تراث ومهرجانات

مهرجان التراث والإنماء السياحي في زبدين
إعداد: جان دارك ابي ياغي

المشاركة في مهرجان زبدين التراثي كالسفر على متن حلم وردي، ينقل الإنسان على بساط ريح الى ماض بعيد، يدغدغ الحنين الى الأصالة والصفاء والمحبة والتعاون: زبدين هذه القرية الجبلية المعلّقة على صدر سفح جبل معيان والمرتفعة 14 كلم عن سطح البحر، احتفلت هذا العام، وككل عام، بمهرجانها التراثي الإنمائي، فخطفت الأضواء واستطاعت أن تصل الى المراتب الأولى بين القرى والبلدات السياحية التراثية في هذا الوطن الصغير. مجلة "الجيش" وعشاق التراث والعودة الى الجذور كانوا هناك، وشاركوا بلدة زبدين افتتاح مهرجانها التراثي الحضاري السياحي.

 

تمتين وحدة الوطن

إن فكرة إحياء التراث بهدف المحافظة عليه كمخزون ثقافي -­ حضاري، تشكّل مدماك الأساس في وحدة الكيان، وتظهر قيمة لبنان وعراقته، وتنوّعه الثقافي والطبيعي وغناه الحضاري. وبلدة "زبدين" الصغيرة كحبة ˜ماسŒ ثمينة، الوادعة الباسمة على تلال جبيل، والموغلة في بحر أخضر، أطلقت منذ مطالع الثمانينات هاجس العودة الى الجذور، وجسّدت في أواخر التسعينات أول مهرجان طال برؤياه عمق الحياة اللبنانية، من تقاليد وعادات وحِرَف ووسائل انتاج. و"زبدين" ببيوتها "الستين" أخذت على عاتقها فتح ورشة تمتين وحدة الوطن، وإذكاء هوى الإنتماء إليه بفخر وعزّة وكرامة. ˜

 

ويلٌ لأمة تهمل تاريخها

قديماً قيل "إذا أردت أن تحكم على حضارة وطن فانظر الى مدى تعلّق شعبه بتراثه". فما هو التراث؟ التراث جزء كبير من الكيان، بل هو الصورة الصادقة عن التاريخ و"ويل لأمة تهمل تاريخها". التراث ليس العادة ولا النمط المعيشي، ولا التقاليد كما يظن البعض. التراث طابع يميز الوطن عن بقية الأوطان. إنه الامتداد التاريخي لشعب وضع بصماته على سجل الحضارات، وهو مجموعة قيم مشى عليها الآباء والأجداد. فالعونة والدبكة من التراث وتعني التكاتف وشدّ الأيدي، والغناء من التراث ويعني الفرح والمشاركة، والسهرات القروية من التراث وفيها الكثير من القيم يعيشها الساهرون كالتسامح والابتسامة والتواضع، والبيدر من التراث وكم فيه من المعاني السامية خصوصاً حين يتحلق المشاركون حوله ويحملون المذراة ليفصلوا القمح عن التبن. "زبدين" مؤسسة التراث والإنماء وضعت أكثر من مدماك في المحافظة على تراث لبنان.

 

زبدين قرية التراث

"زبدين قرية التراث" لافتة أنيقة زرعت عند طرف الطريق المعشوشب عند مشارف القرية، يحرسها مصباحان كهربائيان تستدل منهما عن بُعد، فتطالعك اللافتة عند نهاية الأربعة عشر كيلومتراً، المسافة التي تفصلها عن مدينة جبيل. طريق زبدين جبلية ضيّقة تنيرها ليلاً نجوم السماء، ويلوّن العتمة جارها القمر. قبيل الوصول الى ساحة الضيعة، تصدح في الآذان أغنيات تراثية لبنانية لفيروز وصباح ووديع الصافي. عند الاستقبال يصطف أهالي القرية بالزي التراثي اللبناني: الشروال واللبادة للرجال، والعباءات المقصّبة والطنطور للنساء. ويافطة عريضة تطالع الزائر على باب المعرض مدوّن عليها: ˜حقل التراث يتسع لكل زائريهŒ. تدخل من أمام اليافطة عبر حواجز خشبية لتطأ عالماً مختلفاً اضمحلت معالمه في حياتنا اليومية الحاضرة. إنه عالم يسترجع الماضي البعيد بقوة، ماضي الأجداد والتقاليد اللبنانية الأصيلة، ماضي الصفاء والمحبة، ماض تحوّل ذكرى جميلة وبعيدة...

 

"يا زمان الماضي عود...

"هذه الذكرى تمثُل حيّة في تفاصيلها وأصالتها كلها، في المعرض الحرفي الذي يجمع أجواء الضيعة اللبنانية، فترى فيه شريطاً نابضاً لحياة القرية اللبنانية عبر رموزها البشرية والحرفية والتراثية، وكأن عجلة الزمان تدور الى الوراء أعواماً: هنا العم توفيق يهرم "الدخان" على آلة "الهاون" وهي مؤلفة من جذع شجرة كبيرة بطول 70 سنتيمتراً تقريباً مربوط بطوق فولاذي ومكبس فوق الجرن لرص التبغ. وثمة عدد كبير من الأشخاص يتهافت على شراء التبغ البلدي الطبيعي بعدما ملّ "دخان" الأسواق. مَن الذي يقطّع الحجارة في أشكل متعددة ويصبها ويجعلها صالحة للبناء؟ إنه معمرجي الضيعة والى جانبه النجار النشيط. أما سكّاف الضيعة فمنهمك في اصلاح "الصبابيط" العتيقة وصناعة الأحذية الجديدة لأبناء القرية. أم الياس مصنّعة القدور من الطين والتبن والحوارة، تعمل ولا تكلّ، فالمقالي الحديثة والطناجر المصنوعة من "الستنلس" و"الألومينيوم" لم تكن موجودة عند جداتنا... أما خضّ اللبن البلدي فيتطلب وضع اللبن داخل جرّة وخضّه بقوة زهاء نصف ساعة، فتطفو الزبدة على وجه اللبن...

"نام يا حبيبي نام، لدبحلك طير الحمام..." أغنية ترنمها الأم اللبنانية لطفلها وهي تهزّ له سريره حتى يغفو. وهذا ما تفعله إحدى السيدات على أكمل وجه يحوطها ابناؤها الصغار بأزيائهم التراثية الجميلة.

 

رزق الله على أيام زمان

ما أجملها القرنة الشتوية وأثاثها: صوف الغنم والبساط والمساند والطاولة الصغيرة تتحلق حولها العائلة، بالإضافة الى "النملية" المعلّقة في الحائط. وعلى صوت فيروز تغني لجبران النبي "أعطني الناي وغنّ فالغنا سرّ الوجود"، نتابع جولتنا لاكتناه أسرار الضيعة اللبنانية ولنتعرّف الى محبة تعمل على المغزال الذي كان يستخدم لغزل الحرير الذي شكل في ما مضى ثروة لا يستهان بها لزبدين... والى المغزال تجلس أرضاً صانعة صواني القش، التي كان يوضع عليها الطعام وخبز الصاج وتستخدم لتقديم الفاكهة...

ونصل الى دقّ النحاس على اليد، وهو من أقدم الأعمال الحرفية. ومن يفتش عن الصابون البلدي الأصلي يجده هنا في زبدين: يغلي زيت الزيتون مع القيطرون والماء على الحطب قبل تصنيعه صابوناً بلدياً مفيداً.

 

من الكركة الى البيدر

العم زخيا يخبرنا عن صناعة العرق البلدي الأصيل في الكركة. البقرة الحلوب في حظيرتها تخور بصوت عال، ربما هي منزعجة من العجقة التي تفضّل عليها سلام المراعي، لكنها لا تمنع جيرانها من الاستمرار في صناعة دبس الخرنوب، بعدما يوضع الخرنوب على بيدر مستدير ويطحن بالمدرس. وها هو البيدر الشهير! حيث يفصل التبن عن القمح بواسطة المذراة، وهو عبارة عن دائرة في الأرض بقطر ستة أمتار، تحوطها دائرة حجرية، تلقى ضمّات السنابل على البيدر حيث تدرس بالنورج وتقلب بواسطة "القريني"؛ الى جانب البيدر "الجاروشة" تطحن البرغل والذرة والملح، وهي مؤلفة من حجرين مستديرين مثقوبين في وسطهما... وللّقمة الطيبة تراثها أيضاً: "الطابونة" وهي فرن الضيعة، مجوّفة ومبنية من الحجارة ومطلية من الداخل والخارج بطبقة من الطين، من "الطابونة" أطلب تجد: مناقيش زعتر، لحم بعجين، فطاير كشك وألف صحتين! ولا تنتهي الجولة في ساحة الضيعة بهذه السرعة، فثمة أمور كثيرة ليراها الزائر منها العرزال حيث يستريح راع بعد حراسة القطيع طيلة النهار، ودكان الضيعة حيث تباع المؤونة ومنها البرغل والعرق البلدي والزبيب والزهورات... ومدرسة الضيعة تحت السنديانة وشعارها "العصا لمن عصى"، والمشحرة لصنع الفحم من الحطب... وفي وسط القرية حديقة مقفلة للحيوانات الأليفة فيها: الأرانب، الدجاج والطيور المختلفة، وقد كان كل بيت في الماضي يربي الحيوانات...

 

يداً بيد

الإعداد للمهرجان السياحي التراثي السنوي يتم قبل زهاء 15 يوماً، ويشارك فيه جميع أهل الضيعة، لا فرق بين كبير وصغير. الجميع يعملون يداً بيد و"العونة" تزرع البركة في صفوفهم، ويتضمن المهرجان بالإضافة الى معرض الحِرف اللبنانية سهرة فنية مع عدد من النجوم. وتحرص "مؤسسة التراث والإنماء" في زبدين على أن تتسم السهرات بالطابع التراثي القديم وتتضمن الدبكة اللبنانية تؤديها فرقة الضيعة وتضم 30 راقصاً وراقصة، بالإضافة الى الزجل اللبناني والميجانا والعتابا وأبو الزلف. نشير الى أن المهرجان ينظّم منذ العام 1996برعاية وزارة السياحة التي أنزلت زبدين في الكتاب السنوي الذي يصدر عنها ويوزّع في كل أنحاء العالم. في الختام، يتمنى أهالي زبدين أن تتحوّل كل قرانا واحات للتراث والعراقة والأصالة والمحبة والتعاون الأخوي الصادق على غرار قريتهم.

تصوير : المجند عبدو ابي خالد