ضيف العدد

معاناة الشاعر مصدر الإبداع
إعداد: د.خريستو نجم

من يتوغّل في نتاج الشعراء المشهورين، يكتشف أن المعاناة مصدر الإبداع. صحيح أن العذاب يُتعب الفنان، ولكنه وحي النتائج التي خلّدت صاحبها في عالم الخلق والتأليف. ذلك أن التعبير عن المشاعر وليد تفريغ الشحنة العاطفية ذات الطبيعة المؤلمة. من هنا اشتهار قيس وليلى، جميل وبُثينة، روميو وجولييت، إضافة الى كوارث شمشون ودليلة، وأنطونيو وكليوبترا، و"آلام فرتو"في كتاب غوته (Goethe)

"أزهار الشرّ" عند بودلير الذي عانى ما عاناه من مدام ساباتييه (Mme Sabatier))

التي ربطتها علاقة عاطفية مضطربة. وهذا التفريغ قد يؤدي الى الشفاء، لأنه يُنقذ المريض من ضغط الانفعال، وما يعانيه من الأوجاع.

 

● الحب العذري وجدان الشرق:

في هـذا التحليل نتبيّن أهمية الحب العذري في الأدب العربي، وهي أهمية سببها معاناة قيس بن الملوّح في التنفيس عن مآسيه، إزاء عُزلته أو بُعده عن الحبيبة. ولأن من صفاتنا الشرقية التعمّق في الوجدان، شاعـت قصائدنا في الحب والغرام ساطـعة في العـالم. لا نُنكر أن الرومنسية اشتهرت في الغرب الأوروبي، ولكن هذه الشهرة المنهجية في بلاد الغرب لا تعني التفوّق على قصائدنا العاطفية التي ظهرت منذ القديم، ولا تزال بارزة في أمسياتنا الشعرية أكثر من محاضرات سوانا. والدليل أن شعرنا الشرقي أثّر في بلاد الغرب يوم كنا في العصر الأندلسي. ونتيجة هذا التأثير ظهر في بلاد الغرب حينذاك شعر التروبادور (Troubadour) )

وقد فسّر بعـض الباحثين هذا التيار بقولهم: "إن كلمة Troubadour جذورها من الكلمة العربية "الطرب". ذلك أن لغتنا لها صفـة إيقاعية تجـعل القصيدة نغماً غنائياً، وهـي من صفاتنا المتفوّقة، بدل التعابير الأجنبية. ولعلّه من أجل ذلك أصدر أبو الفرج الأصبهاني كتابه الشهير بعنوان: "الأغاني".

لا شك في أن تاريخنا المعاصر تراجع أحياناً عن العظمة التراثية بدليل التخلي عند بعض الشعراء العرب، عن العروض والقوافي، واختيار الغموض في الكتابة. كل ذلك من أجل تقليد العالم الأجنبي. بيد أن هذا التجديد أفقد الناس اهتمامهم بالشعر الحديث، مع أن الكثيرين لا يزالون يرددون شعر نزار قباني، لأنه حافظ على إيقاع أبياته ومعانيه التي يفهمها المستمع ويطرب بها.

لا نُنكر أن شعر التفعيلة في الأدب الحديث يتّصف بالروعة والجمال. ذلك أن التفعيلة تحافظ على القوافي والنغم الصوتي. لذلك يتجاوب الكثيرون مع هذا الإتجاه بخلاف القصائد النثرية والأشعار الغامضة. إن فقدان الموسيقى أو عدم اكتشاف المضمون لا يُثير عاطفة الإنسان. وهذا ما قاله أيضاً الشاعر الأجنبي بول فرلين (Paul Verlaine) )

"عليك بالموسيقى قبل كل شيء، ثم بالموسيقى أيضاً ودائماً". وأثبت ذلك إدغر ألن بو (Edgar Allan Poe)

قائلاً: "وما الشعر إلا ضرب من الموسيقى".

 

● رنين الشعر العاطفي:

مَن تـوغّل في التحـليل تبـيّن أن ولادة المـرء مرتبطة بهذا النغم الذي ورد في حديث الشاعر شبلي الملاط القائل: "كنت قبل معرفتي العروض، أنظم الشعر على الرنّة". والحق أن هذا الرنين الأثري Archaïque Sonore دليل تأثّر الطفل بالهدهدة التي مرجعها دقّات قلب الأم يوم قامت بتنمية الحس الإيقاعي لدى الجنين. هكذا يغدو الإيقاع الشعري وسيلة الارتياح بتنفيس (Catharsis) المعاناة وتفريغ المآسي.

من هنا الرغبة في الألحان والغناء عند أكثر الشعراء الذين اتجهوا في صغرهم الى النغم، ثم الى التصوير وصولاً الى تأليف القصائد باللغة الأدبية. وسبب ذلك أن الشعر تصوير وتلحين وتعبير. ومعنى ذلك أن الشعر الجميل يتخطى الحديث بعيداً عن الكلمات السردية. فالشّعر لوحات فنية وأبعاد معنوية تتجاوز الواقع الى عالم الحلم والخيال. ويبدو أن أحد المثقفين حين سمعني ألقي أبياتاً من ديواني (من أغاني شهريار) ، عبّر عن هذا الإحساس بالنغم الفني.

مثال ذلك هذه الأبيات:

كأني وشمتك منذ الطفولة   زمان الخيام بظلّ النخيلة

وقبل حكاية قيس وليلى   وهدر الدماء وبطش القبيلة

وقبل التحضر جئتك يوماً   لأرعى بهدبك عشب الخميلة

وشعراً يظلل كل المراعي   فحيث أقمت شممت حقوله

ورحت أمشط خيطاً فخيطاً   تلال العبير وأطوي سهوله

لعلي أموت بإحدى الزوايا

فبعد سمـاعه تلـك العـبارة أخـبرني أنها جاهزة للتلحين. ولا ريب في أن حالتي النفسية من أنصـار هذا الإتجاه. وليـت الكثـيرين يدركون أيضـاً أن عـذاب الشـاعر الدائـم في نتـاجه، لا يؤكد عـدم السعادة في حياته. ذلك أن مرحـلة الفـرح لدى المُبدع تبلغ جزءاً من سيرته، ولكنها مرحلة ليست طويلة من تاريخه. لذلك يُختصر الإبداع في زمن الفرح، بينما يزداد الخلق نتاجاً أيام المصائب والمعاناة، خضوعاً لهيمنة المازوشية (Masochisme) في العالم الفني.

 

● زمن العشق خلود الذاكرة:

 لذا نتمنى على الباحثين أن يدركوا الأبعاد النفسية التي لا تنحصر فقط في شرح المفردات اللغوية. فالمطلوب تحليل نفسي وليس شرحاً لغوياً كما هو شائع لدى الكثيرين. والمطلوب أيضاً التوغّل في التحليل لتبيان ردّة الفعل نتيجة الألم الذي فيه جذور الحب، وليس دلالة الكراهية. والمؤسف أن بعض الكتّاب وصفوا شاعرية الياس أبي شبكة بعدوانيته للمرأة في ديوانه "أفاعي الفردوس"، وهو ديوان عاطفي يوحي بمعاناة الهوى والمحبة عن طريق التحليل النفسي. كل ذلك من خلال الغبن المفروض، والإجترار الاكتئابي في الإحباط اللاّواعي، والتجاذب الوجداني الذي يتحوّل فيه الحب الى حقد، أو يتحوّل فيه النفور الى حب.

واضـح أن عذاب المشاعر يُغني عملية الخـلق والإبداع، ويُخلّد الماضي الذي عاناه الشـاعر زمـناً طـويلاً. وهي معاناة وجدانية فيها تراث من الذات الواعية وغير الواعية. والطريف أن رحيل الأيام والسنين يظلّ حاضراً في نظر الفنان المبدع. هكذا تحيي الذاكرة زمنها الراحل، وتجعل الأثر الفني حياة خالدة. ومعنى ذلك أن شخصية الفنان قريبة من فلسفة زينـون الإيلي، صاحب نظـرية الزمـن الجامد بلا حركة، والمختلف عن هرقليـطس المؤمن بدوران الشمـس والقمر، وتعاقب الليل والنـهار كما في قولـه: "نحـن لا ننزل النهر مرتين". والدليل هذه الأبيات الواردة في ديواني الأول (قصائد حب) ،حيث أبدي التوافق مع زينون:

اهبط النهر ولا يجتازني   من يظن الماء يجري في الحفر؟

ان رمحاً ثابتاً في اضلعي   ثبّت الأجواء فيها واستقر

هكذا التاريخ عندي وقفة  سمرت في القلب هاتيك الصور