تربية وطفولة

هل يؤثر مركز الطفل في العائلة على مستقبله
إعداد: ماري الأشقر
اختصاصية في علم النفس

هل الإبن الأكبر في العائلة هو الأكثر نجاحًا على الدوام بينما الأصغر هو الأكثر فسادًا؟ هل خطر لك في يوم من الأيام أن تتساءل عمّا إذا كانت حياتك ستختلف لو أن مركزك في عائلتك كان غير ما هو عليه؟ وإن كنت الآن والدًا لثلاثة أبناء على سبيل المثال، فهل راودتك التساؤلات حول ما إذا كانت الفوارق بينهم تعود في بعض أسبابها إلى تراتبيّتهم في العائلة؟

 

العلماء يستقصون
لا غرابة في التفكير على هذا النحو طالما أنّ علماء النفس كانوا وما زالوا يستقصون خبايا هذا الأمر، فمنذ ما يزيد على مئة عام، لاحظ السير فرانسيس غالتون (عالم نفساني بريطاني كان أول من بدأ بإجراء فحوص تحديد مستوى الذكاء)، وجود عدد كبير من المواليد «البكور» بين زملائه من أعضاء الجمعية الملكية. من يومها والعلماء شغوفون بهذا الموضوع، ويتفق معظهم على إحدى النقاط المتعلقة ببعض الفروقات المهمة التي تعود إلى مركز الطفل في العائلة، أو ترتيبه من حيث الولادة. ولكن هؤلاء لا يتفقون جميعهم على أسباب هذه الفروقات، ولا على الطريقة التي يعتمدونها لتفسير نتائج الأبحاث. فبينما يركّز الباحثون على روّاد الفضاء وأساتذة الجامعات والقادة السياسيين على سبيل المثال، وينظرون في مستويات الذكاء الأعلى والأهداف التي يتطلّع إليها المواليد الأوائل، بين هؤلاء جرى الحديث عن عامل ملحوظ كان عرضة للتجاهل: إنّه في أي مجموعة آخذة في النمو، يوجد عدد من المواليد الأوائل يفوق عدد المواليد الأخيرين. وهكذا انتهت المناقشات إلى القول، إنّ هناك مجموعات تفرض الأوضاع فيها أن يتفوّق عدد المواليد الأوائل لديها على الأخيرين. وربما يكون هذا واحدًا من الأسباب التي تفسر ما ورد في دراسة أميركية على ثمانيمئة ألف تلميذ جامعي تقدّموا بطلب منح دراسية، وظهر أنّ بينهم عددًا كبيرًا من المواليد الأوائل.
 
 

الأول مميز دائمًا
الطفل البكر هو بطريقة ما، أعجوبة بحد ذاته.. تجربة جديدة تمامًا بالنسبة إلى الوالدين. ولا يمكن لأي حالة حمل لاحقة أن تأتي بالإثارة نفسها والقلق نفسه، وهذا ما ينعكس على طريقة الأهل في الاهتمام بهذا الطفل.
من ناحية أخرى، على الذكور من المواليد الأوائل واجب حمل اسم العائلة أو ألقابها والاهتمام بتراثها وممتلكاتها، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، ما يعني أنّ للولد الأكبر وضعية مميزة في العائلة. وقد تبين أنّ كثيرًا من الأشخاص المرموقين كانوا من الأطفال الأكبر سنًا في عائلاتهم، فهل يعني ذلك أنهم كانوا أكثر ذكاء من إخوتهم وأخواتهم؟
على سبيل المثال، كان الكاتب الإنكليزي الشهير صموئيل جونسون الذي طغى على عالم الأدب والفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر أكبر إخوته، وكذلك الفرنسية سيمون دي بوفوار. ولكن السير فرنسيس غالتون الذي سبق ذكره هو الأصغر في عائلة مؤلفة من تسعة أشخاص. وقد أشار الدكتور جون برايس، المحاضر في الطب النفسي في جامعة نيو كاسل إلى عدد من الدراسات التي أجريت ولم تتوصّل إلى تأكيد أي فارق ملحوظ في مستوى الذكاء بين المواليد الأول والمواليد اللاحقين. إذًا عندما يحقق الأولاد الأكبر سنًا نجاحًا باهرًا في المجالين الأكاديمي والوظيفي، فالاحتمال الأكبر هو أن ذلك يعود إلى مدى استخدامهم لذكائهم، بخاصة بسبب الاهتمام والعناية الكبيرين اللذين أُحيطا بهما. تلاحظ الباحثة الأميركية إيرما هيلتون أنّ الأمّهات أكثر اهتمامًا وعناية «وتدخلًا» بشؤون مولودهن البكر، بينما الأبناء اللاحقون يحصلون على مزيد من الحرية بممارسة الألعاب، كما أنهم بدوا أقل اعتمادًا على أمهاتهم. إلى ذلك لاحظ أشخاص آخرون أن الأطفال الأوائل في عائلاتهم يميلون إلى العمل بمقتضيات الضمير أكثر من سواهم، وهم أكثر جدية وتنظيمًا وتقدمًا، وأكثر تقيّدًا بالقانون من إخوتهم الأصغر سنًا. وهذه المزايا هي عينها عند الصبيان والبنات وفق دراسة للدكتور برايس. وعلى الرغم من أنّ دراسته هذه لم تكن معنية مباشرة بمسألة الترتيب الزمني لولادة الطفل الأول بالمقارنة مع إخوته إلّا أنّها خرجت بإحدى أكثر الحقائق إثارة، وهي أنّ المواليد الأُوَل اختلفوا عن الآخرين بشكل ملحوظ، وفي أشياء كثيرة. ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من الخيال حتى نرى أن المزايا من أمثال الضمير الحي الذي نجده عند الأطفال الأكبر سنًا يمكنه أن يؤدي بهم إمّا إلى النجاح في حقل يختارونه، أو إلى القلق والانحطاط.
وبينما قد يبدو أن المولود البكر في العائلة له من المزايا ما لا يتوافر لإخوته الآخرين، إلّا أنه في الوقت نفسه عرضة لبعض المصاعب لمجرد أنه المولود الأول كذلك. فقد تبيّن من أبحاث أجريت في أميركا ولندن، أن الأطفال الأول هم أكثر عرضة للعصبية وعدم الثقة في علاقاتهم الشخصية، وللمعاناة من اضطرابات نفسية، وعلى هؤلاء بذل مزيد من الجهود للحصول على أصدقاء والتلاؤم اجتماعيًا، كما أنّهم يميلون إلى الزواج أبكر من إخوتهم وأخواتهم. وهم يميلون إلى الوحدة، بينما يميل الأصغر إلى الشعبية والانخراط الاجتماعي.
 
الطفلان الأوسط والأصغر
معظم الأبحاث التي جرت حول تأثيرات الترتيب الزمني لوضع الطفل في العائلة من حيث الولادة، ركزت وتركز على المولود البكر. بينما الاهتمام الذي أعطي لفوائد ومساوئ أن يكون الطفل هو المولود الأوسط أو الأصغر كان أقل من ذلك بكثير. على أن التجربة تقول بأنّ مشاكل التنافس والنفور في مسألة من يحمل المسؤولية، هي عوامل على الأطفال الأصغر سنًا أن يواجهوها.
فمن الشائع جدًا أن نسمع الناس يتحدثون عن الصعوبة التي واجهوها في محاولة مماشاة النتائج الكبيرة التي حققها شقيق أو شقيقة أكبر سنًا، وبخاصة في المدرسة. إذ إنّ كلًا من الآباء والأساتذة ينتظرون من الطفل الأصغر أن يحقّق نتائج جيدة مثل شقيقه الأكبر، بل يحدث أحيانًا أنّهم قد يضغطون عليه ليحقّق لهم توقعاتهم، وذلك بالتعبير أمامه عن خيبة أملهم به أو حزنهم عندما يفشل.
غالبًا ما يحصل الطفل الأكبر على مزيد من الامتيازات كمصروف أكبر مثلًا، أو السهر أكثر وما إلى ذلك، لمجرد أنّه أكبر سنًا. يبدو هذا أمرًا عاديًا تمامًا بالنسبة إلى الإنسان الراشد بالطبع. أمّا بالنسبة إلى الطفل الأصغر الذي لا تتوافر له معايير الراشدين هذه، فقد يبدو له هذا التمييز بعيدًا جدًا من العدل.
والنتيجة هي أنّ الطفل الأصغر غالبًا ما ينفر من هذا التمييز، ومن إعطاء شقيقه الأكبر «مزيدًا» من المسؤولية، ممّا يظهره وكأنه الرئيس. من ناحية أخرى يميل الطفل الأصغر إلى أن يكون أكثر تكيفًا مع الظروف، لمجرد أنّه يتوافر له آباء أكثر راحة واسترخاء، تعلّموا أمور الاعتناء به من تجاربهم مع شقيقه البكر. ويلاحظ أنّ أصغر طفل في العائلة يعيش أفضل الأوقات والظروف فهو يحاط بأقل قدر من الضغوط ويمكنه الاعتماد لا على عناية والديه به فحسب، بل إخوته الأكبر سنًا كذلك.
 
الأوسط يعيش أسوأ الظروف

إذا كان للعائلة ثلاثة أبناء، يبدو في بعض الأحيان أن الطفل الأوسط يحظى بالأسوأ في كل شيء. فقد يشعر أحيانًا بأنّه عرضة للإهمال بالمقارنة مع أخويه. ويرى أن عليه المطالبة لنفسه ببعض الحقوق حتى يدعم مركزه في العائلة. وقد تبيّن من خلال دراسة أجراها المكتب الوطني للأطفال في انكلترا أنّ التعامل مع الطفل الأوسط غالبًا ما يكون الأصعب من وجهة نظر الآباء. وقد قيل إنّ مكانة الأوسط ما بين شقيقيه الأكبر والأصغر يمكن أن تدفعه إلى الشعور بضرورة المشاكسة لتحقيق مكانة له وجذب انتباه والدته للعناية به، بينما الطفل الأكبر آمن مطمئن من تمتعه بعواطفها سلفًا، والطفل الأصغر هو المدلل منها ومن الجميع.
 
كيف يقدّم الآباء المساعدة
هناك فارق ما بين إدراك مشاكل تربية الأطفال ومحاولة معاملتهم بعدل ومساواة. كأهل لا يمكننا معاملة أبنائنا المتفاوتين سنًا مثل بعضهم بعضًا، لأنّ حاجاتهم تختلف وتتفاوت كثيرًا. ومع ذلك فالأجدر أن نبذل الجهد والوقت لشرح أهدافنا لأطفالنا بلغة يفهمونها، بدلًا من أن يسيطر علينا الغضب، وبدلًا من إجبارهم على تنفيذ ما يكرهونه، ولاسيّما إذا أظهروا الاحتجاج.
أهم ما نحن بحاجة إلى عمله هو عدم التسرّع، والتفكير بعلاقاتنا مع الأطفال وعلاقات بعضهم ببعض. قد يبدو قول هذا الأمر أسهل من تنفيذه، ولكن، تبقى المحاولة جديرة بما تتطلّبه من جهود لما قد تحققه من نتائج.