متاحف في بلادي

متحف السراي الحمادي في بعقلين جزء من تاريخ لبنان العريق
إعداد: جان دارك أبي ياغي

عندما تدخل قصر «آل حماده» المعروف باسم «السراي الحمادي» في بلدة بعقلين الشوفية، المركز الأول للإمارة المعنية، تكون في حضرة التاريخ والحضارة. فبين جدرانه يتعانق الماضي بالحاضر ليرسم تاريخ الأجداد. وفيه تلتقي شخصيات كان لها دور كبير في تاريخ لبنان، كالأمير فخر الدين المعني الثاني، وسلطان باشا الأطرش، والشيخ بشير جنبلاط، والأمير أمين أرسلان، والأمير شكيب أرسلان، وهؤلاء يتصدّرون جدران القصر في مجموعة لوحات زيتية وقّعها طلعت حماده سليل السراي.
مجلة «الجيش» زارت القصر- المتحف، وجالت في أجنحته التراثية، وتوقّفت عند البطولات التي سطّرها رجالاته ودُوّنت في سجل التاريخ تخليدًا لدورهم الرائد على مختلف الصعد.


عند الوصول، كان بانتظارنا المؤرّخ طلعت حماده الذي اهتمّ بتاريخ عائلته، وأعدّ عنها كتابًا ضمّنه صور الأجداد ووثائقهم وما إلى ذلك من المعلومات التاريخية.
وهو يقول في هذا الصدد: «مسؤولية كبيرة أن تولد في بيت تاريخي، لأنّ المحافظة عليه واجب، كونه لا يجسّد تاريخ العائلة فقط بل إنّه جزء من تاريخ لبنان».

 

إنّه تاريخ
تكتشف عند بوابة السراي الحمادي، أنّ المكان أعمق من عمران أو بنيان، وأهميته تعود إلى العلاقات الوطيدة التي كانت تربط الدوحة الحمادية بالأمراء المعنيين، كما هي نتيجة المشورة التي حصلت بين الشيخ علي حماده الأول والأمير أحمد المعني آخر أمراء آل معن إثر عملية انتقال الحكم من الإمارة المعنية إلى الإمارة الشهابية التي أدّى آل حماده فيها الدور الأساسي. وهكذا تمّ توريثهم الأملاك التي كانت تابعة للإمارة المعنية، ومن بينها المسطّح الذي شيّد عليه السراي الحمادي التاريخي من أحجار منازل الأمراء المعنيين التي كانت قائمة في بعقلين وزالت بفعل الزمن والحروب.
يعود تاريخ السراي (القصر- الدار- المتحف) إلى نهاية العهد المعني في بعقلين، وقد باشر في بنائه الشيخ محمد أبو نجم حماده في العام 1592، وصار مأهولًا في العام 1603. وهو يشهد أعمال ترميم وتحسين بصورة مستمرّة لإبقائه تراثًا لبعقلين ومحطًا لأنظار القاصدين ومعلمًا من المعالم التاريخية في منطقة الشوف.

 

البناء العريق
هذا السراي المعروف بدار الشيخ حسين حماده الكبير الحاكم المطلق لبعقلين وضواحيها وإقليم الخروب وجزء من إقليم التفاح في العهد الشهابي، هو كناية عن أبنية مؤلّفة من عدة أجنحة تبدأ بالميدان الخارجي الذي كان يُعتمد لألعاب الفروسية ويشكّل المدخل الأساسي للسراي، وبراح (ساحة كبيرة) لتجمّع الوافدين قبل الدخول إليه وأمامه عدّة أقبية للمواشي، ثم الحوش المقفل المرصوف منذ أيام الأمير فخر الدين المعني الكبير، والذي يضم السلملك (مكان مخصص لإلقاء السلام على الضيوف)، والحرملك (جناح الحريم أو سكن عوائل السراي)، والخدملك (أي جناح المساعدين).
يتميّز القصر ببرجه المرتفع الذي يشرف على شارع البلدة الرئيسي، وبأقبيته الجميلة (ثمانية وثلاثون قبوًا) المتعددة النماذج، فمن العقد المُصالب إلى الأنبوب والأعرج، فضلًا عن النقوش والأبيات الشعرية المحفورة على الأحجار. تحيط بالسراي الحدائق والأشجار، ويتوسطه صحن الدار الداخلي وتزيّنه بحرات المياه المتنوّعة، أما مساحته العامة فتبلغ خمسة آلاف متر مربع. وينتمي في هندسته إلى فنّ العمارة الإسلامية العريقة والتراث العربي والفارسي الشرقي الأصيل.
أدرج السراي الحمادي على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية في لبنان، وصُنّف من بين المعالم التاريخية الجديرة بالتنويه، منذ العام 1970.

 

«الأحدب» وأسلحة أخرى
في جناح خاص، نعاين الأسلحة العربية والبدائية القديمة الموروثة من الأجداد والتي كان يستعملها رجالات آل حماده، ولكل نموذج منها اسمه وتاريخه. على رأس هذه المجموعة السيف العربي المعروف بالأحدب، وهو شيخ سلالة الأسلحة. في الجناح نفسه مجموعة الأسلحة الخاصة بأحمد بك حمادة، وأوسمته، ومسدس ابراهيم بك حمادة، وسيوف من القرن السادس عشر، فضلًا عن الطبر الإيراني (نوع من الفؤوس) والخناجر، والطبنجات، والغدّارات، ولباس الخيل، والدبوسيات والرماح والمسدسات النادرة، وأوسمة سلطانية تعود إلى فرسان من آل حماده، وجزء من باب الأمير فخر الدين بعد إزالة منزله في بعقلين.
كما يضم هذا الجناح أيضًا، بعض الأواني التراثية والنحاسية والخشبية والحجرية التي كانوا يستعملونها في الماضي مثل: أواني العجين والخبز، أجران الكبّة، محامص البن، المرفع الذي يحمل المياه، الآلات الموسيقية القديمة (القانون والعود والمهباج والربابة وغيرها)، والسجاد العربي (أول معملين للسجاد والحرير في زمن المتصرّف مظفّر باشا وُجدا في بعقلين).
اللافت في هذا الجناح أنّ العقد غير مرتفع كما في باقي الأجنحة، وهو يشكّل نموذجًا جديدًا من فنّ العمارة.

 

شخصيات في صُوَر
يشكل جناح الصُّوَر القديمة ما يشبه متحفًا مصغرًا لشخصيات مهمة أدّت دورًا في التاريخ اللبناني على مختلف الصعد: السياسية والعسكرية والدينية والثقافية والاجتماعية. من بين هذه الشخصيات الأمير فخر الدين باني الإمارة المعنية، والأمير فخر الدين الثاني الكبير الذي يعتبره الكثيرون أول رجالات الاستقلال، فضلًا عن دوره في بناء الدولة وفي إرساء العلاقات بين لبنان وأوروبا، وهو ابن بعقلين.
إلى جانب صورة الأمير، صورة للشيخ شبلي حماده الشهير الذي قاد معركة بين بلدتَي غريفة وبعقلين ضدّ أحمد باشا الجزار الذي انكسر عسكره على أبواب الشوف.
في مكان آخر، صورة للأمير شويزان التنوخي، وهو أمير عربي اسمه فهد بن سبع، وثمة بقايا لقصره في منطقة مجاورة لبعقلين (مزرعة الشوف التي كانت تعرف بالكحلونية).
يضم الجناح أيضًا صورًا لشخصيات من جبل لبنان أمثال، سلطان باشا الأطرش (المجاهد الكبير الذي قاد الثورة السورية الكبرى في وجه الانتداب الفرنسي)، علي بك حماده (قاد معركة في البحر الأسود عندما نشب نزاع على شبه الجزيرة بين العثمانيين والقيصرية الروسية)، الأمير شكيب أرسلان (أمير البيان وعَلَم من أعلام الأمّة)، الشيخ بشير جنبلاط، الأمير أمين أرسلان، سعيد بك النعمان حماده (أول الساعين لتأسيس الجندرمة اللبنانية-الدرك)، الشيخ علي حماده، الشيخ علي جنبلاط، والأمير أحمد المعني، وغيرهم.

 

الديوان
أما جناح الديوان أو المجلس العربي فهو جناح المخطوطات والوثائق التاريخية والرسائل التي وصلت من الملوك والأمراء والمتصرفين إلى مشايخ آل حماده. وهي كلها ذات أهمية لأنّ لها بُعدًا سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتعود إلى حقبات مختلفة. كما نجد في الجناح وصايا ومستندات وحجج أرض متنوعة.
من بين الوثائق التاريخية وثيقة تعود إلى العام 1614 وهي بخط الأمير فخر الدين المعني الثاني وممهورة بتوقيعه وختمه، يُخبر فيها العشائر التابعة له عن تكريمه في توسكانا (فلورنس اليوم، وهي على توأمة مع بلدة بعقلين).
ثمة وثيقة أخرى مذيّلة بتوقيع الأمير بشير الثاني الكبير تعود إلى العام 1246 هجري، ويجيز فيها الأمير لآل حماده الإقطاع وحكم بعقلين وضواحيها، وإقليم التفاح وإقليم الخروب و«السماء فوقهم»، كما جاء في نص الوثيقة.
في ختام الجولة، يخبرنا المؤرّخ طلعت حماده أنّ السراي سوف يتحوّل في المستقبل إلى مركز ثقافي للأبحاث التاريخية والدراسات الهندسية إلى جانب كونه متحفًا.