خواطر

لا تضيّعوا الشهادة
إعداد: النقيب حسين غدّار

 ليس الهدف الحصري من هذه الكلمات بيان التقدير العميق لتضحيات شهدائنا؛ فقد قيل في ذلك الكثيرُ من صادق النثر والشعر على امتداد الوطن حتى أصبح من العسير أن يُضاف إليه ما يُحسّنه ويجمّله. إنّ ما أبغيه هو نوع من التعقيب والتذييل لذلك التعبير الصادق.
فإذا أظهرنا كلبنانيين، في أعقاب الأحداث الأخيرة، عاطفة أخوية حارّة نحو جيشنا وشهدائه الأبطال، فحريٌّ بنا كذلك أن نقابل تلك الشهادة بما يليق بها من تضحية وعمل وبذل. لا أعني بذلك الالتفاف حول الجيش ودعمه وحسب، فتلك بديهيّة لا يخفى تقديس اللبنانيين لها، ولا يختلف فيها اثنان؛ إنما أعني ما يقع على اللبناني من واجب في إصلاح نفسه -وكلّنا في حاجة إلى نوع من إصلاح النفس- ورفعها إلى مقام يليق بالقربان المقدس والعطاء الأسمى الذي بذله الشهداء.
القصد هنا أن ينتقل اللبناني من روحية الأنانية، إلى روحية المواطَنَة، كلٌّ وفق حالته، وهنيئًا لمن حقق فعلاً ذلك الانتقال ونبذ عقلية المنطقة والطائفة والمذهب والفرقة.
فإذا كان الدين والمذهب لازمَين للإنسان، وإذا كان الانتماء السياسي خيارًا له وحقًّا، فإن التعصب لهذا أو ذاك هو آفتنا الكبرى، وجريمة نقترفها في حق مجتمعنا وفي حق من ماتوا ليصونوا تراب بلادهم وأهلها.
فالدين الحقيقي هو في أصله الوعي الروحي والصلة بين الإنسان والمكوِّن الأعظم، مصدر الحب والحنان والعافية والجمال؛ ولا رقيّ لنا إلا إذا عمَّ هذا التصور للدين. فالأنبياء والرسل متفقون على جوهر الدين، ومؤتلفون حول جملة من القيَم الإنسانية التي ترتقي بطباع البشر، وتلك فضائل لا تخفى، نستقيها من أقوال الأنبياء والرسل، وسيَر الأولياء والقديسين، ومحامد الصالحين والأبرار. فإذا أخذنا ما هو متفق عليه وارتفعنا في روحياتنا إلى الله، إلى المصدر الأعلى، بَعُدنا عن الخلاف وما ينجم عنه من شقاق وشقاء؛ وليختر اللبناني بعد ذلك ما شاء من أصناف المعابد وطرق التعبد وأشكال الصلاة.
هذا في الجانب الديني؛ أما في الجانب السياسي، فإن اللبناني مدعو كذلك إلى نبذ كل أشكال التعصب ودواعي الفرقة والتمزق. ولئن شاء ممارسة حقه في تأييد هذا الزعيم أو ذاك، وانتخاب هذا المرشح أو ذاك، فلتكن بداية الاختلاف السياسي ونهايته داخل تلك الحجرة حيث يدلي الناخب بصوته. ولا يجعلنّ أحد نفسه حبيس الضغينة والكراهية، فيكون إذ ذاك صغيرًا، على غير ما وعد شهداءنا من إجلال لمقامهم.

من هنا كان التسامح سياجًا لحقوقنا، وأساسًا لرقيّنا. وكلما اقترب اللبناني من الفضائل السامية وفي طليعتها التسامح، كان أكثر وفاءً لتضحية الشهداء، وأشد إخلاصًا لأرض آبائه وأجداده. وكلّما ابتعد عنها، كان حانثًا في وعد قطعه للشهداء يوم رحلوا بإجلال مقامهم وصون إنجازاتهم.
وفي معرض حديثنا عن التسامح ونبذ الطائفية، لا بد من ذكر كلمة ذهبيّة هي حقاً كلمة إلهية تحمل الحب والتساهل والرحمة إلى كل الناس: «أحبَّ لأخيكَ ما تحبّ لنفسك». إن في هذه الآية الذهبية روح الإنجيل والقرآن، وحريّ بنا كلبنانيين أن نكتبها بماء الذهب، ونعلقها على الجدران، وأن نرددها كل يوم عدة مرات.
لقد خلق الله الناس ليتعارفوا لا ليتناحروا ويتمرغوا في أوحال العصبية. وعقلية التواصل والانفتاح لم تزل حية في اللبنانيين؛ ففينا الكثيرون ممن أدركوها فتساموا عقلاً وخُلُقاً، لكنها متوارية عند بعضنا خلف حُجُب اصطنعها من فهمه للدين ونظرته إلى الخيار السياسي.
لذلك، وبالنظر إلى كل ما سبق، لنا أن نتوجه إلى اللبنانيين بلسان حال جيشهم، وهو المؤسسة الجامعة، لنقول:
«إنّ مبادئكم الأساسية واحدة، وجميعكم يهفو إلى الحق والعدل والمحبة، وكلّكم أبناء لي وإخوة، بذلتُ من أجلكم الدم والنفس، فعاهدتموني على الوفاء وحفظ الأمانة، أي الوطن. لكنْ ليحْذَرْ أولو الفتنة والضغينة، فإنهم يخونون العهد، ويسلبون الشهداء سلام الرقاد».