بين الأمس واليوم

محطتا رياق وطرابلس وصلتا لبنان بالعالم العربي وأوروبا
إعداد: د. ألكسندر أبي يونس


هل من أمل بإعادة إحياء سكك الحديد؟
توقّف القطار في لبنان. لم يعد هناك من أحدٍ يفوته القطار. توقّف القطار، ولكنّ آثاره ما زالت محفورة في صفحات الطرقات والأرض: قطع من حديد في صفين متوازيين، ممدودين مغروزين في طرقات الإسفلت، تقول هاهنا كانت تلتقي وسيلتا النقل البريتان: القطار، ذو العجلات من حديد، والسيارات على أنواعها وأحجامها من ذوات العجلات المطاطية. توقّف القطار، ولكنّ آثاره ما زالت في بقايا بيوت وأبنية، كانت محطات انتظار تقوم على جانبي خط القطار. من على اليمين ينزل القادمون من عمل أو من سفر طويل، ومن على اليسار يقف الذين توافدوا باكرًا إلى المحطة كي لا يفوتهم ويذهب في رحلته.

 

أول ضحايا الحرب
كان القطار الضحية الأولى للحرب اللبنانية في باب النقل. توقّف في لبنان بالكامل، مع أنه من وسائل المواصلات المهمة على الصعيد السياحي والتجاري والثقافي، ويشكل أحد معالم البلد الحضارية، وله أهمية اقتصادية كبرى. فهو موجود في معظم بلدان العالم، المتطورة والمتخلفة.
أما لبنان، فكان لديه قطاراتٍ منذ نهايات عهد السلطنة العثمانية، أي أواخر القرن التاسع عشر 1895. من ثمّ تطورت وازدادت الخطوط الداخلية وأنواع القطارات خلال عهد الانتداب الفرنسي (1920-1943). بعدها انتقلت إدارة مصلحة سكك الحديد إلى السلطات الوطنية، وأمّمت العام 1961. لكن في مرحلة ما بين 1945 و1975، عرف هذا القطاع مشاكل عديدة وسوء إدارة، حتى توقّف العمل به جزئيًا خلال الحرب في لبنان (1975-1990)، وكليًا بعدها العام 1994!
ما هو تاريخ القطار في لبنان؟ ولماذا استبدلت السكك الحديد بالباصات الكبيرة في النقل المشترك؟ ولماذا توقف العمل بالقطار بعد الحرب اللبنانية؟ وما هو الحل لإعادة تسييره؟ أليس منطقيًا إعادة العمل به بعد الحرب وليس إيقافه!
 

نبذة تاريخية
عرفت المدن اللبنانية منذ أواخر القرن التاسع عشر القطار الحديد، وبخاصة بيروت التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية مباشرةً وذلك مع خط بيروت-دمشق الذي دشّن رسميًا العام 1895. هذا الخط سيّرته الشركة الفرنسية للسكك الحديد، والشركة العثمانية الإقتصادية. والعام نفسه، تمّ تدشين محطة رياق في البقاع اللبناني حيث تمّ إنشاء مصنع لقطع الغيار تحت اسم «رياق لبنان» واستطاع العمال اللبنانيون في ما بعد تحويل القطارات من الفحم إلى البترول. ومع هذه المحطة أصبحت رياق تصل لبنان بالعالم العربي وبأوروبا.
هذه الإنجازات همّشت نسبيًا الطرق التجارية التي تعبر طرابلس مما دفع بعائلاتها الميسورة إلى إنشاء محطة للقطارات من أموالها الخاصة في ميناء طرابلس العام 1911، إسهامًا منها بتفعيل الحركة الاقتصادية والتجارية للمدينة، وتأمين فرص عمل لمئات الشباب. اعتبرت هذه المحطة في ما بعد واحدة من محطات «خط الشرق السريع» الذي ربطها بحمص وحلب واسطنبول وصولًا الى باريس. لم يتم وصل محطتي بيروت وطرابلس زمن العهد العثماني، لأن الساحل بينهما كان تابعًا لمتصرفية جبل لبنان ذي النظام الخاص.
العام 1920، ومع إعلان دولة لبنان الكبير، طوّرت السلطات الفرنسية خطوط سكك الحديد، وانشأت الترامواي الكهربائي في بيروت وضواحيها، وربطت محطتي بيروت وطرابلس العام 1941 لضروراتٍ عسكرية، فأصبح للبنان خطوط داخلية أساسية تربط ساحله ببقاعه، وفي الوقت ذاته تتصل بمحطاتٍ إقليمية ودولية مثل سوريا فتركيا فأوروبا، وبفلسطين فدول الخليج فالعراق فإيران.
                        
 

مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك
حاولت السلطات اللبنانية في عهود الاستقلال الأولى تطوير شبكة المواصلات الحديد بخاصة في عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب (1958-1964) الذي أنشأ مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك لبيروت وضواحيها، وعهد إليها إدارة واستثمار ثلاث خطوط حديد واستثمارها:
- خط عريض يمتد من الناقورة إلى طرابلس فالحدود اللبنانية - السورية، طوله 233 كلم تقريبًا.
- خط جبلي ضيّق بين بيروت ورياق والحدود السورية، طوله 82 كلم تقريبًا.
- خط عريض من رياق إلى القصير، طوله 91 كلم تقريبًا.
لبنان ليس بحاجة إلى أكثر من تلك الخطوط، لكن بعد العام 1975، وفي الوقت الذي كانت فيه خطوط السكك الحديد تشهد تطورًا بارزًا في العالم -إن كان بمرور القطار في الأنفاق أو تحت المياه- كان القطار في لبنان يلفظ انفاسه الأخيرة بسبب الحرب اللبنانية، وما شهدته من تعدياتٍ على أملاك مصلحة سكك الحديد وما تزال.

 

القطار بين الحرب والسلم
جرت عدة محاولاتٍ بعد انتهاء الحرب لإعادة دوران عجلة القطار ومروره في مختلف المناطق اللبنانية تعبيرًا عن إعادة توحيد البلد. لكن للأسف، فإن آخر رحلة للقطار في لبنان جرت بين بيروت وشكا العام 1994، وبعدها اندثرت إحدى المعالم الحيوية الإنسانية في هذا البلد. فللقطار أهمية حضارية وثقافية واقتصادية وتجارية. وقد يكون لبنان من البلدان القليلة جدًا في العالم، التي فقدت فعليًا خدمات هذا القطاع المهم. هذا، بغض النظر عن استمرار موظفيه في ملاك الدولة يحصّلون أجورهم من دون عمل، أو بالأحرى من دون أن نحمّلهم أيّ مسؤولية، لأن الدولة هي التي أوقفت العمل بالقطار، فعندما تعيد تسييره يعملون.
وقد تشكّلت عدة جمعياتٍ في لبنان بين 1995 و2013 من أجل حثّ الدولة على إعادة القطار. كما نُظّمت معارض صورية عن ابنية المحطات الأثرية وانواع القطارات التي كان يملكها لبنان، وطالب البعض الدولة بجعل تلك المحطات أماكن أثرية وإدراجها كمواقع سياحية في لبنان، بخاصة تلك التي في رياق وطرابلس وبيروت.

 

أزمة السير والحل المقترح
من غير المفهوم أن نرى لبنان اليوم يعاني أزمة سيرٍ خانقة لعدّة أسباب، أبرزها التطور الديموغرافي المتعدد الأشكال، وتوقّف القطار عن العمل. وعلى الرغم من أن الدولة قد طوّرت نوعًا ما البنى التحتية، ولم يعد باستطاعتها توسيع الطرقات أكثر، من الطبيعي ان نرى ازدحامًا للسير في ظل غياب القطارات؛ فها هي باريس، يعيش فيها حوالى 10 ملايين إنسان ولا يوجد فيها ازدحام للسير، مع انتظام انواع المواصلات.
الدولة مشكورة لأنها تسعى إلى وضع الخطط والدراسات من أجل إعادة تنظيم الخطوط الحديد وتطويرها واستعمالها لنقل الركاب والبضائع، ولربط المناطق اللبنانية ببعضها البعض، ولربط لبنان مع الدول الإقليمية والعالمية. لكن إذا لم يكن باستطاعتها تلزيم هذا المشروع لشركاتٍ اجنبية لأسباب مالية، أو أن تقوم هي بنفسها بهذه المهمة من خلال مصلحة سكك الحديد، فلماذا لا يتم تلزيمها إلى الجيش اللبناني؟ نعم، فالجيش لطالما أدى أدوارًا اجتماعية وثقافية وتنموية مهمة، إلى جانب مهمته الأساسية وهي الدفاع عن الوطن وحفظ الأمن. الجيش اللبناني لديه مديرياتٍ مختلفة توازي بمهماتها وعملها وزارات الدولة، فهو يمكنه من خلال أفواج الهندسة والأشغال والنقل التزام مشروع تأهيل السكك الحديد وتشغيلها، وتسيير القطار من جديد، بخاصة أن الخطوط موجودة ولا يلزمنا منها سوى اثنين إضافيين لمعالجة مشكلة السير كلها في لبنان، وهما الخط الساحلي من صور إلى طرابلس، وخط جبلي من بيروت إلى رياق.
نعم، فليتمّ تلزيم الجيش هذا المشروع، كونه مؤسسة وطنية كبرى منضبطة وتطبّق القانون وتحوز ثقة المواطنين اللبنانيين.
قد يعتبر البعض هذا الإقتراح غريبًا، لكنّ الجيش اللبناني منذ تأسيسه رسميًا العام 1945، عمل على إنماء المناطق اللبنانية بشكلٍ متوازٍ؛ فشقّ الطرق، ومدّ كابلات الهواتف، وحفر الأراضي لزراعتها، ووزّع مياه الشفة، وعمل على التحريج والتشجير، ولقّح ضد الأمراض السارية، وقام بعملياتٍ إسعاف وإغاثة في الأزمات كالفيضانات والسيول والثلوج والزلازل، وكافح الجراد، وأخمد الحرائق، وبنى ورمّم الجسور...
نعم، فليرمّم الجيش اللبناني السكك الحديد، لأنّه بإعادة القطار إلى العمل، نكون قد عالجنا أزمة السير اليومية التي تسبب أزمة نفسية واجتماعية للمواطن اللبناني. فتسيير القطار يخفف من التوتر لدى الشعب، ومن  النفقات عليه بعد العبء الذي سبّبه ارتفاع سعر النفط، كما يتم تأمين مئات الوظائف للمواطنين اللبنانيين العاطلين عن العمل. عندها يمكننا القول إننا نعيش في بلدٍ حضاري، لأننا أعدنا العمل بالقطار الذي أنشئ في عاصمتنا منذ أواخر القرن التاسع عشر.