يوميات عسكرية

هكذا نصمد...

يتساءل الكثيرون عن سر صمود المؤسسة العسكرية واستمرارها في أداء مهماتها بل وأكثر من مهماتها، بينما يضرب الشلل معظم مؤسسات الدولة بسبب الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يعانيها موظفو القطاع العام. وتظهر في وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها مقالات وتحقيقات تدور حول واقع رواتب العسكريين التي باتت لا تُطعم خبزًا ولا تؤمن مشربًا. لكن ماذا يقول أهل الشأن؟ ماذا يقول العسكريون الذين يثبتون كل يوم بالفعل الواضح البيّن أنّهم صامدون في وجه الأزمة، ملتزمون واجبهم الوطني، صابرون على معاناتهم؟

على الحواجز والطرقات ما زلنا نرى ابتساماتهم المشرقة فيما الشمس تأكل جلدهم. في الثكنات والمراكز ثمة كل يوم جديد يخبر بأنّ المؤسسة تمضي قدمًا في تطوير منشآتها وقدراتها. أما الخبر اليقين فيأتي من ساحات الخطر المخضبة بالدماء الشريفة، فما يحصل خلال المداهمات وسواها من مهمات أمنية يرقى إلى مستوى المعجزة. نعم إنّها معجزة أن نجد اليوم في وطننا رجالًا ما زالوا مؤمنين بأنّ بلدهم يستحق دماءهم.

 

كيف يصمدون؟ ما هي المنابع التي يستمدون منها القوة والصبر والقدرة على التحمّل؟

في البداية لا بد من الرجوع إلى المنابع الأولى، إلى تنشئة العسكريين وسلّم القيم الذي يحكم حياتهم وسلوكهم. نتحدث هنا عن الولاء والالتزام والانضباط والمناقبية والشجاعة والتعاون والتضحية والتقشف والمبادرة... وسوى ذلك مما يطبع  شخصية العسكري اللبناني ويجعله على الصورة التي عهدناه بها، وعلى مستوى الشعار الذي يحكم مسيرة مؤسسته ورفاقه، الشهداء منهم والأحياء سواء كانوا في الخدمة أم في التقاعد.

لكن هل يكفي ذلك للصمود حين يسمع أب أنين ابنه المريض وهو غير قادر على تأمين كلفة طبابته؟ أو حين يصبح تأمين كلفة الغذاء والمدارس والتنقل والكهرباء والاتصالات... وما إليها من أساسيات الحياة حلم ليلة صيف؟ طبعًا لا، وهذا ما تنبهت له قيادة الجيش منذ بداية الأزمة فراحت تعمل على المستويات كافة لإيجاد الحلول ولتجنيب العسكريين الوصول إلى حالة العَوز وفقدان راحة البال التي بات يشتهيها العاملون في القطاع العام، وفئات أخرى من اللبنانيين.

هكذا صدر أمر اليوم الاستثنائي: ممنوع أن يترك عسكري لمصيره، يجب أن نعمل جميعًا انطلاقًا من هذا المبدأ. تم تحديد الأولويات، فجاءت الطبابة على رأسها. أي موظف يستطيع تأمين عشرات آلاف الدولارات ليشتري بها حياة أمه أو أبيه أو ولده؟ "الجيش اشترى حياة أمي وأبي يقول أحد العسكريين إذ احتاج كل منهم إلى 4 رسورات"، ويضيف " لو بعت فوقي وتحتي لما استطعت تأمين الكلفة، الجيش تكفّل بكل شيء". تلك حالة من آلاف الحالات وبينها من عولج في الخارج على نفقة المؤسسة بكلفة وصلت أحيانًا إلى أكثر من نصف مليون دولار للحالة الواحدة، بما في ذلك نفقات سفر الأهل وإقامتهم.

النقل هم آخر، تم شراء باصات تنقل العسكريين من المراكز البعيدة وإليها. "من بيتي في عكار إلى مركز خدمتي يكلفني الانتقال بالباص 600 ألف ليرة" يقول عسكري آخر، وهو يؤكد: "منروح بالباص العسكري قاعدين واقفين، مرتاحين مزروكين، مش مهم..."

 

كيف يستطيعون تأمين كلفة الغذاء؟

تُشكل الحصص الغذائية التي يتسلمها العسكريون والموظفون المدنيون في الجيش دوريًا مقابل مبلغ زهيد دعمًا أساسيًا. " يهز أحد العسكريين رأسه حين نسأله عن هذه الحصة ويقول: "لولاها خراب، يكفي كيس الحليب ثمنه أكثر من 15 دولار"... هنا يأتي دور بيوت الجندي التي تنتشر في جميع الثكنات لتوفّر المواد الأساسية بأسعار متهاودة، كما يأتي دور المبادرات التي شهدتها عدة قطع حيث استغلت المساحات المتوافرة للزراعة وتربية الطيور والمواشي. وفي السياق نفسه لا يمكن أن ننسى إنشاء مصنع لمواد التنظيف يوفر للعسكريين وعائلاتهم حاجتهم منها بكلفة متدنية جدًا.

يُضاف إلى ذلك خطوات ومبادرات كثيرة من بينها ما يتعلّق بالمساعدات المدرسية ونواحٍ أخرى، فضلًا عن المساعدة التي يتقضاها العسكريون والموظفون المدنيون في الجيش نقدًا وقيمتها مئة دولار. سابقًا تكفلت قطر بهذه المساعدة لمدة ستة أشهر واليوم أتت المبادرة الأميركية المماثلة عبر الأمم المتحدة. قد يقول متبجح، "وماذا تفعل المئة دولار في هذه الظروف"؟ لكن العسكري يقدرها ويعرف كيف يتصرف بها ليوفر الأساسيات: " استأجرت بيتًا لأهلي" يقول أحدهم، ويخبرنا آخر بأنه استطاع تأمين المازوت خلال الشتاء بفضل هذه المساعدة، وهو يوفّر ما يتقاضاه منها في أيام الصيف تحسبًا للشتاء القادم...

هكذا يصمدون وعلى وجوههم ملامح الرضى والأمل، هكذا يحولون القناعة إلى كنز حقيقي، ويصنعون من صمودهم معجزة يومية وهم مدركون أنّ قيادتهم لن تخذلهم، وأنّهم معها نالوا كل التقدير والاحترام والثقة، فاستحقوا الدعم الذي يأتيهم من لبنانيين مقيمين ومغتربين، ومن دول ترى أنّ استقرار لبنان ضرورة، ولا سبيل للحفاظ على هذا الاستقرار إلا بدعم الجيش.