أبحاث ودراسات

مدخل الى التاريخ العسكري
إعداد: العقيد احمد علو

● "إن الحرب تبلغ من الجدية مبلغاً لا يجوز معه أن تترك للعسكريين وحدهم" (كليمنصو) .

● "إن السياسة مهمة أكثر جدية من أن تترك للسياسيين وحدهم" (الجنرال ديغول)

● "إن التوفيق بين الفكرتين هو بإعطاء ثقافة سياسية للضباط وعدم ترك رجال السياسة جاهلين بمعطيات الاستراتيجيا وتطبيقات الفن العسكري(1)

 

قراءة التاريخ العسكري تسمح للقادة تجنّب الوقوع في تكرار اخطاء الماضي
 بين التأريخ والتاريخ
 قد يكون هناك التباس من حيث المعنى بين كلمة "تأريخ" وكلمة "تاريخ". "التأريخ" يعني تسجيل الحدث أو الواقعة وتحديد هذا التسجيل في الزمان والمكان. والتأريخ لغة، من الفعل "أرّخ، يؤرخ"، أي عيّن الزمان الذي وقع فيه الحدث. عرف التأريخ في اليونانية بأنه: تسجيل للأخبار Logographi) )، وقد نشأ في اليونان علم هو: "علم تدوين التاريخHistorigraphi) )، أما كلمة "Historia" اللاتينية فقد ظهرت في مرحلة شهدت ارتقاء وتقدماً في الكتابة التاريخية. ويعتبر الباحثون الغربيون أن "هيرودوتس"
 (485 -425ق. م.) المؤرخ اليوناني والذي عرف بأبي التاريخ، هو أول من أطلق تسمية التاريخ على عملية التحري، والكشف عن أحداث الماضي، وتسجيلها، أو تدوينها لحفظها من الاندثار والضياع، وذلك خلال رحلاته الشهيرة الى المجتمعات التي زارها في عصره. أما "التاريخ" فهو "رصد لحركة الإنسان والأرض"، ودراسة عميقة للفعل الإنساني، وما يتركه هذا الفعل من نشوء، وتطوّر الاجتماع البشري بكل تشكلاته البنيوية، ومظاهره. التاريخ يرصد الحراك الإنساني على سطح هذا الكوكب (الأرض) محاولاً الكشف عن القوانين السببية الدافعة لنشوء الظاهرة، أو مجموعة الظواهر الاجتماعية، وبالتالي يراقب الصيرورة الإجتماعية(2) .
والتاريخ بهذا المعنى علم شمولي تتلاقى معه، وتتداخل علوم الاجتماع والاقتصاد، والسياسة، والفلسفة، والآثار، والجغرافيا، والحرب، وخصوصاً أحد فروعه: أي التاريخ العسكري.
 ويرى ابن خلدون في مقدمته أن التاريخ ليس سوى التاريخ من الظاهر، اذ يوجد لهذا التاريخ باطن غير منظور. واعتبر أن فن التاريخ هو "من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال... في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول... في باطنه نظر وتحقيق وتحليل دقيق للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها"(3) .
 لقد تطوّر فن التاريخ من حيث هو علم له قوانينه، ونظرياته العلمية فشهد انتقالاً من النزعة التذكرية الى الجهد الاستقرائي العلمي، من التوهّم والتخيّل الى التحقيق والتدقيق، من رواية الأخبار الى نقدها والتثبت منها، من التغني والتأسي الى طلب الحقيقة كما هي. اذاً التأريخ يحاول أن يربط بين الوقائع التي حدثت في الزمان، والمكان، ويكشف قوانين نشوئها، والمسار الذي عرفته حركتها، بوصفها معبرة عن فعل، أو نشاط إنساني تم في الماضي، وهو على علاقة مع الحاضر، وكذلك مع المستقبل، وهذا ما يسمى "المسار التاريخي".

 

التاريخ العسكري وأهميته
التاريخ العسكري واحد من فروع، وأحد موضوعات التاريخ العام، إلا أنه يمتاز بالكثير من التفرد والخصوصية التي تجعله يتميز بمقومات وأبعاد ضرورية ليستقل علمياً عن التاريخ العام، إنما من دون الإنفصال عنه أو التناقض معه. وإن كان التاريخ قلماً وصحيفة في الحياة البشرية، فالتاريخ العسكري هو السيف الذي يشحذ ذلك القلم ويرسم له طريق الحقيقة، هذا السيف الذي اعتبره الجنرال ديغول في كتابه (الجيش المحترف) بقوله: "السيف هو محور العالم والعظمة لا تتجزأ". ونتساءل: هل من أمة حققت مجداً من دون تاريخ عسكري حافل بالانتصارات والبطولات؟ رغم أن التاريخ العسكري ليس أكثر من فرع من فروع التاريخ العام، إلا أنه بحد ذاته كيان واسع الأفاق، وقد يكون أكثر أهمية من فروع التاريخ والعلوم الأخرى، إنه سجل الصراع البشري الغارق بالدماء، حتى أن البعض يرى أنه هو التاريخ نفسه، طالما أن الحرب تشكل المساحة الأكبر في حياة البشر وتاريخهم... وما دام السلام لا يشكل إلا محطات أو هدنات قصيرة، لالتقاط الأنفاس والاستعداد لحروب جديدة. وخلال هذه الفترة علينا التعلّم والاستفادة من دروس هذه الحروب: يقول القائد الألماني الكبير فون مولتكه وهو أول من اهتم بتدريس التاريخ العسكري في مدارس الأركان في التاريخ الحديث (مطلع القرن التاسع عشر) : "يجب علينا ونحن نستعد لحرب، استخلاص أفضل الدروس من تجاربنا الخاصة، ولكن يجب علينا أيضاً، وباستمرار أن نستفيد من تجارب الآخرين كي لا يقف في أفق محدود". لذلك فإن التعلم من الحرب ومن تجاربها يتطلب توافر استعداد فكري من جانب المتعلم، وهذا يعتمد على فكر متطوّر قادر على استيعاب وتحليل المواقف المختلفة وايجاد الحلول الناجعة لها! مثلاً: كتاب أرسله أحد جنرالات نابليون للأمبراطور يعتب عليه، لأنه لم يحظ بترقيته أسوة بزملائه، خصوصاً وأن بعض هؤلاء أحدث منه وهو أقدم منهم في خدمته، قائلاً إنه قطع معه جبال الألب مرتين بينما الآخرون لا.. فكان رد الأمبراطور مبرراً رفضه: "ان حصانه أيضاً اجتاز معه جبال الألب عدة مرات" (إشارة الى أن هذا الجنرال لم يطوّر نفسه) .

 

 لماذا التاريخ العسكري؟
 إن الثقافة العسكرية، المستقاة في معظمها من أحداث التاريخ العسكري وفن الحرب وسيرة تجارب القادة العظام، هي التي تمنح القائد عمقاً واتساعاً فكرياً وقدرة على الرؤية الشاملة واللمحة الخاطفة أو التفوّق والفهم الاستراتيجي. إن المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة، فبدونها تذهب المعرفة هباءً... وليس بين عظماء القادة رجل واحد لم يغرف من نتائج الفكر البشري، ففي صميم انتصار الاسكندر نجد دائماً شيئاً من "أرسطو" كما يقول الجنرال ديغول.
 أما الجنرال هنري جوميني (1779-1869 )الذي شرح معارك نابليون فيقول: "إن التاريخ العسكري والملاحظة لنقاده هما المدرسة الحقيقية للحرب".
 أما الماريشال الروسي سوفاروف:( 1729-1800) فقد حدد العلاقة بين القيادة والمعرفة بدقة بقوله: "إن فن الحرب من دون تاريخ عسكري، مجرد متاهات". أما نابليون فيرى: "ان معرفة الأجزاء الأساسية من الحرب لا تكتسب إلا بالتجربة، وبدراسة تاريخ الحروب ومعارك كبار القادة، وإن في إعادة قراءة معاركهم والحذو حذوهم، الوسيلة الوحيدة لتغدو قائداً عظيماً".
 كان الماريشال الفرنسي فوش من رواد التعلّم من التجربة التاريخية وقد سئل ذات يوم: "عندما تكون في ساعة من الساعات التي يتوجب عليك فيها أن تتدخل؛ هل يساعدك شيء من هذه الدراسات العميقة في التاريخ على حل المعضلات؟"، فأجاب فوش على الفور: "أبداً! إلا أن هذه الدراسات تعطيني الثقة في اتخاذ القرار".
الحقيقة أن التجربة التاريخية تعطي أكثر من الثقة، فالخطط الحربية التي وصلت الى درجة عالية من التعقيد والتطوّر ليست بمعظمها إلا تطويراً للمناورات القديمة، بأساليب وتقنيات وأسلحة جديدة. يقول كلاوزويتز: "إن الحرب هي متابعة السياسة بوسائل أخرى، ويترجم هذا التعريف على الصعيد العسكري بسياسة الحرب، ووضع الوسائل المادية الضرورية لهذه السياسة تحت تصرف القيادة". وتستند تنشئة الضباط على قاعدتين أساسيتين: الأولى معنوية والثانية تقنية. إلا أن المادة الوحيدة التي كان لها الدور الرئيسي خلال العصور في نقل السمعة المعنوية والمحافظة على تفكير مشترك في التطوّر التقني هي التاريخ العسكري، لأنه يؤهل التفكير العسكري ليتكيف مع قساوة الأنظمة العسكرية والفنون المختلفة. تسمـح دراسة التاريخ العسكري بأن نتفهم أن "فن الحرب بسيط، لكنه تنفـيذ كلي"، كما يقول نابليون. هو بسيط لأنه يخضع لبعض المبادئ والقـواعد الثابتة، وهو تنفيذ كلي بسبب عدم معرفة حالة العـدو وقوتـه، ونوايـاه، بوضوح قبل المعركة، فالفعل وردات الفعل تتابع خلال المعـركة، ممـا يفـرض قرارات سريعة وروح المبادرة. كما يسمح التاريخ العسكري بمراقبة تطوّر الظاهرات العسكرية وتأثير هذا التطور على التسليح والعتاد والتعرف على التنظيم العسكري والأساليب التكتية والاستراتيجية عبر الزمن، مما يؤهلنا لمعرفة أو ادراك معارك الغد وكيفية تشكلها. يقول ماك آرثر: "لنكـشف المستقبل، علـينا أن نبـحث في الماضـي، ليس لنخـتلي به، بل لنحـضر لحـرب حديثـة، وإيجـاد العـلاج المناسـب لخطأ تم اكتشافه". إن مبادئ الفن العسكري لم تتبدل عبر القرون، بل حكمت أغلب المعارك من "كان" الى ستالينغراد حتى الى الحروب الحديثة. لقد تطورت الوسائل التقنية وأساليب استعمال العتاد مع التقدم التقني والحضاري ولكن القواعد بقيت تؤثر على سير الحروب. إن قراءة التاريخ العسكري تسمح للقادة تجنب الوقوع في تكرار أخطاء الماضي، أخطاء وقع فيها بشر في أزمنة وأمكنة مختلفة، ويمكن أن يتكرر الوقوع فيها إذا جهلناها، لذلك فالإنسان المتبصر يتعلم من غيره قبل نفسه ويستخلص الدروس والعبر التي تجنبه شر المستقبل، ولعل في هذه العبرة تكمن أهمية التاريخ العام والعسكري.

1-  الوجيز في فن الحرب: الجنرال كارل فون كلاوزفيتز ¬ ترجمة اكرم ديري والمقدم الهيثم الأيوبي ¬ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ¬ بيروت 1988 ص 62.
2-  الصيرورة: هي تعبير لوصف مجموعة من الظواهر المتحركة، وهذه الحركة تتم في الزمان من دون أن ينتج عنها بالضرورة تقدم نحو الأمام.
3-  مقدمــة ابن خلــدون : مكتبـة الهلال ¬ الطبعة الرابعــة ¬ بيروت 1978 - ص 6.

 

 محطات وآراء  المؤسسات الوطنية ودورها في المواطنية
 لعل أبرز سؤال يمكن أن يوجه الى اللبنانيين، هو كيف نتعلم مما جرى لبلدنا إبان الأزمة الأهلية وما نتج عنها من كوارث وويلات، ونتجنب حصول مثلها في المستقبل، لننعم بوطن آمن تعيش فيه كافة شرائح الشعب اللبناني وفئاته وطوائفه، وتتعاون لتبني المستقبل؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال ينبغي ألا نختبئ وراء الشعارات والكلمات العمومية، بل لا بد من الغوص في أعماق ما حصل في الماضي، لنؤكد أن السبب الرئيسي للأزمة الأهلية اللبنانية كان في غياب الانتماء الوطني الجامع لصالح انتماءات حزبية أو طائفية، ولذلك لم يستطع اللبنانيون بناء وطنهم وفقاً لأسس سليمة وقوية، فانهار المجتمع والدولة عند أول هزة حقيقية ضربت البلاد. من هـنا القول إن أول مدماك في بناء الوطن، يجب أن يكون بناء المواطنية الصالحة المؤمنة بالعيش المشترك والوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، وازالة الشعور الطائفي والحزبي والمناطقي والعائلي لصالح الشعور الوطني الذي يرتكز على المناقبية والمفاضلة على أساس خدمة الوطن والمواطنين، لا خدمة هذا أو ذاك من الزعماء. ولا يمكن الوصول لهذه الغاية النبيلة إلا من خلال مؤسسات الدولة وفي طليعتها الجيش اللبناني الذي هو مدرسة للانصهار الوطني ولتربية الأجيال الصاعدة. لا يجوز بعد اليوم سوى الجهر بهذه الحقيقة لأن اخفاءها هو مشاركة في جريمة نحر الوطن. فمؤسسات الدولة وقواها الأمنية بالتعاون والتعاضد مع منظمات المجتمع المدني على اختلاف أنواعها وأعمالها، يمكن أن تبني مجتمعاً لبنانياً سليماً يمنع تكرار الأحداث بل إنه يمنع أيضاً تشكل عناصرها الأساسية، ناهيك عن ضرورة حصول تطور اقتصادي واجتماعي حقيقي يرخي ظله الإيجابي على الأحوال المعيشية للمواطنين فتتكامل الدورة الوطنية مع الدورة الاقتصادية، لتبني مواطناً صالحاً وشعباً سعيداً، يؤمن أن لبنان له ولأبنائه من بعده، فيعود المهاجر والمغترب الى رحاب الوطن ويعم الأمن والسلام. ومن دون هذه الخطوات عبثاً نفتش عن الوطن في السياسات الدولية والإقليمية، لأن من يفتش عن وطن يجب أن يبدأ بنفسه وداخل بيته.


محمد العاصي