من واقع الحياة

مؤسسة الزواج في مهب رياح الأزمة...
إعداد: ريما سليم

لم تقتصر أضرار الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان على الفقر والعوز وغياب الدواء وانخفاض المستوى التعليمي فقط، بل تعدتها إلى أكثر من ذلك، إذ ضربت رياحها مؤسسة الزواج وأدت إلى تفكك أسري لم يشهده لبنان من قبل.
الأرقام تشير إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة الطلاق في لبنان، وأصابع الاتهام تتجه بشكلٍ خاص نحو الأزمة الاقتصادية وتداعيات الكورونا.

تشير الأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاء في المديرية العامة للأحوال الشخصية إلى ارتفاع المؤشر العام لنسبة الطلاق خلال العام المنصرم، إذ بلغت ٢٦.٥٪ في حين أنّها لم تتجاوز الـ ٢٣.٠٣٪ في العام ٢٠٢١.
وفي دراسة نشرها مركز الدولية للمعلومات في أواخر العام ٢٠٢١، تبين أنها في تصاعد مستمر منذ العام ٢٠١٩، وقد تجاوزت العشرين في المئة، مع الإشارة إلى أنّها مرشحة للازدياد بنسبةٍ كبيرة. وبحسب الأرقام الرسمية، فإنّ لبنان كان يشهد في الماضي ٥٥٠٠ حالة طلاق في العام في حين أنها تجاوزت حالات الطلاق٨٥٠٠ كارتفاعٍ متوسط خلال العقود الماضية، وهذه نسبة مرتفعة جدًا. كذلك ارتفعت نسبة الطلاق في العام ٢٠٢٠ إلى ٢٣.٠٣٪ بعدما كانت ٢٠.٠٨٪ في العام ٢٠١٩. وقد تكون النسبة أكبر ولم نعلم بحالات طلاق عدة، لأنّ هناك من لم يسجّلوا طلاقهم بسبب الحجر.
وتشير الدراسة إلى الدور الذي أدّته الأزمة الاقتصادية في تزكية الخلافات الزوجية وتصدّع الزيجات، لا سيما بعد أن تراجعت المداخيل وباتت فرص العمل والإنتاج ضئيلة جدًا. في هذا الإطار، تؤكد الاختصاصية في علم النفس الدكتورة ماري آنج مرعي أن تراجع سوق العمل وخسارة الكثيرين لوظائفهم وأعمالهم كان له نتائج كارثية على الحياة الزوجية. وتضيف موضحةً أنّ الرجل بحاجةٍ للعمل كي يشعر أنّه منتج، لا سيما وأنّه المسؤول عن تأمين معيشة عائلته، وبالتالي فإنّ غياب مصدر رزقه يسبب له إحباطًا وغضبًا بالإضافة إلى عدة مشاعر سلبية ومشاكل نفسية يمكن أن تتحوّل إلى خلافات زوجية وشجار يومي. وفي بعض الحالات، يحتدم الخلاف إلى حد استخدام العنف في العلاقات التي تفتقر إلى التواصل السليم والحوار الهادئ، وهذا ما يؤدي بدوره إلى الانفصال بعد أن تبلغ التراكمات مرحلة لا رجوع عنها.

 

العزلة والتحرر
من جهة أخرى، تشير الدكتورة مرعي إلى الآثار السلبية للعزلة التي سببها فيروس الكورونا بعد أن أُجبر جميع أفراد العائلة على المكوث في البيت لفتراتٍ طويلة. وتوضح أنّه في السابق، كان الثنائي يجد في الخروج من المنزل متنفسًا ووسيلة لتفريغ الطاقة السلبية أو التوتر والقلق، وهذا ما كان سببًا في الحفاظ على رابط الزواج في العلاقات التي تفتقر إلى التواصل السليم أو تلك التي تعاني بعض المشاكل. أما بعد الملازمة القسرية للمنزل، فقد تفاقمت المشاكل وأدت إلى فضح الثغرات في العلاقات الزوجية ولم يعد الكثير من الأزواج قادرًا على الاحتمال بسبب غياب المتنفس، ما أدى إلى انحلال العديد من الزيجات.
وتتطرق مرعي إلى عامل أساسي في ارتفاع معدلات الطلاق في لبنان والدول العربية أيضًا، وهو وعي المرأة لدورها في المجتمع، خصوصًا بعد أن تحررت من القيود التي كان يفرضها المجتمع والأهل، وبالتالي فهي لم تعد ترضى بأن يُنظر إليها كمجرد آلة للإنجاب، بل باتت تسعى إلى المساواة الفعلية مع الرجل لا سيما في مسألة التضحية ضمن العائلة التي يجب أن تكون مشتركة لإنجاح الحياة الزوجية ولعدم شعور أحد الطرفَين بالغبن والاستغلال. من هنا، فالأزواج الذين يعجزون عن التكيف مع هذا التغيير، والذين يصرون على الإبقاء على الدور التقليدي للمرأة، رغم أنّها لا ترى نفسها فيه ، فإنّما يرصفون الطريق أمام الصدامات والمشاكسات ما يؤدي مع الوقت والتراكمات إلى الانفصال.
في إطارٍ مشابه، لفت تقرير لمجلة «الإيكونوميست» البريطانية صدر في أواخر العام الماضي ويتناول مسألة ارتفاع حالات الطلاق في العديد من الدول العربية، إلى أن نسبة النساء اللواتي يبدأن إجراءات الطلاق ارتفعت في تلك البلدان مقارنة بسنواتٍ خلت. ويوضح التقرير أنّ المطلقات كنّ في السابق موضع انتقاد، لكنهن اليوم يتحدّين التقاليد والأعراف والسلطة الذكورية سواء في المحكمة أو في سرير الزوجية أو لدى رجال الدين. كما يشير إلى تراجع تأثير الشخصيات الدينية وأفراد الأسرة على قرار الطلاق، ويرد ذلك إلى الثقة التي اكتسبتها المرأة العربية بفضل الاستقلال المالي والنجاح الوظيفي اللذين تحققا بفعل المشاركة الفعالة للإناث في القوى العاملة.
من جهة أخرى، تؤكد دراسة مركز الدولية للمعلومات، أنّ عوامل الانفتاح وتشعب العلاقات وتبدّل بعض المفاهيم الاجتماعية، قد أسهمت جميعها في التبدّل الحاصل في خيارات الأفراد في لبنان على صعيد تراجع حالات الزواج مقابل الارتفاع في حالات الطلاق.

 

تأثير وتداعيات
مما لا شك فيه أنّ انفصال الزوجين يترك آثارًا سلبية لدى الطرفَين، إلا أنّ الضحية الحقيقية في الطلاق هم الأولاد. فقد أظهر بحث نشرته عالمة الاجتماع ليزا ستروشين لجامعة ألبرتا الكندية في أواخر العام الماضي، أنّ الأطفال الذين انفصل آباؤهم أظهروا مستويات أعلى من القلق والاكتئاب والسلوك غير الاجتماعي، ويبدأ ذلك خلال السنوات السابقة للانفصال نظرًا للضغوط الهائلة التي يتعرضون لها بسبب الخلافات الدائمة بين الوالدَين. كما وجدت أنّ أعراض الاكتئاب والقلق ساءت بوجهٍ عام بعد الطلاق على الرغم من أنّ المشكلات السلوكية تراجعت بشكلٍ ملحوظ . وفي دراسة أميركية مماثلة لعالمة النفس شارلين ولتشيك تبين أنّ لطلاق الوالدَين ارتباطًا بمخاطر كبيرة على الأطفال والمراهقين منها تعاطي المخدرات والإدمان، ومشكلات في الصحة العقلية والجسدية، والتحصيل الدراسي.
حول هذا الموضوع، تقول مرعي إنّ الطلاق يترك أثرًا عميقًا في نفوس الأولاد ويُشعرهم بمرارةٍ كبيرة وجارحة. وتضيف أنّ الطفل بحاجةٍ لمعايير معينة للنمو العاطفي السليم تتمثل بأمٍ ترعاه وتهتم به من دون شرط، وأب يدعمه ويحترم شخصيته ويمدّه بالأمان. ومتى توافرت هذه المعايير، يكون الأهل قد نجحوا في بناء فرد سليم يتمتع بشخصيةٍ متزنة ويملك ما يكفي من الصلابة لمواجهة صعوبات الحياة. والعكس صحيح بالنسبة إلى الأولاد الذين يتربون في جو عائلي متزعزع، الحب فيه مشروط والأمان مفقود، إذ يشعر الطفل بتهديدٍ لكيانه وتقل ثقته بنفسه، فيشكك بذكائه وقدراته الشخصية. وتترجم هذه المشاكل عمليًا بعدة مظاهر، من بينها الرسوب المدرسي وقلة الاهتمام بمختلف النشاطات بالإضافة إلى القلق والأرق وغيرها من الاضطرابات النفسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نماذج السلوك السيئة التي يشهدها الولد ضمن العائلة المضطربة، تقوده إلى قناعات خاطئة كمثل الاعتقاد بأن المرأة غير جديرة بالاحترام، أو أنّ الأب لا تطاع كلمته، أو أنّ الصراخ وسيلة طبيعية في التواصل، إلخ..وتدفعه بالتالي إلى بناء علاقات خاطئة في المستقبل، هذا إذا تمكن من أن يكون في علاقة لأنّه سيخاف من الالتزام والارتباط.

 

نصائح للزوجين
تؤكد مرعي أنّ الطلاق في العادة ليس فكرة تولد بين ليلة وضحاها، وإنّما هو نتيجة عدة تراكمات خلفتها الأزمات التي عصفت بالزواج ولم يعالجها الزوجان بالطريقة المناسبة، فولدت الكثير من الحقد والنقمة والضغينة. من هنا، فإنّ أهم نصيحة للزوجين هي المصارحة وتعبير كل منهما عما يزعجه بشفافيةٍ مطلقة وبأسلوبٍ حضاري وحوار بنّاء، بعيدًا عن القدح والذم وتبادل الاتهامات، فالتواصل السليم عنصر أساسي في بناء علاقة صحية. كذلك يفترض بالزوجين كسر الروتين اليومي وتخصيص يوم في الأسبوع وتمضية جزء منه على الأقل مع الشريك في نشاط يجمعهما معًا ويبعدهما عن ضغوط الحياة ومتطلبات الأولاد. والأهم من ذلك كله، أن لا ينام الثنائي من دون المصالحة مهما كان الخلاف كبيرًا.
كما تنصح السيدة مرعي كل شاب وصبية أن لا يُقدما على زواج متسرع، فالارتباط أمر جدي يجب أن يُبنى على أسس وأهداف مشتركة تضمن استمراريته ونجاحه.
لذلك، تذكروا قبل الإقدام على الزواج أنّه عهد أبدي يهدف إلى بناء عائلة مستقرة وهانئة، وليس عقدًا تجاريًا ينتهي بانتهاء الصفقة!