من التاريخ

لبنان خلال الحرب العالمية الثانية:
إعداد: د.شادية علاء الدين

معارك وغارات ورغيف أسود... ووعد بالاستقلال

 

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية أوقفت سلطة الانتداب الحياة الدستورية في لبنان كما قيّدت الحريات وعمدت إلى القضاء على أي تجمع وطني تتوجس منه خطرًا عليها، واخضعت الصحف لرقابة شديدة، وحاولت مصادرة أجهزة الراديو...
من جهتهم، كان اللبنانيون يترقبّون المستقبل بخوف وقلق، إذ عادت بهم الذاكرة إلى ويلات الحرب العالمية الأولى. وقد شهدت البلاد أزمة معيشية حادة واضطرب الأمن، وأصبح لبنان داخل معركة بين قوات فيشي وجيش الحلفاء.

 

التجمعات اللبنانية والجرائد في عهد الانتداب
لم يتح حكم الانتداب لأي تجمع وطني أن يصبح حزبًا كبيرًا، إذ عمل على القضاء على كل تجمع وطني يشكل خطرًا عليه. أما ما سمح به آنذاك من تجمعات فكان في نوعين:
تكتلات تدور حول اشخاص مثل كتلة إميل إده والكتلة الدستورية النيابيتين، أو منظمات ذات لون طائفي، مثل الكتائب والنجادة والغساسنة...
ارتكز تفكير إميل إده السياسي إلى معاهدة التحالف والصداقة المعقودة في العام 1936 بين فرنسا ولبنان والتي تجعل من فرنسا حامية لاستقلال لبنان. أهم أركان هذه الكتلة قبل العام 1939 كانوا ثلاثة، هم: موسى نمور، حبيب أبو شهلا، وأحمد الحسيني.
وكانت جريدتا «الأوريان» الصادرة بالفرنسية و«العهد الجديد» الصادرة بالعربية، لسان حال كتلة إميل إده، التي سميت في ما بعد «الكتلة الوطنية».
أمّا الكتلة الدستورية فقد سميت كذلك بسبب مطالبتها بإعادة الدستور ودعوتها إلى المحافظة على الحياة الدستورية في لبنان. فعلى أثر وقف الحياة الدستورية في العام 1932 اجتمع حول الشيخ بشارة الخوري عدد من النواب الذين طالبوا بإعادة الدستور، وهم: الشيخ فريد الخازن، حسين الأحدب، ميشال زكور، وجبران التويني. اجتماعات هؤلاء مع بشارة الخوري كانت النواة المؤسسة للكتلة الدستورية التي ظهرت بعد انتخابات 1934. وقد انضم إلى هذه الكتلة في ما بعد كميل نمر شمعون وسليم تقلا.
تولّت جريدة «لوجور» لصاحبها ميشال شيحا والتي تصدر باللغة الفرنسية، دعم الكتلة الدستورية فكانت تدافع عن سياستها وتهاجم معارضيها، كما كانت جريدة «النهار» لصاحبها جبران التويني تقوم بالمهمة نفسها لدى قراء العربية.
انحصر نشاط الكتلتين في أروقة المجلس النيابي وقاعاته، وكان هدف المنافسة بينهما كسب مقعد نيابي أو وزاري توطئة للفوز برئاسة الوزارة أو الجمهورية.
وحتى العام 1939، لم يكن لأي من الكتلتين ميثاق مكتوب ينص على أهدافهما ووسائلهما في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولم يكن ايضًا في الإمكان أن يصل أي شخص إلى النيابة إذا لم تكن السلطات الفرنسية راضية عن وصوله. لذلك ظلّ دور الكتلتين على السواء محصورًا في الأعمال الإدارية التي لا توجه سياسة ولا تخالف خطة وضعتها حكومة الانتداب، غير أن عددًا كبيرًا من أعضائهما كان له دور كبير في الحياة السياسية في عهد الاستقلال.

 

الحياة الدستورية
نَعِم لبنان بفترة من الحكم الدستوري بين العامين 1937 و1939 تحقق خلالها تقدم سياسي ملحوظ. ففي 4 كانون الثاني 1937 أعلن المفوض السامي داميان دو مارتيل عودة الحياة الدستورية التامة إلى لبنان. لكن نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول 1939 وضع سلاحًا فعالًا في يد دولة الانتداب، فأعاد المفوض السامي غبريال بيو الذي خلف داميان دو مارتيل في المفوضية الفرنسية تعليق الدستور للمرة الثانية، وحلّ المجلس النيابي، وأقال الحكومة، وقيّد الحريات، وأمعن في الحد من سلطة رئيس الجمهورية إميل إده. كما اعتبر لبنان منطقة حربية بموجب انتداب فرنسا عليه.

 

الرقابة على الصحف ومصادرة اجهزة الراديو
خضعت الصحف لرقابة شديدة، وكان جهاز الراديو الوسيلة الوحيدة التي يطلّع اللبنانيون من خلالها على سير الحرب ويتابعون أخبارها عبر محطات الإذاعة العالمية. وقد حاولت السلطة الفرنسية مصادرة هذه الأجهزة التي تفسد عليها سياستها في إخفاء ما تريد من أنباء عن الوضع العسكري، لكن هذه المحاولة أخفقت.

 

سقوط باريس
في ربيع 1940 زحفت قوات ألمانيا الهتلرية على الدانمارك والنروج ثم على هولندا وبلجيكا، فتراجع الحلفاء أمام الجيوش الألمانية. وفي حزيران واجهت فرنسا نفسها الغزو الألماني لأراضيها. لم تصمد المقاومة الفرنسية أكثر من أسبوعين بعد اختراق الألمان الحدود الفرنسية (14 حزيران) فسقطت باريس. بعد ذلك باسبوع تمّ توقيع الهدنة وأصبحت فرنسا تحت السيطرة الألمانية، وتسلّم المارشال فيليب بيتان الحكم كرئيس للدولة الفرنسية في فيشي.
في المقابل رفض فريق من الفرنسيين إلقاء السلاح والاستسلام، وتألفت في لندن «حركة فرنسا الحرة» التي قادها الجنرال شارل ديغول.
أعلن المفوض السامي في لبنان غبريال بيو ولاءه لحكومة فيشي، فكان ذلك إيذانًا بتبعية الانتداب الفرنسي في لبنان لحكومة بيتان. بقي بيو في بيروت خمسة أشهر بعد استسلام فرنسا، ثم اقالته حكومة فيشي. وفي 30 كانون الأول 1940 خلفه الجنرال هنري دانتز مفوضًا ساميًا وقائدًا أعلى للجيش الفرنسي في لبنان وسورية.

 

أزمة المواد الغذائية
تخوّف اللبنانيون من المجاعة بعد أن شحّت المواد الغذائية في البلاد بسبب ظروف الحرب، فأقبلوا بشدّة على شراء هذه المواد، وارتفعت الأسعار ارتفاعًا جنونيًّا. بلغ سعر كيلو السكر والأرز ليرتين، وبلغ ثمن صفيحة البنزين ثلاثين ليرة على الرغم من تقييد سير السيارات، مع العلم أن العملة اللبنانية في سنة 1941 كانت ذات قوّة شرائية تفوق ما كانت عليه في العام 1969.
في ظل هذه الأوضاع، ظهرت طبقة من المحتكرين بدأت بتخزين البضائع على اختلافها لبيعها في ما بعد باسعار باهظة، وأصبح رغيف الخبز أسود اللون إذ دخلت في عجينته مواد مختلفة كالشعير والذرة وغيرهما.
مع احتدام الأزمات المعيشية والسياسية واضطراب الأمن في البلاد وعجز الحكومة عن معالجة الوضع، استقال إميل إده من رئاسة الجمهورية. وفي 10 نيسان 1941 عيّن الجنرال دانتز القاضي الأستاذ ألفرد نقاش رئيسًا للدولة، يعاونه مجلس مديرين يرئسه المهندس أحمد الداعوق.

 

معارك وغارات جوية
في صبيحة 8 حزيران 1941 ألقت طائرات الحلفاء فوق مدن لبنان وقراه منشورًا مطبوعًا بتوقيع الجنرال جورج كاترو بوصفه المندوب العام لحكومة فرنسا الحرّة في سوريا ولبنان. أعلن المنشور الاستقلال الكامل للسوريين واللبنانيين باسم فرنسا الحرّة، وكان الهدف من تلك الخطوة الحصول على تأييد الشعبين.
في موازاة ذلك، كانت المعارك العنيفة بين قوات فيشي والحلفاء مشتعلة على طول جبهة الدامور التي تمتد من الشاطئ إلى مرتفعات دير القمر وبيت الدين، وكانت الطائرات البريطانية تُغير على بيروت كل ليلة. وقد استهدفت الغارات المراكز العسكرية ومستودعات الذخيرة وخزانات البترول في محلة الدورة والبواخر الرابضة في المرفأ. كما أصابت قنابل الطائرات قصر الصنوبر وبناية البلدية ومنازل عديدة في أحياء مختلفة من بيروت.

 

بيروت مدينة مفتوحة
هجر معظم سكان بيروت منازلهم وغادروا المدينة إلى الجبال، وازدحمت طريق بيروت عاليه بالناس المغادرين في السيارات وعلى الدواب وحتى مشيًا على الأقدام.
بتكليف من أعيان اللبنانيين، توجّه ألفرد نقاش ووفد مؤلف من عمر الداعوق وهنري فرعون إلى رئيس الجمهورية بمذكرة عليها تواقيع رجالات البلاد، يطلبون فيها أن تقوم الحكومة بواجبها، فتطلب إعلان العاصمة بيروت مدينة مفتوحة لإنقاذها من الدمار، وذلك بنقل وسائل الدفاع من أحيائها، وبإبلاغ الأمر إلى الحملة المهاجمة.
رفض الجنرال دانتز طلب الرئيس نقاش رفضًا شديدًا، لكن الوضع العسكري ازداد سوءًا، ما اضطر دانتز إلى طلب وقف القتال.
توقّف القتال في 8 تموز، فدخلت الجيوش الحليفة بيروت بعد أسبوع من ذلك، ورحلت قوات فيشي عائدة إلى فرنسا. وحلّ الجنرال كاترو مكان دانتز متخذًا لنفسه لقب «المندوب السامي العام» بدلاً من «المفوض السامي».
انتعشت الحياة الاقتصادية بعد دخول الحلفاء وانفك الحصار الخارجي وتوافرت المؤن ووجد البنزين، فعادت السيارات إلى إحياء حركة المواصلات.

 

الاستقلال الرابع
أعلن الجنرال كاترو يوم 26 تشرين الثاني من العام 1941 موعدًا لاستقلال لبنان. لكن واقع الحال استمر كما كان من دون أي تغيير، إلى أن حصل الاستقلال الفعلي في تشرين الثاني 1943.
كان إعلان كاترو رابع إعلان لاستقلال لبنان، فالأوّل أعلنه الجنرال غورو (1920)، والثاني أعلنه دي جوفنيل مع إنشاء الجمهورية (1926)، والثالث أعلنه دي مارتيل مع إبرام المعاهدة اللبنانية - الفرنسية (1936).


المصادر:
1) منير البعلبكي وبهيج عثمان وشفيق جحا: المصوّر في التاريخ، الجزء العاشر، 1969.
2) كمال الصليبي: تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، 1991.
3) عبد العزيز سليمان نوار وعبد المجيد نعنعي: التاريخ المعاصر، أوروبا، دار النهضة العربية.