في ثكناتنا

من دراسة حالة إلى مثال يُحتذى به!
إعداد: ندين البلعة خيرالله

نعود سنتَين إلى الوراء، إلى كارثة انفجار مرفأ بيروت الذي شكّل بما خلّفه من أضرار على الأصعدة كافة ومنها الإرث الثقافي، حالة تُدرس عالميًا. يومها هبّ الجيش كعادته إلى المساعدة من دون أن يُعرف في ذلك الحين أنّه من الأزمة ستولَد فرصة... الفرصة تحوّلت إلى تجربة تتعلّم منها دول العالم، في النهوض من تحت الركام ونفض الغبار وإنشاء قدرة متكاملة، عديدًا وعتادًا، لتكون أول تجربة ناجحة من نوعها في العالم على صعيد حماية الممتلكات الثقافية. ومع هذه التجربة أصبح لبنان من عداد الدول الخمس الناجحة في تطبيق المعاهدات الدولية في هذا المجال، وتملك مثل هذه المعرفة والقدرة.

نعم! يستحق الجيش اللبناني، وتحديدًا فوج الأشغال المستقل، أن يدخل كتاب غينيس للإنجازات العالمية والأرقام القياسية. فهو أوّل مَن خصّص مركزًا رسميًّا للتدريب في هذا المجال، وأول من بات يملك فريقًا متحرّكًا Mobile Team، عديدًا وعتادًا وآليات مخصصة لهذه المهمة، للاستجابة بشكلٍ سريع وفاعل لأي تهديد قد يمسّ هويتنا الثقافية.

 

مركز فريد من نوعه

«هذا الحدث هو تأكيد لإرادة الحياة وخلق الأمل من الصعوبات، وهو ما يميّز جيشنا حاليًّا، إذ يواجه أقسى التحدّيات بعزيمة وإصرار واقتناع، لأنّ لا مستحيل في قاموسنا». إنّها كلمات قائد الجيش العماد جوزاف عون، خلال افتتاح مركز تدريب حماية الممتلكات الثقافية والاستجابة للطوارئ في قيادة فوج الأشغال المستقل. وأكّد أنّه «انطلاقًا من مسؤوليتنا تجاه وطننا، ورغم تراكم أولويات المهمات الملقاة على عاتقنا، فإنّ حماية التراث والممتلكات الثقافية أصبحت ضمن اهتماماتنا نظرًا لاكتناز لبنان ثروة تراثية واجبنا الحفاظ عليها أيضًا، فجاء استحداث مركز للتدريب ضمن فوج الأشغال بإمكانات ذاتية وموارد خاصة لتطوير قدرات العسكريين في هذا المجال، بهدف نشر هذه الثقافة ضمن الجيش وباقي المؤسسات المعنية».

قائد الفوج العميد الركن يوسف حيدر يشرح من جهته أن هذا المركز فريد من نوعه عالميًّا، ففي كل دول العالم تقريبًا، غالبًا ما يتدرّب المتخصّصون والمعنيون بحماية الممتلكات الثقافية في المتاحف والمراكز الثقافية، من دون أي برامج محددة. لكنّ الجيش اللبناني تمكّن، وبالتعاون مع جمعية «بلادي»، من إنشاء هذا المركز وتطبيق برنامج «جهوزية»، ليكون بذلك من أوائل من يطبّقون القوانين والأنظمة تبعًا لاتفاقية لاهاي التي تفرض على الدول الموقعة أن يكون لديها ضمن قواتها المسلحة وحدة تُعنى بحماية الممتلكات الثقافية. وأصبح بذلك لبنان حالةً تُدرَّس وتسعى كبرى الدول إلى أن تحذوَ حذوه في هذا المجال.

 

بعد سنتَين...

هذه المهمة التي بدأت منذ سنتَين كاستجابة للكارثة، تحوّلت اليوم إلى قدرة يملكها ضباط الفوج وعسكريوه. 

أُدرجت هذه القدرة ضمن الهيكلية التنظيمية للفوج، وخُصص لها شارة يحملها كل مَن يتابع المستوى المتقدّم من الدورة في مجال حماية الممتلكات الثقافية. الشارة هي عبارة عن شكل الدرع الأزرق Blue Shield الذي يركّز على المواقع الثقافية لحمايتها، وفي وسطه أرزة، مع تمييز من يحصلون على شهادة مدرّب بإضافة خطّين عاموديين من جانبَي الدرع.

 

نموذج للكفاءة

يجمع كل المتدربين ومَن يزورون الفوج ويتعرّفون على هذا المركز والقدرة الجديدة لديه، على أنّ الأمر جديد وفائق الأهمية. كما يبدون تقديرهم للمهارات التي يطّلعون عليها والجهود التي يبذلها الجيش اللبناني، وتحديدًا فوج الأشغال المستقل في إيلاء أهمية كبرى للهوية الثقافية اللبنانية.

وفي إطار التعاون المستمر مع الجيش الفرنسي، استقبل قائد الفوج العميد الركن يوسف حيدر فريقًا من الخبراء الفرنسيين من Delpat (هيئة الأركان العامة للجيش - القسم المسؤول عن التاريخ والثقافة)، ضمّ النقيب Timothe Le Berre ، مستشار التراث العسكري الذي يشارك في تطوير وتنفيذ السياسات المتعلقة بالتراث والثقافة، و Mathieu Pepe المسؤول عن الدراسات حول حماية التراث في وزارة الدفاع. 

وقال Le Berre : «بعد تبادل الخبرات في هذا المجال، لفتنا أنّ الجيش قام بتطوير قدرة محددة خلال العامين الماضيين تشكّل نموذجًا للكفاءة بالنسبة إلينا، هو الأول من نوعه من حيث بناء القدرات». وإذ يؤكد أن الجيش الفرنسي هو «مرجع لليونسكو، ونحن نتعاون في كل القضايا ذات الصلة مع الجيوش البريطانية والأميركية»، يشيد بجهود الجيش اللبناني ويقول: «التراث هو تراث المجتمعات والإنسانية، ومن 

مسؤوليتنا كجيوش أن نحميه وأن ننقله إلى الأجيال القادمة».

قصة هذه الآليات المُعدَّلة يخبرنا بها آمر فصيلة العتاد والنقل الملازم أول ربيع قرقماز ومعه كل من عمل على إنجاز هذا المشروع، كل في مجال اختصاصه. إنه حقًا إنجاز بالنسبة إليهم، ناهيك عن المعنويات العالية والإيجابية التي يبثّونها لمَن حولهم.

يقول الملازم أول قرقماز: «الفان في الأصل محطة قديمة للبث الإذاعي، وقد كان خارج الخدمة، بعد الكشف عليه، قرّرت قيادة الفوج تحويل وجهة استخدامه إلى غرفة عمليات متنقلة. وبالتالي بدأنا بإفراغ كل المعدات والقطع القديمة منه، ثم أقدمنا على مساعفته ميكانيكيًّا لتشغيله. بعدها أضفنا عليه كل العتاد اللازم لغرفة العمليات من طاقة، وبرج هوائي ونظام بث وإنارة».

الرقيب أول بسام يحيى قام بتركيب نظام الطاقة الشمسية. هو متخصص في مجالَي الكهرباء والميكانيك، ويقول إنّ تركيب طاقة على آلية هو أمر فريد من نوعه. تمكّن خلال يومَين من العمل المستمرّ من تركيب النظام الكامل مع التأكد من توجيه الألواح بالشكل المناسب للاستفادة من الشمس حتى أقصى حد، وبالطبع أُضيف للتجهيزات حامٍ من الصواعق. «الشغل كلو عالأصول»!

رئيس مشغل الآليات المؤهل علي حاج سليمان يتحدّث عن صعوبة العمل «على آلية غير شغّالة»، وقد عمل على مدى شهرَين، لإحيائها وتحويلها إلى غرفة عمليات متنقلة. يوضح: «عملنا من الصفر، قمنا بتفكيك كل شيء، من أكبر قطعة وحتى أصغر برغي، ثم أعدنا جمعها وتشغيلها. تمّ الكشف عليها في الشركة المصنعة للتأكد من جهوزيتها الكاملة، وها هو الإنجاز الكبير الذي قمنا به يبصر النور».

من جهته، يتحدّث المعاون أول محمد عواضة (اختصاص معلوماتية IT) عن تجهيز الآلية بكاميرات مراقبة وجهاز بث متكامل موصول أونلاين على الإنترنت ليبث بشكلٍ مباشر، خلال تنفيذ أي مهمة» وينقل الصورة مباشرةً إلى غرفة عمليات الفوج. «عملنا على مدى أسبوع تقريبًا، فتمّ تجهيز الآلية براوتر واي فاي ٤G لتأمين الشبكة عند تنفيذ المهمات. وبنظري هذا الإنجاز مهم جدًّا للفوج، فهذا النظام المتطور يسهّل التواصل خلال المهمات».

 

إلى القطع والوحدات دُر...

فوج الأشغال المستقل الذي فتح أبوابه أمام جميع المعنيين المباشرين وغير المباشرين بالممتلكات الثقافية، من مدنيين وأجهزة أمنية أخرى، اختار اليوم أن يخرج هو من ثكنته ويزور القطع والوحدات العسكرية. أراد أن يحمل إليهم هذه الثقافة وينقل الرسالة الأهم ومفادها أنّ الممتلكات الثقافية ليست أمرًا ثانويًّا، والضرر الذي يصيبها لا يمكن اعتباره ضرر جانبي، بل هي جزء من هويتنا، والحفاظ عليها يأتي مباشرةً من بعد الحفاظ على الأرواح البشرية.

الخطوة الأولى كانت في كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان، حيث ألقى قائد الفوج محاضرة حضرها ضباط دورة الأركان ٣٧، وتحدّث خلالها عن الفوج ومهماته ودوره وقدراته، وعرّفهم على هذه القدرة الجديدة التي أنشأها لحماية الممتلكات الثقافية والبرنامج التدريبي المخصص لتطويرها. كذلك قدّمت السيدة جوان فرشخ بجالي رئيسة جمعية «بلادي» إيجازًا حول برنامج «جهوزية» التدريبي وأهميته بمشاركة الأفرقاء الأساسيين الذين يتدخلون للحماية والحفاظ على الإرث الثقافي في حالات الطوارئ. بعدها عاين الضباط الآليات الخاصة بهذه المهمة، والتي رُكنت في ساحة العلم في الكلية لعرضها وشرح مواصفاتها.

وقد أبدى عدد من الضباط رأيهم بالمعلومات التي اكتسبوها خلال هذه المحاضرة المميزة. العقيد جوني الخليل 

اعتبر أن المحاضرة ألقت الضوء على أهمية الأعيان الثقافية، والإمكانات التي يملكها الفوج.

بدوره أشاد المقدم رواد قازان بحجم نشاطات الفوج وقدراته، وبعمل الجيش إلى جانب الجمعيات المدنية في مجال حماية الممتلكات الثقافية الذي يشكّل «مصدر فخر لنا ويكبّر القلب» وخصوصًا في لبنان المليء بالتراث والآثار التي تعرّضت للإهمال. وقال: «أعتقد أنه يجب توعية الشعب اللبناني بمثل هذه المحاضرات ليعرفوا قيمة الآثار التي تدل على تاريخنا وهويتنا وهي إرث للأجيال القادمة».

أما الرائد نديم سعيد، فاعتبر أنّ الجديد في هذه المحاضرة هو التعرّف على حجم العمل والمتابعة اللازمَين للتمكن من الحفاظ على التراث وتاريخ بلدنا. وقال: «هذه المحاضرة مهمة جدًا والأهم هو هذا المجهود الذي تقوم به قيادة الجيش وفوج الأشغال المستقل لحماية الممتلكات الثقافية الموجودة. ونحن من الأساس لدينا قيود عملانية ومحظورات تقضي بعدم التعدي على هذه الممتلكات ضمن الأعمال العسكرية، ولكن الآن بات لدينا وعي على أهمية الحفاظ على هذه الممتلكات».

 

من قاعة اجتماعات إلى مركز تدريب... ومكملين!

«هي قدرة جديدة في العالم وليس في لبنان فقط... أنا فخورة جدًّا بأننا جزء من هذه القدرة، وبأننا كنا إلى جانب الجيش في إنشائها والدفع نحو نجاحها»... بهذه الكلمات تعبّر رئيسة جمعية «بلادي» السيدة جوان فرشخ بجالي عن شعورها بعد سنتَين من إنشاء قدرة حماية الممتلكات الثقافية في فوج الأشغال المستقل. وتضيف: «استطاع الفوج تحقيق رؤية قيادة الجيش حول بناء هذه القدرة ونشرها على صعيد وحدات الجيش».

 

ما الذي تغيّر بعد سنتَين؟

تستذكر السيدة جوان بدايات هذا المشروع: «بدأنا بفكرة التوعية أولًا. ولكننا صُدمنا بإصرار الجيش على المضي قدمًا، فكانت هذه المهمة بالنسبة إليهم أمرًا بديهيًّا يندرج ضمن شعارهم شرف تضحية ووفاء. ومنذ ذلك الحين، قَبِل الجيش التحدّي، وقرر تحويل القاعة الشتوية لاجتماعات العسكريين إلى مركز تدريب يستقبل مدنيين من مختلف الجهات المعنية بحماية الإرث الثقافي، مع تأمين التسهيلات اللازمة والشراكة مع باقي المؤسسات. 

لم نتوقع خلال سنتَين، في بلد ينهار وجيشه منهمك بمهماته، أن نبني هذه القدرة وأن يتمكن الجيش من الاستثمار ببنائها. إننا محظوظون، كمدافعين عن الإرث الثقافي، لأنّ لدينا فوجًا داعمًا لبرنامجنا التدريبي.

 

إنجاز إضافي

وتضيف السيدة جوان: لا يمكننا إلّا أن نثمّن الإنجاز الإضافي الذي حقّقه الفوج من خلال تطويع آليات خاصة لهذه المهمة. فالبلدان الوحيدة في العالم التي تملك هذه التسهيلات هي سويسرا وألمانيا، وهما لا يملكان آلية عملية ولا سريعة التحرك في حالات الطوارئ، في حين أنّ جيشنا انطلق من الكارثة وابتكر الحلول بناءً على خبرته بالتحرك وقدرته على التنفيذ، فكان سبّاقًا وطوّر آليات تتحرك ببساطة وسهولة لم يسبق لها مثيل في العالم.

وفي الختام تقول السيدة جوان: «إن الانتماء إلى التاريخ والمواقع الأثرية هو جزء من هويتنا اللبنانية، وأساس ضمن قيم الشعب اللبناني. فالجيش، مع كل ما يعانيه من صعوبات وتحديات، اختار طوعًا أن يضيف إلى هذه القيم الوعي والمعرفة والإدراك، فتحمّل مسؤولية حماية هذا الإرث بتفاصيله، وبالتالي حماية هويتنا وتاريخنا، وحفظهما لمستقبل أولادنا».

 

تجربة مفيدة ومميزة

رئيس مكتب مكافحة جرائم السرقات الدولية التابع لقوى الأمن الداخلي الرائد غي ساسين، وبعد متابعته دورة متقدمة في حماية الممتلكات الثقافية يقول:» إنّ هذه الدورة قد عادت بفائدة كبيرة نظرًا للمعلومات القيمة والمواضيع الشيقة التي تتناولها في ما خص الأهمية الثقافية للآثار، وكيفية التعرف على الممتلكات الثقافية، خصوصًا وأنّ هذا الموضوع لا يؤخذ بالجدية المناسبة ولا تتم الإضاءة عليه بشكل كافٍ في بلادنا». 

 

الأول في العالم: آليات خاصة بقدرات خاصة

لم يكتفِ الفوج بتنمية قدراته وحسب، بل عمل ضباطه وعسكريوه بالقدرات والمهارات الخاصة لتطويع بعض آلياته وتغيير وجهة استعمالها من آليات مشغل إلى آليات تضمّ كل العتاد اللازم لهذه المهمة Utility Vehicles وقد باتت تشكّل غرفة عمليات متنقلة. 

قمنا بجولة خاصة مع آمر سرية القيادة والخدمة في الفوج الرائد نسيم عامر على هذه الآليات، وتعرّفنا على الأيادي الماهرة التي أنجزت كل التعديلات اللازمة عليها، ليصبح لبنان البلد الأول في العالم الذي يطوّع مثل هذه الآليات سريعة الحركة لمهمة حماية الممتلكات الثقافية. في الساحة، حيث كانت الآليات مركونةً، مُجهّزةً لتمرين عملي ضمن سيناريو التدخل في حال حدوث فيضان، ينفّذه متابعو الدورة، عاينا ما يأتي:

• دراجة نارية عدد ٢ للكشف المُسبق واستطلاع بقعة العمل وولوج الأماكن الضيقة والمكتظة قبل البدء بتنفيذ المهمة. 

• آلية آمر المهمة وأخرى للإسعاف.

• فان يتمتّع باستقلالية في الطاقة المؤمّنة له من مصادر عدة (طاقة شمسية ومولد ومدخل يستمد الطاقة من أي مصدر خارجي متوافر)، وكاميرات تنقل الصورة مباشرةً من مكان تنفيذ المهمة إلى غرفة عمليات الفوج، وإنارة كاملة لبقعة العمليات. 

• شاحنة لنقل العسكريين وعتاد العمل، إضافة إلى صناديق مقاومة للحوادث خاصة لحفظ القطع الصغيرة الحساسة بعد إنقاذها وتغليفها.

• مقطورة تنقل العتاد الكبير للقص والتلحيم.