قطاعات واعدة

قطاع تكنولوجيا المعلومات في لبنان: رافعة للاقتصاد وحلول للحد من نزيف الأدمغة
إعداد: د. تريز منصور

أثّر الانهيار المالي في لبنان على معظم القطاعات ما أدى إلى صرف عدد كبير من موظفيها الذين هاجروا بمعظمهم إلى الخارج. لكن وفي المقابل حافظ قطاع تكنولوجيا المعلومات على نمو ملحوظ، ما أتاح له دعم موظفيه وتوفير فرص عمل للمزيد من الشباب، والحد بالتالي من نزيف الأدمغة التي تُعد ركنًا أساسيًا في صناعة تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي.
يُشكل هذا القطاع الواعد في لبنان نموذجًا للقدرة على مجابهة تحديات الواقع والتكيّف مع الظروف وخلق الفرص، وهذا ما جعله ينمو ويتوسع في لبنان والخارج، ويؤمّن الوظائف والعملة الصعبة في هذا الزمن الصعب.

 

الأسرع نموًا
ينمو قطاع تكنولوجيا المعلومات في لبنان نموًّا مطردًا، وقد بلغ حجم سوقه في العام ٢٠١٦ نحو ٤٣٦ مليون دولار، وقُدّرت نسبة نموه بـ٩.٧٪ مع حلول العام ٢٠١٩، وفق دراسة أعدتها المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات (إيدال).
ويضم هذا القطاع اليوم مئات الشركات، معظمها ذو حجم صغير ومتوسط. وهي توظف مجموعة كبيرة من ذوي المهارات العالية، مع زيادة الطلب على مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سنويًا في لبنان والخارج.
تتنوع مجالات عمل هذا القطاع في لبنان، ويمكن تصنيفها من بين الأسرع نموًا في العالم وتضم: تطوير المحتوى، تطبيقات الهواتف الذكية، التطبيقات المتخصصة، ألعاب الخلوي والإنترنت، تطوير المواقع الإلكترونية، والخدمات الإلكترونية...

 

رافعة للاقتصاد
شكل نمو هذا القطاع وتميّزه عن القطاعات الأخرى رافعة للاقتصاد اللبناني في ظل الأزمة االقائمة، وذلك نتيجة لتوسعه وعمله في عدة دول حول العالم، وتصدير منتجاته، وبالتالي إدخال العملة الصعبة إلى البلد.
وفي هذا السياق، أوضح نقيب شركات التكنولوجيا السيد جورج خويري أن عدد الشركات اللبنانية يصل إلى ٦٠٠ شركة، وهي تتواصل مع أهم الشركات التكنولوجية العالمية أمثال أوراكل Oracle سيسكو Sysco... أما عدد الأعضاء المنتسبين إلى النقابة فهو ٥٠٠٠ عضوًا، في حين يبلغ عدد العاملين في القطاع نحو ٦٦ ألفًا يتميّزون بقدرتهم على التواصل بعدة لغات، ما يُسهم في نجاح قطاع تكنولوجيا المعلومات وانتشاره في معظم دول العالم. كما أوضح أن منتجاته تصدّر إلى معظم دول العالم، كأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، والإمارات العربية المتحدة وقطر.

 

الحفاظ على الموارد البشرية
تسعى الشركات العاملة في قطاع تكنولوجيا المعلومات إلى الحفاظ على مواردها البشرية واستقطاب المزيد من الكفاءات. وفي هذا السياق يؤكد رئيس مجلس إدارة شركة Born Interactive السيد فادي صباغة أنّ موظفي الشركة هم أركانها الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، ولا سيما في ظل الهجرة المتنامية للأدمغة. لذلك، تمت زيادة رواتب الموظفين وتسوية أوضاعهم بعد أن كانت الشركة قد اضطرت إلى خفض نحو ٣٠٪ من هذه الرواتب في العام ٢٠١٩، بسبب الانهيار المالي وانكماش السوق اللبناني الذي كان يستهلك ٥٠٪من إنتاجها.

 

التوسع في الخارج
مرونة الصناعة في هذا القطاع تساعد على الإنتاج عن بُعد، وهذا ما جعله يتكيّف مع الظروف التي فرضها وباء كورونا، فاستمر العمل فيه عبر المنصات الإلكترونية. وأكثر من ذلك، كانت له مبادرات في ظل الأزمة جعلته يتوسّع في الخارج.
بدوره أكد مدير عام شركة Triangle Mena FZ-LL السيد نديم بو يزبك أنّ للشركة فرعًا آخر في الإمارات و٩٠٪ من المشاريع المُنتجة اليوم خاصة بالأسواق الخليجية، وهي تصاميم للمواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية والبث المباشر live streaming وخدمات أخرى. وبالتالي، فهي لم تتأثر كثيرًا من جراء الانهيار المالي، ولم تصرف أحدًا من موظفيها، لا بل على العكس من ذلك، تم توظيف المزيد من الشباب، وتصحيح رواتب الموظفين القدامى، لمساعدتهم على الصمود في لبنان.
تجربة شركةIT WORKS ME  تقدّم بدورها نموذجًا آخر لتوسع القطاع ونموه في الخارج، ويشير السيد سلوم الدحداح (رئيس مجلس إدارة الشركة وصاحبها) إلى أنّ القيمين عليها تنبّهوا باكرًا إلى حدوث الانهيار المالي، فسارعوا إلى إنشاء فرع جديد للشركة في قبرص، وبدأو العمل على الانفتاح بشكلٍ تدريجي على الأسواق فيها والعمل على اكتساب الثقة. ثم أسسوا فرعًا آخر في بريطانيا، وقد بات العمل اليوم موزعًا بين ١٠٪ في الأسواق اللبنانية و٩٠٪ في الأسواق الخارجية. وفي موازاة ذلك تم تعزيز وضع موظفي الشركة في لبنان، لمساعدتهم على الصمود إزاء التدهور الكبير للعملة.

 

مبادرات وطموحات
يستوعب قطاع تكنولوجيا مبادرات الشباب الذين يقبلون على توظيف مهاراتهم فيه، ليس كموظفين فقط وإنما كمؤسسين لشركاتٍ ناشئة تعِد بمستقبلٍ يحقق
طموحات أصحابها ويبث الأمل بأنّنا قادرون على مواجهة تحديات المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان. من هذه المبادرات الشركة الناشئة webvue التي أسسها المهندس جان بيار عقل، وازدهرت أعمالها خلال جائحة كورونا. فقد اضطر العالم بأجمعه إلى الاعتماد على التجارة الإلكترونية، وبالتالي باتت خدمات الشركة المتعلقة بتصميم المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية ومتابعتها وإدارة محتواها، وتقديم الحلول لها منتشرة في عدة دول من العالم. كالسعودية ودبي.
بدايات هذه الشركة كانت مع إنشاء موقع إلكتروني متخصص بمتابعة عدد إصابات كورونا، وكان يصل عدد الزائرين يوميًا إلى الألف. ولكن مع انحسار الوباء أُقفلت الصفحة، وتطور العمل لتصبح الشركة على ما هي عليه اليوم، إذ أنّها تعمل في مجال إنتاج الإعلانات الرقمية الخاصة للمنصات الإكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
يوضح المهندس عقل أنّ تأسيس الشركة لم يتطلب هذا الرأسمال الكبير، أو العدد الكبير من الموظفين. فعدد موظفيها لا يتجاوز العشرة، وهم يعملون عن بُعد من منازلهم في عدة دول منها، فرنسا والكويت والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي بذلك تُسهم في إدخال العملة الصعبة إلى البلد، كما أنّها تحرص على مساعدة الشباب اللبنانيين الذين تراوح أعمارهم بين ٢٣ و٢٨ عامًا للبقاء في أرضهم.

 

مواجهة التحديات
وفق ما يجمع عليه من التقيناهم، يواجه قطاع تكنولوجيا المعلومات جملة من التحديات تُعوّق عمله، أبرزها مشكلة السرعة في الإنترنت وكلفته الباهظة، ومشكلة الكهرباء، وهجرة الكفاءات البشرية، لكنه مع ذلك يستمر بثباتٍ. هنا تؤدي الأسواق الجديدة دورًا أساسيًا، وهذا ما يؤكده السيد جاد نهرا (مسوؤل عن قسم التسويق في إحدى الشركات)، مشيرًا إلى توظيف الشركة المزيد من الشباب المتخصصين، كما يؤكده السيد كمال سلامة (مسؤول عن قسم الصيانة في الشركة نفسها).

 

فرص تعزّز الصمود في الأرض
تخرّجت المهندسة دانيا عيتاني (Computer Communication Engineering) من الجامعة الأميركية في بيروت في «عز الأزمة»، يومها بدا لها أنّه من المستحيل الحصول على وظيفة في لبنان بسبب الظروف ولكونها لا تملك خبرة عملية، لكن الحظ حالفها في إحدى الشركات التكنولوجية، حيث اكتسبت خبرة جيدة وباتت تعمل في مجال تخصصها، وفي وطنها، وهذا يعزز ارتباطها بهذا الوطن. الشاب حنا إميل طوطح) اختصاص System & Network Administration) أكد بدوره أنّه بعد نحو السنة من المعاناة متنقلًا من وظيفة إلى أخرى، لا ترضي طموحه ولا يكفي راتبها العيش بكرامةٍ، قرر مغادرة لبنان للبحث عن الأفضل، إلى حين حصل على وظيفة في إحدى الشركات فاستقر وضعه النفسي والمهني والمادي، وعزف عن فكرة المغادرة. وتوجّه بالشكر العميق إلى كل من يساعد الشباب اللبناني، في هذه الظروف الصعبة، على الصمود في بلده، لأنّ الوطن يحتاج إلى أبنائه، فلمن نتركه؟
في الختام يبدو أن قطاع تكنولوجيا المعلومات في لبنان عازم على الصمود والاستمرارية رغم صعوبة الظروف، والشركات العاملة فيه تأخذ بعين الاعتبار مسؤولياتها الاجتماعية تجاه موظفيها، وتجاه الحد من نزيف الأدمغة المبدعة، لأنها الأساس في الصناعة التكنولوجية، لا سيما في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي.

 

واقع أزمة الهجرة
غادر لبنان ما يزيد عن ربع مليون لبناني في مطلع العام ٢٠٢١، والنزف مستمر، معظمهم من فئة الشباب المتخصص (أطباء، ممرضات، ممرضين، مهندسين، مصرفيين، أساتذة جامعة، مدرسين، مبرمجي كومبيوتر، تكنولوجيين...) كمؤشرٍ لنزيف الأدمغة، وتأتي بعدهم فئة الميسورين وأصحاب الأعمال الذين يهربون بعائلاتهم ومصالحهم إلى الخارج للحصول على استقرار وأمان، وانتهاء عند فئة الشباب العاطل عن العمل والمضغوط بسبب انخفاض الرواتب، كذلك بالنسبة إلى الخريجين الجدد...
وسينعكس هذا المؤشر على لبنان لأمدٍ طويل، إذ سيُفقده العنصر الإبداعي والمهني القادر على إدارة القطاعات والنهوض فيها، كما سيحرم هذه القطاعات من ميزاتها وتقدمها الذي يمثل العنصر البشري أساسًا فيها.
وقدّر البنك الدولي أنّ لبنان يحتاج، بأحسن الأحوال، إلى ١٢ عامًا ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي سُجلت في العام ٢٠١٧، وبأسوأ الأحوال إلى ١٩ عامًا.
وإزاء هذا الواقع المرّ، يحاول البعض كل على طريقته إيجاد الحلول المناسبة للحد من هذا النزيف الخطير.