متاحف في بلادي

مكتشفات بيروت تروي تاريخها
إعداد: جان دارك أبي ياغي

متحف كاتدرائية القديس جاورجيوس

تحت الكنيسة ست متكئات الواحدة إلى الأخرى

 

يعدّ المتحف الجوفي لكاتدرائية القديس جاورجيوس، وسط بيروت، الأول من نوعه في لبنان والشرق، وهو يمتد على مساحة 316 مترًا مربعًا، ويضم بين ثناياه اكتشافات مهمة وقطعًا أثرية قيّمة وفخاريات من مختلف العصور ورسومًا جدارية، عُثِرَ عليها خلال التنقيبات التي قام بها فريق من خبراء الآثار بإشراف المديرية العامة للآثار في الموقع على مدى سنة ونصف بين العامين 1994 و1995.
كما يختصر المتحف الجوفي الحقبات التاريخية المتتالية التي مرّت بها المدينة، حيث كان لكل حقبة كنيسة تُبنى على أنقاض سابقتها منذ الهلنستية إلى الرومانية والبيزنطية فالقرون الوسطى والعثمانية.


الكاتدرائية عبر التاريخ
تشهد هذه الكاتدرائية التي تعتبر من أقدم الكنائس وأجملها في بيروت على أن المسيحية مترسِّخة في هذه المنطقة منذ بدئها، فالرسول القديس كوارتس ( أحد السبعين رسولاً)، هو مؤسس كرسي بيروت وأسقفها الأول. وتُرَجِّح المصادر التاريخية أن هذه الكاتدرائية قد شُيِّدت على أنقاض كنيسة القيامة البيزنطية التي بُنيت في القرن الخامس للميلاد، على مقربة من مدرسة الحقوق الشهيرة. ويذكر التاريخ أن أساتذة هذه المدرسة وطلابها كانوا يزورون كنيسة القيامة قبل دخولهم المدرسة أو بعد خروجهم منها، قبل أن يدمرها الزلزال الذي أصاب بيروت العام 551.
خلال الحرب الأليمة التي عصفت بلبنان، أصيبت كاتدرائية القديس جاورجيوس إصابات مباشرة وتعرّضت للأذى والسرقة كما أُحرِق معظم أيقوناتها. وبعد انتهاء الحرب، قرر سيادة المتروبوليت الياس عوده، قبل البدء بأعمال الترميم، القيام بحفريات أثرية أظهرت أن الكنيسة الحالية مبنيَّة فوق آثار متراكمة لكنائس ست، من هنا كانت فكرة إنشاء المتحف الجوفي للكاتدرائية الذي إفتتح رسميًا مطلع العام 2011.

 

عصور وحضارات
في مقابلة مع مجلة «الجيش» رأت مديرة المتحف الدكتورة ليلى بدر أنّ «التنقيبات الأثرية التي سبقت مراحل ترميم الكاتدرائّية أتاحت الفرصة للبحث عن التسلسل التاريخي وتواصل الكنائس الواحدة تلو الأخرى، وتحديد موقع كنيسة «أناستاسيس» البيزنطية قرب مدرسة الحقوق الشهيرة. وقد أسفرت عن اكتشافات مهمة من مختلف العصور، وهي: الحقبات الهلنستيّة والرومانيّة والبيزنطية والقرون الوسطى والعثمانيّة».
وقالت: «من أبرز الإكتشافات أن الكاتدرائيّة الحاليّة تقوم على أنقاض 6 كنائس: أولاها كنيسة القيامة البيزنطيّة المعروفة بـ«أناستاسيس» التي دمّرها زلزال العام 551، وفوقها كنيسة من العصور الوسطى (القرنين12- 13) تصدّعت بفعل الهزّة الأرضية العام 1759 فدُمّرت وأعيد بناؤها العام 1764، وكنيسة رابعة وموسَّعة بُنيت على شكل صليب العام 1772. وتُعتبر هذه الأخيرة النواة التي أدخلت عليها التغييرات والاضافات الهندسيّة فكانت الكنيسة الخامسة العام 1783 تلتها الكاتدرائية السادسة والأخيرة  التي نعرفها اليوم العام 1910، وأعيد تأهيلها بعد الحرب في لبنان. فتكون الكاتدرائية الحالية في حالتها السابعة».
واعتبرت بدر أن «أهمية هذه المعالم الأثرية المكتشفة فرضت المحافظة عليها وعرضها ضمن متحف جوفي يعتمد نظام الأقبية (Cryptes) المعروف عالميًا وهو الأول من نوعه في لبنان والشرق». وقد شُكّلت لهذه الغاية لجنة ترميم الكاتدرائية التي يرأسها غسان تويني ولجنة خاصة لإنشاء المتحف برئاسة الدكتورة بدر وعضوية كل من: المهندس نبيل عازار، والدكتورة ياسمين معكرون بو عساف، وكاتيا نعمان صالحة وريتا كالنجيان، وموَّلت المشروع «مؤسسة جاك ونائلة سعادة».

 

المتحف
يضمُّ المتحف المكتشفات الأثرية المنقولة وغير المنقولة التي عُثِر عليها خلال التنقيبات التي قام بها فريق من خبراء الآثار برئاسة مديرة متحف الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة ليلى بدر وبإشراف المديرية العامّة للآثار. واستغرقت هذه الحفريات 17 شهرًا ( بين العامين 1994 و1995) وامتدت على مساحة 316 مترًا مربعًا تمثِّل نحو ربع الكاتدرائية الحالية، وكانت بتمويل من مطرانيّة بيروت للروم الارثوذكس. يتمُّ الوصول إلى المتحف عبر درج ومدخل خارجيين من الناحية الشمالية للكاتدرائية من دون المرور داخل حرمها. واستخدمت في إطاره أحدث التقنيات في طريقة العرض والإنارة وأسلوب التعريف والشرح الذي يعتمد على التسجيل والاستماع على غرار المتاحف العالمية إضافة إلى النظر والإضاءة.
قبل الولوج إلى الداخل تطالع الزائر فتحة استحدثت في أساسات جدار الكاتدرائية تظهر مقطعًا ستراتيغرافيًا يعرض خلاصة عن الحقبات التاريخية المتتالية التي مرَّت بها الكنيسة، وهي من الأسفل إلى الأعلى: الهلنستية، ثم الرومانية، والبيزنطية، فالقرون الوسطى والعثمانية.
عند المدخل واجهات زجاجية تُعرَض فيها القطع الأثرية الصغيرة والمتوسطة الحجم المكتشفة في الموقع: صلبان تعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وفخَّاريات من مختلف الأحجام ولعدة استعمالات (جرار وأباريق وصحون وطناجر)، وقناديل زيت وتماثيل صغيرة ورؤوس منقوشة، ومجموعة من البرونزيات، وغليون وحلي من العصر العثماني بينها خواتم وجدت في أصابع أرجل سيدة وعقد من العقيق وقرطان من المرجان...

 

مدرسة الحقوق والكاردو وفسيفساء...
التجوال في أرجاء المتحف يتم عبر ممرات معدنية أقيمت فوق الأنقاض الأثرية تتيح التنقّل داخله والوقوف عند المحطات الاثنتي عشرة التي تتوزَّع على الحقبات التاريخية التي أشرنا إليها. وعند كل محطة  لوحة تفسيرية، تقدّم باللغتين العربية والانكليزية، معلومات عن الحقبة المعنيَّة  وشروحًا عن الآثار المعروضة المحددة بـ«نجمة»، إضافة إلى خريطة توضح موقع الحقبة بالنسبة إلى مخطَّط الكاتدرائية، وفيها زر يُضغط عليه فيضيء الآثار المعروضة.
يشاهد الزائر جزءًا من وسط المدينة الهلنستية قبل الإنتقال إلى الفترة الرومانية حيث تعرض قاعدة عمود من خط الكاردو الثانوي المحاذي للكاردو الأساسي، أحد المحورين الأساسيين اللذين كانت تقوم عليهما المدينة الرومانية. في المساحة المخصَّصة للفترة البيزنطية أرضية من الفسيفساء وما بقي من إطارين من الرسوم الزخرفية يفصل بينها صف من الأوراق النباتية يُرجَّح أن تكون جزءًا من أرضية كنيسة القيامة التي تعود إلى القرن الخامس وكانت تقوم قرب مدرسة الحقوق الشهيرة.
في المحطة الرابعة المدافن المكتشفة من القرون الوسطى وبعضها مبني على طول مدماك واحد من الحجر الرملي ومغطى بلوحات حجرية، وفي البعض الآخر وُضِعَ الميت مباشرة على الأرض. وإلى جانب المدافن كنيسة من القرون الوسطى شُيِّدت فوق الكنيسة البيزنطية أناستاسيس وما تزال ظاهرة فيها حنيتان نصف دائريتين، والجداران الشرقي والغربي من الحجر الرملي، وأرضية مرصوفة ببلاطات مستطيلة. ومن نقطة مجاورة يمكن رؤية ثلاثة أعمدة متتالية لهذه الكنيسة تقوم على مسافة متوازية، إضافة إلى بقايا لوحات جدرانية على العمود الأول تبيِّن أن الكنيسة كانت مطليَّة كلها بالرسوم الجدارية.
في محطة الفترة الرومانية بقايا من نظام التدفئة المركزي (Hypocaust) الذي كانت تقوم عليه الحمامات الرومانية حيث تظهر الأعمدة الفخارية المستديرة الشكل التي كان يمر عبرها الهواء الساخن، إضافة إلى ناووس فخاري أيضًا. وغرفة تحت الأرض تتجمَّع في داخلها أقنية تصب في مجرور أساسي لتصريف المياه المبتذلة. ومن هناك إلى مساحة ثانية خُصِّصَت للحقبة البيزنطية تضم أرضية مزدوجة من الفسيفساء تعود إلى بناء كبير يُعتقد أنه مبنى عام، تمثل الطبقة العليا منها رسومًا مروحية الشكل وفي وسطها زهرة صغيرة، أما السفلى وهي الأقدم فتميِّزها رسوم ذات أشكال هندسية. ومن هناك تستمر الزيارة للوصول إلى قبر يقع تحت قوس الكاتدرائية الحالية وهو واحد من 12 قبرًا فرديًا تشكِّل جزءًا من مدافن من فترة المماليك أقيمت شرق كنيسة القرون الوسطى وشمالها، وبنيت على مدماك واحد من الحجر الرملي وغُطِّيَت بحجارة كبيرة. وفي المحطة الأخيرة آثار من الحقبة العثمانية تتمثَّل بقناة للصرف الصحي وجزء من طريق معبَّدة إضافة إلى غرفة مدفنية تعتبر نموذجًا جديدًا في دفن الموتى.
ويتخلَّل الزيارة عرض فيلم (Power point) مدته 7 دقائق من إخراج سينتيا روفايل وكمال حكيم يعرض التواصل الزمني والكنسي للكاتدرائية منذ القرن الخامس وحتى إعادة ترميمها حاليًا.
مهما طال الوصف، تبقى زيارة المتحف ضرورية للتمتّع بجمال تصميمه الهندسي وروعة المكتشفات الأثرية التي يضمها وهي جزء من تراث الوطن وتاريخه.
يشار إلى أنّ المتحف يفتح أبوابه يوميًا أمام الزوار باستثناء الإثنين، من العاشرة صباحًا ولغاية السادسة مساءً.

 

تصوير: جاك واكيم

أرشيف المتحف