وجهة نظر

مئة عام على سايكس - بيكو !
إعداد: جورج علم

إنه «ربيع» تركيا

 

إندثرت حروفها، ولم يبق من اتفاقيّة سايكس - بيكو سوى حدود مستباحة بقوافل الموت، ومحطات الخيبة، وأشلاء النكبات المترامية عند خطوط وهميّة وقفت سدًّا منيعًا في وجه الحداثة، والتطور، والديموقراطيّة، والحكم الرشيد، والأنظمة المبنيّة بقناعات شعوبها، لا بعصا المستبد، وسيف الديكتاتور.
ماذا بعد؟


التاريخ يعيد نفسه
مئة عام على سايكس - بيكو، وماذا بعد؟!... لم يبق سوى الحضيض المعفّر بخيبات الشعوب، ومآسي الأجيال، وعويل النساء والأطفال... من بنى دولة تحاكي التطوّر بعظيم عطاءاتها، ومزاياها؟. من رتّب الأولويات، وعوّل على الكفاءات، وأعدّ العدّة لجبه التحديات؟. كثبان من المآسي، ومساحات من الخيبة، وإقطاعيات، وفئويات من الاستزلام، والاسترحام؟!...
ولدت على أنقاض الأمبرطوريّة العثمانيّة المريضة التي فكّكت الحرب العالميّة الأولى أوصالها، وبعثرت «أمجادها»، وبعد مئة عام من الديكتاتوريات، والمناكفات بين الدول والأقاليم التي استحدثتها، تحللت حروف الاتفاقيّة، وتبعثرت عند الحدود التي رسمتها، ربما لأن الشعوب لم تعرف كيف ترتفع، وترفع معها أوطانها، وربما لأن «الأخطبوط الدولي» النهم، قد تعب من الاستئثار، والاستثمار بما يفيض عن مقتضيات مصالحه، ونهب ما يكفي من الخيرات، واستغلال الطاقات والإمكانات، حتى جفّ الضرع، ويبس الزرع؟!.
 مئة عام على سايكس - بيكو، شاخت المنطقة، هرمت، نخرت الأميّة عظامها، وعشعشت الهزيمة في زواياها الحالكة، واجتاحها الإرهاب من كل حدب، وصوب، وجلس «سايكس وبيكو الجديدان»، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في حضرة المصالح، يرسمان إعادة تشكيل المنطقة من جديد، ووفق خرائط وسيناريوهات جديدة؟!.
وللمفارقة، إن سايكس - بيكو (1916)، كانت اتفاقًا سريًّا بين فرنسا، والمملكة المتحدة، بمصادقة الأمبراطوريّة الروسيّة، على اقتسام منطقة الهلال الخصيب، وتمّ التوصل إليها بين تشرين الثاني 1915 وأيار 1916، بمفاوضات سريّة بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وكانت على شاكلة تبادل وثائق، وتفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصريّة، وبقيت سريّة إلى حين وصول الشيوعيين إلى الحكم في موسكو (1917)، حيث بادروا إلى كشف النقاب عنها!.
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن مع تغيير في الأحجام، والأوزان، والأسماء. فبعد مئة عام يجلس «سايكس الأميركي» جون كيري مع «بيكو الروسي» سيرغي لافروف، ليعيدا معًا تشكيل المنطقة من جديد طبقًا لمصالح بلديهما، وليرسما معًا خطوط الطول والعرض والحدود، للدول والكيانات والأقاليم الجديدة تحت مظلّة وافرة من الشعارات. من نشر الديموقراطية، وحقوق الإنسان، إلى محو الأميّة، ومن محاربة الإرهاب، إلى الاستئثار بأزهار «الربيع العربي» بهدوء وسلاسة وكفاءة عالية، بحجة دفع الكيانات المنكوبة إلى تسويات لا تزال مجهولة الأطر، والأهداف، والأبعاد، والمستقبل، والمصير...

 

تصويب البوصلة
ملأت المأساة السوريّة الفراغ الكبير، فيما يحاول الكبار - وفق ادعاءاتهم - العمل على تصويب البوصلة، لتبحر في الإتجاه المعاكس، علّها تدرك في يوم، أو في عقد من الزمن، شاطىء الأمان والاستقرار، بعد الغرق المأساوي المزمن في بحور الغربة والتمزّق. إلاّ أن المفكّر اللبناني - العربي الألمعي كلوفيس مقصود الذي غادرنا منذ فترة، يقول في إحدى كتاباته: «إن القواعد الدولية لا تخطىء، خصوصًا عند التوغل في لعبة صناعة الأمم، وتحديد مصائر الشعوب الضعيفة، أو المستضعفة المغلوب على أمرها، وإذا كانت تركيا الهرمة بداية عشرينات القرن الماضي، هي التي ألهبت المشاعر، وحفّزت الطموحات، وفتّحت أعين الثنائي الفرنسي - البريطاني على الهلال الخصيب تحت رعاية القيصر الروسي، فإن تركيا - أردوغان هي التي تلهب في بدايات القرن الواحد والعشرين، المشاعر، وتحفّز الطموحات، وتفتح أعين الثنائي الروسي - الأميركي على «الهلال الخصيب» بساحاته الفوّارة بالثورات، والانتفاضات، والخيبات!».

 

الربيع التركي
يبدو أن المشوار الدولي على ضفاف نهر بردى، هو في الحقيقة بحث مكثّف عن أماكن الاستجمام في الجوار التركي؟!... سوريا هي المحطة، لكن الوجهة تركيا، وربيعها الآتي المزنّر بـ«الأحلاف المدشّمة»، من حلف الناتو، إلى الحلف الإسلامي الذي تحدث عنه يومًا وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى الحلف الأوروبي الناشىء عند شواطىء بحر إيجه، والهادف إلى وقف النزوح، وإقفال الممرات السالكة، وتحميل أنقرة الجزء الأوفر من المسؤوليّة المرتهنة بثلاثة مليارات يورو كدفعة أولى على الحساب!. صحيح أن الثنائي «المنسجم» كيري - لافروف يتحدثان طويلًا حول سوريا في عواصم مختلفة، ومناسبات متعددة، لكن الجملة المفيدة عندهما تقتصر على «توصيف السلطان والسلطنة» حاضرًا، ومستقبلًا. لقد دخلت تركيا، وفق مقارباتهما لتطورات الأحداث، ربيعها الصاخب، والطويل. لقد أهدت العالم العربي، وهي تترنح، إتفاقية سايكس - بيكو على مدى قرن من الزمن، وها هي تهدي مجددًا في «ربيعها الأردوغاني» شعوب المنطقة، وكياناتها، سايكس - بيكو روسيّة - أميركيّة جديدة، يمكن أن تتمدد على امتداد القرن الحالي، ومطلع القرن المقبل. ذلك أن «السلطان» يريد أن يجري عمليّة تجميل مكلفة، ليحرر»سلطنته» من البيروقراطيّة، والرتابة، وترف العلمنة، وخوذة العسكر، ويعيد إليها أمجاد محمد الفاتح، وسليمان القانوني، لكن لا ضمانات تؤكد بأن العمليّة قد تنجح من دون حصول أي تشويه قد يصيب البنية، والكيان!.

 

الثنائي : أردوغان - يلديريم
«المجازفة الربيعيّة» بدأت في العام 1994، عندما تسلّم رجب الطيّب أردوغان رئاسة بلدية إسطنبول، وكان إلى جانبه بن علي يلديريم الذي كان مستشارًا مخلصًا سعى إلى توفير فرص النجاح للتجربة الأردوغانيّة في إدارة شؤون المدينة. ومن القصر البلدي، إلى القصر الحكومي عندما فاز حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان في إنتخابات 2002. يومها تولّى عبدالله غول رئاسة الجمهوريّة، فيما أصبح أردوغان رئيسًا لمجلس الوزراء، وعيّن الدكتور الجامعي أحمد داود أوغلو وزيرًا للخارجيّة، وحفظ مقعدًا وزاريًا لصديقه يلديريم كي يكون إلى جانبه في القصر الحكومي. كانت تلك المرحلة عاصفة بالتحديات، وطموحات الرجل أكبر من المنصب الذي كان يحتّله، لكنه تعب واجتهد في تحقيق إنجازات إقتصاديّة - إجتماعيّة وفّرت له رصيدًا شعبيًّا كبيرًا في صندوق الإقتراع.
إنتخب أردوغان رئيسًا، وعيّن أوغلو رئيسًا للوزراء، لكن «شهر العسل» لم يدم طويلًا، لينتهي زمن الودّ والتفاهم بينهما. الأول طامح، فيما الثاني محافظ ومتحفّظ. الأول يريد الصلاحيات شبه المطلقة، فيما الثاني حريص على الدستور، والقانون، والتقليد العلماني للدولة. شعر أوغلو بعد فترة بأن «الأمور ليست على ما يرام». عقدت جولات من المصارحة لترتيب شؤون البيت «بالتي هي أحسن»، لكن من دون جدوى. ووجد أوغلو نفسه أمام قائمة مطلبيّة تعجيزيّة منها: المطالبة بتعديل الدستور، وتحويل نظام الحكم إلى رئاسي، مع صلاحيات واسعة. تقييد الحريّة الإعلاميّة، وزج الصحافييّن المعارضين في السجون. الهيمنة المعنوية على القضاء، والعمل على تطويعه، وتطبيع سلوكه بما ينسجم والطموحات السياسيّة. الإمساك بمفاصل الجيش، والتحول من النظام العلماني إلى النظام الإسلامي.
                     
 

البجع
إنتهت مغامرة الأشهر الستة لداود أوغلو في رئاسة الحكومة، وحزب العدالة والتنميّة، ولم يتمكّن صاحب نظرية «العمق الاستراتيجي» من وضع ما رسمه على الورق، على أرض الواقع، حاول الاستقلال عن سلطة أردوغان، لكنه لم ينجح، ولم يتصرّف بالشكل المطلوب لإقامة نظام رئاسي في البلاد. بوادر الخلاف بين الرجلين ظهرت أواخر نيسان الماضي مع تسريبات أطلق عليها إسم «البجع»، تحدّثت عن استياء أردوغان من رئيس الوزراء، وعن «فشله في إدارة كثير من الملفات!».
ويؤكد المحلل السياسي التركي المقرّب من أردوغان، محمد زاهد غول «أن أوغلو حاول أن يكون رئيسًا للوزراء كامل الصلاحيات طبقًا للدستور الذي يعطي رئيس الحكومة صلاحيات واسعة، فيما صلاحيات رئيس الجمهوريّة رمزيّة. لكن أردوغان حاول بعيد إنتخابه رئيسًا أن يمارس السلطة بواسطة الوزراء والموظفين الرسمييّن الذين كانوا يتلقون الأوامر منه مباشرة، وهذا ما أدى الى صدام سياسي!».
لم يخفِ أردوغان الذي يحكم تركيا منذ 2002، أولًا كرئيس للوزراء، والآن كرئيس للبلاد، أبدًا رغبته في وجود رئيس للوزراء لا يخالفه الرأي، لا سيما وأنه يريد تعديل الدستور للإنتقال من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. أقال داود أوغلو بطريقة فظّة، رغم أن الأستاذ الجامعي حاول أن يحرص على شيء من الود في العلاقة، متجاوزًا الصفعة المعنويّة التي تلقاها. خسرت الليرة التركيّة 5 بالمئة من قيمتها إزاء الدولار خلال الأشهر الماضية، وقال محللون إن صهر أردوغان، وزير الطاقة، بيرات البيرق قد يتولّى تصحيح الوضع فور تسلّمه حقيبة الإقتصاد؟!.

 

الإنقلاب!
أمر أردوغان، فعيّن حزب العدالة والتنمية، وزير النقل التركي بن علي يلديريم، المقرّب منه، رئيسًا للوزراء. وأعلن الناطق بإسم الحزب عمر جيليك في ختام اجتماع اللجنة التنفيذيّة للحزب «أن عهدًا جديدًا قد بدأ، يلديريم (60 عاما) رئيسًا للوزراء، ورئيسًا للحزب، وسيقدّم مقاليد السلطة للرئيس أردوغان كونه تعوّد ألاّ يردّ له طلبًا».
وكان يلديريم صرّح بعيد إعلان تنحي أوغلو قائلاً: «والآن فتح المجال أمام النظام الرئاسي؟!»، فيما قال فؤاد كيمان مدير مجموعة الأبحاث في «مركز إسطنبول للسياسة» ستتغيّر مهمات رئيس الوزراء، «سيصبح الرئيس رئيسًا للسلطة التنفيذيّة، أما رئيس الوزراء فيصبح الآلة العملانيّة للسلطة التنفيذيّة يعمل مع الرئيس، ولأجله؟!».
ووصف رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كلينشدار، ما جرى بـ«الإنقلاب»، و«دعا جميع مؤيدي الديموقراطية في تركيا إلى التصدّي لهذا الإنقلاب»، وأبدى قلقه بسبب ستة أمور:
- تحويل النظام إلى رئاسي، أي الى حكم الفرد المطلق الصلاحيات، أي إلى ديكتاتور يختفي بغلالة الدستور.
- الخوف على الحريات العامة.
- الإنقلاب على العلمنة بنظام إسلامي.
- زيادة التفسّخ في الوحدة الداخلية من خلال الحرب الشعواء ضد حزب العمّال الكردستاني.
- المزيد من التوغل في الرمال السورية المتحرّكة والمكلفة.
- زيادة التوتر في منسوب العلاقة مع أوروبا.

 

الصّوم
يثير تعزيز أردوغان سلطاته بشكل إضافي قلق معارضيه الذين يتهمونه أساسًا بالنزعة السلطويّة، خصوصًا أنه كثّف الملاحقات القضائيّة بحق صحافييّن بتهم «الإهانة»، ورفع الحصانة عن نواب موالين للأكراد، بعد أن وافق البرلمان في تصويت أول، على ما يمهّد الطريق أمام محاكمتهم بشبهة تقديم دعم للمتمردين الأكراد.
وبعد استبعاد أوغلو من السلطة، كثّف أردوغان هجومه ضد أوروبا، ما ألقى بشكوك حول بند إعفاء الأتراك من تأشيرات الدخول إلى منطقة شينغن، وهو البند الأبرز في اتفاق أوسع نطاقًا يهدف إلى وقف تدفّق المهاجرين إلى الإتحاد الأوروبي.
إستهول الأوروبيّون العاصفة السياسيّة المفاجئة داخل بيت الحكم التركي، وهم يتساءلون: «هل بدأ ربيع تركيّا؟!»، ويأملون أن «يلتزم أردوغان الصّوم عن ابتزازهم سياسيًّا»، وآخر ما يريدونه هو إنهيار الصفقة التي أبرمت مع داود أوغلو في بروكسيل 16 آذار الماضي، والتي أوقفت تدفق اللاجئين، خصوصًا في وقت حاسم يترقبون فيه إستفتاء بريطانيا المصيري.
ويقف الجميع الآن على ساقٍ واحدة في انتظار يوم 23 حزيران، وما سيسفر عنه الاستفتاء البريطاني للبقاء أو للخروج من النادي الأوروبي. التصريحات الأميركيّة تنصح البريطانييّن بالتصويت لمصلحة البقاء، لأن إضعاف التكتل الأوروبي سيرتدّ أيضًا على حلف «الناتو» المظلّة الدفاعيّة والأمنية التي تجمع تركيا مع الأوروبييّن بقيادة أميركيّة.
ويؤكد ريتشارد ديرلوف، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطانية الخارجيّة (إم آي 6) بأن المقايضة مع تركيا بأثمانها المطروحة تمثّل نهجًا «أحمق». وقد ركّز خصوصًا على منح إتفاقية تحرير التأشيرة لـ75 مليون تركي مقابل وقف تدفق النازحين مشبهًا، ذلك «بتخزين البنزين بجانب النار التي نحاول إطفاءها».
وينتهي إلى القول: «نعلم جيدًا بأن تركيا المريضة بعد الحرب العالمية الأولى، فتحت شهيّة سايكس - بيكو على تقسيم الهلال الخصيب إلى مناطق نفوذ. بعد مرور مئة عام على تلك الاتفاقيّة، أي شهية سوف يفتحها ربيع تركيا للثنائي كيري - لافروف؟ وأي سايكس - بيكو أميركي - روسي جديد للهلال الخصيب؟!...».