فريديريك معتوق، عميد كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، يرى أن الالتفاف حول الجيش موضوعي ويعبّر عن شعورين عند المواطن اللبناني.
فالجيش اللبناني بالنسبة اليه هو الحامي من ذيول الماضي وضامن المستقبل، بمعنى أنه السّد المنيع أمام العودة إلى الحرب الاهلية والمؤسس الحقيقي للبنان الوطن، لذلك يعبّر اللبنانيون، ولو بشكل غير مدرك، عن هذين الشعورين الموضوعيين والحقيقيين بعفوية تامة.
إن حالة الالتحام بالجيش على النحو الذي نراه في لبنان حالياً لا تحصل بهذه القوة وبهذا الشحن الشعبي والعفوي إلا في المنعطفات التاريخية، فاحترام الجيش شيء والالتحام به معنوياً وبشكل شبه مطلق شيء آخر.
ونحن في لبنان حالياً في الصيغة الثانية لا في مجرد علاقة إحترام شكلية مع مؤسسة الجيش، فهناك تضامن عضوي عميق مع هذه المؤسسة التي تحمينا من ذيول الماضي وتفتح لنا باباً حقيقياً على المستقبل والسيادة والاستقلال.
بهـذا المعـنى لا تشبـه الحالـة اليوم الحـالات العادية، بل إنهـا حالـة استثنائيـة نظراً إلى ارتباطهـا بولادة كيـان جديـد، وهذا مـا تعبـّر عنه جميع تجليات هذه الظاهرة في اليافطات التي ترفـع في الأحياء، وفي الشعـارات العفويـة التي تكتب على الجدران، وفي الألبسة العسكرية التي يرتديها أطفال لبنان دعماً للجيش.

 

كتورة: تضامن يعكس التوق إلى وجود الدولة الضامنة
الدكتور جورج كتورة، عميد كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، قال:
نحن نشكو من غياب الدولة بالمفهوم الحديث للكلمة، أي وجود سلطة ضامنة تؤمن مصالح المواطنين، شرط أن يكون هناك إيمان لدى الجميع أن المواطن إبن الوطن وليس إبن رعية ما.
بعد الأحداث المتتالية التي حصلت في لبنان، هناك توق عند اللبنانيين لوجود دولة ولمناصرتها لكي يشعر المواطن أنه مواطن فيها. هذا الأمر لم يتحقق حتى الآن بالشكل الفعلي للكلمة. من هنا، فإن الأحداث الأخيرة من نهر البارد وما سبقها من تباعد بين المواطنين، وموقف الجيش الذي كان حيادياً وعادلاً، أظهر بوضوح أن الجيش يمكن أن يكون أداة صالحة بيد الدولة، وأصلاً مفهوم دور الجيش هو أن يكون أداة بيد الدولة لتأمين مبدأ الدولة الراعية أو الضامنة. ولأن اللبنانيين تواقون لوجود دولة والتخلّص من الدويلات، فقد رأيناهم يتضامنون مع الجيش بالإجماع، بغض النظر عن إنتماءاتهم السياسية والحزبية.
على صعيد آخر، يتعرّض الجيش حالياً لما يمكن أن نسمّيه محنة قاسية فرضت عليه، والجيش ليس فئة محدودة ولا طائفة واحدة ولا جماعة واحدة، بل هو كيان يقوم من مختلف هذه الفئات والطوائف والجماعات. ولأنه يتعرض لمحنة قاسية، لا بد لهذه الطوائف والفئات أن تتضامن معه، من هنا تحوّلت هذه إلى ما نسمّيه «الشعب اللبناني» الذي وقف بكليته إلى جانب الجيش.  لذلك ولسبب مبدئي، المواطنون هم مع الجيش لأنهم يريدون الدولة، ولسبب عاطفي هم مع الجيش لأنه يتعرض لمحنة، وفي الحالتين يستقطب الجيش المواطنين.

 

بدوي: معان ترتبط مباشرة بكيان الوطن
الدكتورة فاطمة بدوي، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، قالت:
إذا كان إلتفاف أي شعب حول جيشه أمراً طبيعياً لما يرمز اليه دور الجيش من معاني الكرامة والأمان، والتضحية، والفداء في سبيل حماية الشعوب، فإن لهذا الإلتفاف اليوم حول الجيش اللبناني معانٍ أبعد وأعمق لأنها ترتبط مباشرة بكيان الوطن. ليس من السهل رصد كل الأسباب التي تدفع إلى هذا الإلتفاف نظراً إلى صعوبة الأوضاع الداخلية وتعقيداتها وتشعّباتها في الداخل وامتداداتها إلى الخارج، لكن هناك عوامل يمكن قراءتها مرتبطة بالوضع الراهن للبلد وإن كانت لخلفياتها صلة بالتاريخ الحديث للبنان.
أولاً: يرتبط هذا الإلتفاف بمفهوم الدولة والسيادة، وتحركه قيم الكرامة والحرية والعزة والحماية في زمن تتعرض فيه الدولة والسيادة إلى التهديد.
والعامل الأول الذي يفسر إلتفاف الناس حول الجيش هو أنه يعكس وجود الدولة وكيانها وقدرتها على الحماية من الخطر الذي يهدد الوطن.
العامل الثاني يتعلق بالجيل الذي عاش الحرب الأهلية والجيل الذي ولد خلالها. فقد شهد الجيل الأول تراجع السلطة السياسية الشرعية، متمثلاً بإنشقاق المؤسسات الدستورية العليا ومؤسسة الجيش وقوى الأمن وسائر سواعد الدولة في فرض سلطانها وحماية رعاياها.
وشهد إحلال سلطات متعددة من أحزاب مسلحة وميليشيات وتنظيمات محل سلطاتها الشرعية وما رافق ذلك من فلتان أمني، وسيادة العنف اللاشرعي، وقوى الأمر الواقع المستقوية بالسلاح والغريب، ودمار وخراب وتشرد وإنسداد في أفق المستقبل. وهي تجربة مريرة خطفت أجمل سنوات حياته، الأمر الذي أدى إلى قناعة راسخة بأن النموذج السلطوي الفئوي لا يمكن أن يفضي إلى دولة سيدة مستقلة يحكمها العقل السياسي. ذلك لأن النموذج السلطوي المتعدد المذهبيات الدينية يقوم على إنشطار في مرجعياته الإجتماعية والأيديولوجية، فينمو في كل طائفة خطاب أيديولوجي مخالف لخطابات الطوائف الأخرى.
وفي ظل عودة الخطاب الفئوي المذهبي، إستعيدت صور التاريخ الحديث التي ما زالت ماثلة في الذاكرة الإجتماعية، فتشبث الناس بجيش عقلاني محترف ومنظم يعلو فوق العصبيات وقادر على الدفاع عن وجودها وكيانها وكرامتها، معبّرين بذلك عن رفض قاطع للجيوش الطائفية المرتهنة لجماعاتها المتوجهة عقلياً وعاطفياً نحو الذات الطائفية المنغلقة، ذلك لأن الجيش اللبناني هو المؤسسة الوحيدة الآن التي لم تلوثها الطائفية بالتفرقة والتجزئة والتعصب الأعمى الذي يكاد يفتك بالبلد.
أما بالنسبة إلى جيل الحرب، فهو ينشد الأمن والإستقرار في بلده كي يستطيع بناء مستقبل له ولأولاده يكون أفضل مما عايشه من معاناة الحرب وذيولها. وأما الشباب فإنهم يعقدون الآمال على الجيش للسير بالبلد الى الاستقرار الأمني المنشود والإطمئنان النفسي المأمول علّ ذلك يجنبهم ألم الاقتلاع من جذورهم ومعاناة تأسيس حياة جديدة في بلاد الاغتراب.
أما بالنسبة إلى مواطني محافظة الشمال، فالأمر يمسهم مباشرة بل يتعلق بوجودهم وكيانهم بعد الطروحات المرعبة التي سمعوها في إبان بداية حرب مخيم نهر البارد، من إنفصال ونسف للنظام الديموقراطي الذي تعودوا عليه وسلخهم عن الوطن الأم الخ...
أخيراً، يتنازع دول العالم على هذا البلد الصغير ويعتبرونه جسر عبور لتحقيق أهدافهم. إنها مرحلة دقيقة من تاريخنا. إما دولة مركزية قوية يشارك فيها كل أبنائها، دولة ذات كيان قوي مسيّج بالرجال الأشداء الذين يبذلون الدماء والأرواح فداء له، او إحتراب بين الأهل والأخوة وشرذمة المجتمع وتفتيت الأرض وهدر الكرامة بالتبعية إلى الخارج، أياً كان هذا الخارج.
فبين وضع التبعية والانصياع والتفتيت والاحتراب وضياع الوطن من جهة، ووضع السيادة والعنفوان والوحدة والأمن والحرية المسؤولة من جهة أخرى، يقف الجيش حصناً منيعاً وحدّاً فاصلاً ليسير بالبلد نحو الوضع الثاني.
إنه إستفتاء شعبي ضد الفوضى والفلتان الأمني وانتهاك السيادة.

 

نعمة: الجيش ملاذ اللبنانيين الوحيد أيام الشدة
البروفسـور ميشال نعمه، أستـاذ العلـوم السياسية في جامعة سيدة اللويزة، قال:
إن الشرائح المتنوعة الموجودة في لبنان على تعدّد ثقافاتها ومستوياتها الاجتماعية تختلف على عدة مواضيع ما يجعلها في دائرة خوف البعض من البعض الآخر ومن الضغوط الخارجية عليها.
عامل الخوف هذا ليس له أي دواء أو راحة نفسية إلا بوجود مؤسسة كبيرة وقوية وشرعية تستطيع أن توحي بالأمل والثقة والقدرة على الانجاز، ألا وهي الجيش اللبناني.
في ظل هذه الظروف ومهما اختلف اللبنانيون على تقاسم الحصص والشروع في خيارات سياسية إقليمية ودولية، يبقى لهم ملاذ واحد يرتدّون اليه في أيام الشدة والأوقات العصيبة هو الجيش اللبناني الذي ما انفكّ وحتى الساعة، إذا أمّن له الغطاء السياسي، يبذل كل ما لديه من تضحيات ويترفع عن العصبيات والحساسيات لتقديم الشهادة تلو الأخرى كي يستطيع اللبنانيون أن يشعروا بالأمان وأن لهم حماة يستطيعون الاتكال عليهم، ما يجعل البقاء في لبنان محمولاً ومعقولاً في ظل التهديدات الكثيرة الداخلية والخارجية.
الشعب اللبناني لا يمكن إلا أن يكون مع الجيش ولا خيار له إلا أن يكون متضامناً معه، فإذا ما تاه اللبناني في خضم التناحرات السياسية يبقى له أمل واحد وركيزة واحدة ألا وهي المؤسسة العسكرية.