مفاهيم ومصطلحات

مفهوم النصر في السياسة والحرب
إعداد: المقدم الركن ظافر مراد

«تبلغ الحرب من الجدية مبلغًا لا يجوز معه أن تترك للعسكريين وحدهم».
(كليمنصو)
«إنّ السياسة مهمة أكثر جدية من أن تترك للسياسيين وحدهم».
(الجنرال ديغول)

 

يتعلّم القادة في المجالين السياسي والعسكري، من دروس التاريخ الباهظة الثمن، ويفترض بهؤلاء قراءة التاريخ قراءةً شاملة تحيط بأدق التفاصيل، ومتابعة الأحداث ومحاولة تحليلها وفهمها من منظور المصلحة العليا للدولة. وكونهم قادة، سواء وصلوا إلى هذا المستوى عن طريق الكفاءة وتحقيق الإنجازات، أم عن طريق الصدفة والحظ، فإنّ موقعهم يفرض عليهم أن يكونوا على قدرٍ وافٍ من المعرفة والعلم والثقافة (أقله في مجال عملهم ومسرح قرارهم). كما يفترض أن يمتلكوا فهمًا كاملًا للعلاقة بين السياسة والحرب، فالقادة يديرون مؤسسات مرتبطة بمصير مجموعة كبيرة من البشر ومؤثرة في مستقبلهم.


الحرب بالواسطة
برع بعض النافذين على المسرح الدولي بإدارة الأحداث وخلق الظروف المناسبة التي تتلاءم مع أهوائهم وتحقّق مصالحهم، أو أقلّه تقوّض مصالح الآخرين. وهم توصّلوا إلى ذلك بفضل مهارتهم في استخدام أدوات القوة على المستوى الدولي وتطويعها، واختيارهم المكان والزمان المناسبين لتفعيل إحدى هذه الأدوات وتحقيق مآربهم. هؤلاء القادة سبقوا آخرين بأشواط في مجال إدراك المفهوم الجديد للنصر، وكيفية الوصول إلى الأهداف النهائية وتحقيق المصالح العليا. فقد أدركوا في الوقت المناسب تراجع فعالية التدخّل العسكري المباشر على مسرح الأحداث، بعد أن كان هذا التدخل الوسيلة الأكثر فعالية والأسرع تحقيقًا للأهداف المرتجاة، وبعد أن كان أهم أداة من أدوات القوة الوطنية لتحقيق الإستراتيجية الكبرى للدول. كما أدركوا ايضًا أنّ احتلال الأرض لم يعد مجديًا بقدر السيطرة على العقول، وتقويض الأمن والاستقرار في مجتمع العدو. فمتطلبات الحياة تغيّرت، وأساليب الصراع تبدّلت، وأصبحت أدواتها أشدّ فتكًا وأقلّ كلفة وأكثر نظافة، وظهرت مفاهيم وأشكال جديدة للصراع، مثل الحرب الناعمة والحرب بالواسطة.

 

النصر الحقيقي
لا يشكّل النصر العسكري في معركة أو حرب، نصرًا نهائيًا أو استراتيجيًا وطنيًا. في بعض الدول والمجتمعات تأخذ عبارة النصر مدلولات معنوية أكثر منها مادية، وتحمل بعدًا وجدانيًا وعاطفيًا، مرتبطًا مباشرة بالتضحيات والبطولات وإرادة الصمود، فتتجه بذلك إلى المثالية وتبتعد نوعًا ما عن البعد المادي. وهذا المفهوم يطبّق عادة في الدول التي يغلب على طريقة حياتها وثقافتها الطابع الإيديولوجي، حيث يصبح النصر حاجة معنوية جماهيرية مرتبطة بالعديد من المكوّنات الخاصة بهذه الجماهير، مثل، الدين، التاريخ، طريقة الحياة، النظام الإجتماعي، النظام السياسي، التحالفات الدولية أو التبعية... أمّا في الدول المتقدمة والمتحررة من الإيديولوجيا، فالنصر يكون بتحقيق الأمن والحرية والرفاهية للشعب، أي المصلحة المادية والمكتسبات الملموسة. ومن هنا نرى أنّ لكل بيئة نصرها الخاص المرتبط بمدى الوعي والإدراك لمفهوم النصر الحقيقي.
يتوه كثيرون من القادة وأصحاب القرار في مفهوم النصر الحقيقي، أو أنهم بهدف تحقيق استمرارية السيطرة على الجماهير والتمسك بالسلطة، يخدعونهم بنصر وهمي، ويحرصون على أن يتحوّل هذا النصر إلى حالة وجدانية ترضي عواطف جماهيرهم ونزوات قادتهم. وعادة ما يتم التسويق لهذا النوع من النصر بشكل فوري بعد الحرب أو المواجهة، وعلى الرغم من الغموض الذي قد يشوبها، يتمّ تكريسها كانتصار لا يقبل الشكّ، وهذا ما يفسر عدم الاعتراف بالهزيمة عند الكثير من القادة.

 

كيف نترجم النصر؟
إنّ تأكيد الانتصار على المستوى الاستراتيجي الوطني لا يتمّ خلال وقت قصير، بل ربما يستغرق سنوات. فلطالما كانت الحروب والمعارك تخدم أهدافًا سياسية، إقتصادية أو إيديولوجية على الرغم من تبريرها بحجج أخرى. ولطالما تحقق النصر العسكري ولكن هزيمة سياسية أو اقتصادية رافقته. ففي عالمنا هذا تغيّر مفهوم النصر، وهناك من يهدف إلى تحقيق نصر معنوي آني التأثير، بينما يهدف آخر إلى نصر سياسي أو اقتصادي بعيد المدى. وهكذا نشاهد منتصرين اثنين في حرب ضروس كلفت كثيرًا، ويضيع مفهوم النصر، وتُخدع الجماهير وتنقاد لأهواء أمراء الحروب وتجّارها ومخادعيها. وكم من قادة ورؤساء هزموا من دون أن يعلموا، بسبب عدم إدراكهم للهدف النهائي للحرب، وكيفية تحقيق المصالح الكبرى والاستراتيجية للدولة، وكيفية ترجمة النصر العسكري واستغلاله في المجالين السياسي والاقتصادي.
على الرغم من أهميّة الانتصار المعنوي وتأكيد القدرة على الصمود، ثمة كثيرون يعتقدون أنّ رفاهية الشعب وأمنه هي أعلى مصلحة في استراتيجيات الدول الكبرى، وكل خسارة في هذا المجال، مهما قابلها من انتصارات في مجــالات أخــرى، تعتبــر هزيمــة نكراء مغلّفــة بعناويــن خادعــة.