دراسات وأبحاث

ليبيا آفاق رمادية في فضاء قاتم
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

مسرح لصراع المصالح والنفوذ

 

في 11 نيسان 2016 صرّح الرئيس الأميركي باراك أوباما قائلًا:
«إنّ أسوأ خطأ ارتكبته في أثناء رئاستي كان عدم الاستعداد لمرحلة ما بعد القذافي في ليبيا».
وفي الواقع تعيش البلاد منذ العام 2011 سلسلة من الأزمات والصراعات الدموية التي لا يبدو في الأفق حلّ قريب لها.

 

الموقع والمساحة
لِيبِيا أو لُوبِيَا و لُوبِيَة، اسم أطلق على الإقليم الواقع في شمال إفريقيا بين مصر وتونس، نسبة إلى قبيلة الليبو التي سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين (القرن 13 قبل الميلاد).
وليبيا اليوم، دولة تقع في شمال إفريقيا، يحدّها البحر الأبيض المتوسط من الشمال، ومصر شرقًا والسودان من الجنوب الشرقي، وتشاد والنيجر من الجنوب، والجزائر وتونس من الغرب. أمّا الأجزاء الرئيسة التقليدية التاريخية الثلاثة للبلاد فهي، ولايات برقة، وطرابلس، وفزان. تبلغ مساحة ليبيا نحو 1,8 مليون كلم2 وفق «كتاب حقائق العالم» الذي تصدره وكالة المخابرات المركزية الأميركية «السي آي أي» CIA، وهي رابع أكبر دولة مساحةً في إفريقيا.
 

الحدود
يبلغ طول الحدود الليبية البرّية نحو 4339 كلم، أمّا طول ساحلها على البحر المتوسط (من الحدود المصرية حتى الحدود التونسية)، فيبلغ نحو 1770 كلم وفق «كتاب حقائق العالم» الآنف الذكر. بين مدينتي بنغازي شرقًا ومصراتة غربًا، يدخل البحر المتوسط في الأراضي الليبية مشكلًا خليجًا واسعًا هو خليج سرت أو السدرة الذي تعتبره ليبيا مياهًا إقليمية داخلية، بينما تعتبره الولايات المتحدة مياهًا دولية. وهذا ما أدى إلى نزاعات بين الدولتين تخلّلتها مواجهات عسكرية في ثمانينيّات القرن الماضي. وتقع في هذا الخليج اليوم معظم مرافئ ومرافق تصدير النفط والغاز الليبي، بالإضافة إلى كونه مرفقًا لصيد الأسماك والإسفنج والسلاحف.

 

الطبيعة والمناخ
تعتبر ليبيا بشكلٍ عام بلادًا صحراوية، وفي ما خلا الشريط الساحلي الضيق المعتدل المناخ على البحر المتوسط، يسود الحرّ الشديد في معظم أراضيها حيث يتصل الداخل بالصحراء الإفريقية الكبرى.
مع ذلك، تتميّز ليبيا بكثرة المياه الجوفية، وبالواحات الواسعة، وبخاصة في بعض المناطق الداخلية.

 

التاريخ
تشير السجلات التاريخية الموجودة إلى أنّ البلاد المعروفة اليوم بليبيا كانت مأهولة قديمًا بقبائل البربر، أمّا الساحل الغربي فقد سكنه الفينيقيون الذين هاجروا من السواحل اللبنانية بدءًا من القرن العاشر قبل الميلاد. بعد قرنين هاجر الإغريق من جزيرة كريت (القرن الثامن قبل الميلاد) ليؤسسوا المدن الإغريقية الخمس (البنتابوليس) في برقة (سيرينايكا)، والتي كانت المدن الأكثر ازدهارًا في إفريقيا في ذلك العصر.
في القرن السادس قبل الميلاد، ارتفع نجم قرطاجة كدولة ذات قوة ومكانة على المتوسط، وقد استمرت في صراع مع الإغريق، ثمّ مع الرومان حتى سقوطها بيد الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد.
في القرن الخامس بعد الميلاد، أصبحت معظم مناطق ليبيا الغربية في قبضة قبائل «الفندال» Vandal الجرمانية الشرقية (البرابرة)، وبعد ذلك بقرن أصبحت تحت سيطرة البيزنطيين.
في القرن السابع الميلادي دخلها العرب المسلمون، وفي القرن الثاني عشر توسّعت مملكة صقلية وباتت تشمل نابولي وجزر مالطا وأصبح الساحل الغربي بين قلعة طرابلس وتونس تحت سيطرتها.
في العام 1510 احتل الإسبان قلعة طرابلس، وفي العام 1551 حاصرها العثمانيون واستولوا عليها، وأنشأت الإدارة العثمانية إيالة طرابلس الغرب تمييزًا عن إيالة طرابلس الشام.
انخرطت ليبيا في حروب الساحل البربري في القرنين الـ18 والـ19 تحت الحكم المستقل للأسرة القرمانلية، ثمّ عاد إليها الاحتلال العثماني، الذي انتهى بتوقيع اتفاقية بين العثمانيين وإيطاليا، أصبحت ليبيا بموجبها مستعمرة إيطالية (من العام 1911 إلى العام 1943).
خلال الحرب العالمية الثانية، شكّلت ليبيا مسرحًا رحبًا للحرب في شمال إفريقيا بين دول المحور والحلفاء الذين أصبحت تحت سلطة قواتهم في العام 1943 (بريطانيا في طرابلس وبرقة، وفرنسا في منطقة فزان). ثمّ وضعت البلاد تحت إدارة الأمم المتحدة، إلى أن نالت استقلالها (1951) تحت اسم «المملكة الليبية المتحدة» وسلطة الملك إدريس السنوسي، الذي حكم بموجب نظام فيدرالي ملكي دستوري.
في العام 1969، أطاح انقلاب عسكري بالملك إدريس الأول، لتبدأ فترة من التغيير الاجتماعي الجذري. استطاع قائد الانقلاب العقيد معمر القذافي، تركيز السلطة في يديه بشكل كامل في أثناء ما عرف بـ«الثورة الثقافية الليبية»، ليظل في السلطة حتى اندلاع الحرب الأهلية الليبية أو ثورة 17 شباط العام 2011.
منذ العام 2011 تعيش ليبيا حالة من عدم الاستقرار والعنف السياسي أثرت بشدة على انتاج النفط والاقتصاد بشكل عام. كما أصبحت ممرًا رئيسًا لما يعرف بالهجرة غير الشرعية، عن طريق شبكات الاتجار بالبشر التي تستغل اللاجئين الفارين من الحروب في إفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، وهو ما دفع بالاتحاد الأوروربي إلى القيام بعمليات بحرية قرب السواحل الليبية، كذلك، أصبحت ليبيا مقرًا لبعض التنظيمات الإرهابية المحلية والدولية.

 

السكان
قدر عدد سكان ليبيا بنحو 6 ملايين ونصف مليون نسمة، وفق تقديرات العام 2015، منهم نحو 12% من المهاجرين. ويشكل العرب والبربر نحو 97% من السكان، والباقي من اليونانيين والمالطيين والتونسيين والمصريين والأتراك والهنود والباكستانيين.
يعيش نحو 90% من الشعب الليبي على طول الساحل المتوسطي الممتد من مدينة درنة في الشرق حتى مدينة الزاوية غربي طرابلس. أما في الداخل فلا يعيش سوى قلة من السكان بسبب الطبيعة الصحراوية وندرة المياة السطحية. ويتميز الشعب الليبي بكونه مجتمعًا ما زال يحافظ على طابعه القبلي بعاداته وقيمه وتقاليده.
العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، ولكن إلى جانبها تنتشر الإنكليزية والإيطالية في المدن الكبرى، والبربرية في مدن أخرى.
الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، و96% من الشعب الليبي تقريبًا هم على المذهب السني.

 

الموارد والاقتصاد
النفط والغاز أهم موارد ليبيا، ووفق تقديرات مطلع العام 2016 بلغ احتياطي النفط لديها نحو 48.36 مليار برميل، والغاز الطبيعي نحو 1.5 تريليون متر مكعب.
يعتمد الاقتصاد الليبي على تصدير البترول والغاز. وفي العام 2015 قدّر الناتج المحلي الإجمالي GDP-Purchasing Power Parity، بنحو 92 مليار دولار، والناتج المحلي الاسمي GDP-Official Exchange Rate بنحو 38.3 مليار دولار.
أدت الأزمة المتواصلة في ليبيا، وعدم وجود حكومة واحدة قوية، إلى انخفاض كميات الغاز والنفط المصدّرة إلى الخارج بنسبة الثلثين، ما سبب تداعي اقتصادها نتيجة استمرار الحرب، وسيطرة المسلحين على عدد من مرافق الإنتاج ومرافئ التصدير، وكذلك تدهور أسعار النفط خلال هذه الفترة.

 

الوضع الراهن
تشهد ليبيا منذ العام 2011 صراعًا بين عدة أطراف وتنظيمات متناحرة تسعى للسيطرة على البلاد.
في بداية العام 2014، تولّى الحكم المؤتمر الوطني العام، ومنذ ذلك الحين سيطرت الأحزاب الإسلامية على المجلس، مقصية الغالبية المكوّنة من تياري الوسط والليبراليين. فبعد انتخاب نوري أبو سهمين رئيسًا للمؤتمر (حزيران 2013)، صوّت المؤتمر الوطني لفرض الشريعة الإسلامية، وقرر تمديد مدة ولايته حتى نهاية 2014 وسط رفض شعبي.
ويدور الصراع اليوم بين الحكومة المعترف بها دوليًا (المنبثقة عن مجلس النواب الذي انتخب ديمقراطيًا في العام 2014) والمعروفة رسميًا باسم «الحكومة الليبية المؤقتة»، ومقرها في مدينة شحات شرق البلاد، وحكومة إسلامية أسّسها المؤتمر الوطني العام، ومقرها في مدينة طرابلس.
حكومة مجلس النواب المعترف بها دوليًا تحظى بولاء الجيش الليبي تحت قيادة الفريق خليفة حفتر، أمّا الحكومة التابعة للمؤتمر الوطني العام (وتسمى أيضًا «حكومة الإنقاذ»)، فتقودها جماعة الإخوان المسلمين.
وبالإضافة إلى هاتين الحكومتين، هناك أيضًا جماعات متنافسة أخرى، منها، مجلس شورى ثوار بنغازي الإسلامي، الذي تقوده جماعة أنصار الشريعة (حصل على دعم مادي وعسكري من المؤتمر الوطني العام)، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذي ينتشر في بعض المناطق الليبية كمدينة سرت (طرد منها مطلع شهر كانون الأول 2016). كذلك، هناك ميليشيات الطوارق في غات التي تسيطر على المناطق الصحراوية في جنوب غرب البلاد، والقوات المحلية في منطقة مصراتة.
 

الجيش الليبي والمشير حفتر
في 14 شباط 2014، دعا المشير خليفة حفتر الذي خدم في الجيش في عهد النظام السابق، إلى حلّ المؤتمر الوطني العام وتشكيل حكومة مؤقتة للإشراف على انتخابات تشريعية جديدة. وفي أيار من العام نفسه، أطلقت القوات البرية والجوية الموالية للمشير حفتر عملية عسكرية سميت «عملية الكرامة» ضدّ الجماعات الإسلامية المسلحة في مدينة بنغازي، وضد المؤتمر الوطني العام في مدينة طرابلس. وفي حزيران دعا المؤتمر الوطني العام لإجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب، هُزم الإسلاميون في الانتخابات، لكنهم رفضوا نتائجها.
تصاعد النزاع في تموز، عندما أطلق الإسلاميون في طرابلس وميليشيات مصراتة عملية «فجر ليبيا»، واستولوا على مطار طرابلس الدولي.
بعد ذلك بوقت قصير، عقد أعضاء سابقون في المؤتمر الوطني العام كانوا قد رفضوا انتخابات حزيران ونتائجها، جلسة المؤتمر الوطني العام الجديد، وصوتوا لأنفسهم كبديل لمجلس النواب المنتخب حديثًا، متخذين من طرابلس عاصمة سياسية لهم. وسمّي نوري أبو سهمين رئيسًا للبلاد، وعمر الحاسي رئيسًا للوزراء. ومع سيطرة الميليشيات الإسلامية المدعومة من المؤتمر الوطني العام على مدينة بنغازي وهجومها على معسكرات الجيش الليبي في المدينة، انتقلت الغالبية في مجلس النواب المنتخب إلى طبرق (في أقصى الشرق)، وتحالفت مع قوات المشير حفتر الذي تم تعيينه قائدًا للجيش الليبي.
في تشرين الثاني، أعلنت المحكمة العليا في طرابلس، التي يسيطر عليها المؤتمر الوطني العام الجديد، حلّ مجلس النواب الذي رفض هذا الحكم معتبرًا أنه صدر «تحت التهديد».
التطورات التي حصلت لاحقًا لم تنه حالة التشرذم والصراعات القائمة في البلاد. وشهدت الأشهر الأخيرة من العام 2015 تطورات سياسية عديدة، من دون أن تؤدي إلى إنهاء الصراعات.

 

ثلاث حكومات في بلد واحد
تتقاسم ليبيا اليوم ثلاث حكومات، الأولى يرأسها عبد الله الثني، وهي منبثقة عن مجلس النواب، والثانية في طرابلس وتسمى حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، وكانت قد انبثقت عن المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته قبل أن يحل في الفترة القريبة الماضية، والثالثة ظهرت في إطار اتفاق الصخيرات في المغرب، وهي حكومة التوافق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة ومعترف بها دوليًا، ويرأسها فايز السراج.
وتنصب الجهود الدولية للتوفيق بين مجلس النواب الذي يرأسه عقيلة صالح ويتخذ من مدينة طبرق شرق البلاد مقرًا له، والمجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة عنه، ومقره في قسم من طرابلس. وتتركز تلك الجهود على حلّ مشكلة القيادة العليا للجيش، والعلاقة مع المشير حفتر الذي تمكنت قواته من السيطرة على معظم مناطق بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، بالإضافة إلى سيطرتها على مدن الشرق الأخرى ومناطق من الجنوب. وهو دعا في منتصف كانون الأول 2016 جيشه إلى الاستعداد لتحرير طرابلس العاصمة والقضاء على الميليشيات المعارضة وتوحيد البلاد تحت سلطة واحدة.

 

آفاق رمادية في فضاء قاتم...
وهكذا يبدو أنّ الأزمة الليبية تستمر من دون حلّ قريب وهي مسرح مرتبط ومتشابك مع غيره من مسارح الصراع الدولي في المنطقة، حيث الاحتمالات مفتوحة على مزيد من التأزم، وذلك بسبب كثرة المتنافسين الليبيين على السلطة والثروة، وتوزعهم في تيارات سياسية وعقائدية وقبلية، متباينة (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار)، ومتقاطعة مع التيارات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة أو الحركات الإرهابية. يضاف إلى ذلك وجود كثرة من اللاعبين الإقليميين والدوليين بعناوين و«أجندات» مختلفة، والذين يعمل كل منهم وفق مصالحه بدعم هذه الجهة أو تلك. ولا يخفى أنّه في طليعة هذه، «أجندات»، اقتسام الثروات، واستخدام ليبيا كقاعدة تجميع متقدمة لتمركز «الإرهاب» ونشره في دول شمال إفريقيا شرقًا وغربًا وجنوبًا... وتأمين استمرار بيع السلاح إلى المتحاربين من كل الفئات فيها ومن خلالها...

 

المراجع:

- https://ar.wikipedia.org/wiki/ ليبيا
- https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ly.html
- https://www.theguardian.com/world/libya
- https://en.wikipedia.org/wiki/Libyan_Civil_War
- https://www.usip.org/publications/the-current-situation-in-libya