قصة قصيرة

...وتعلّمنا
إعداد: العميد الركن إميل منذر

كنتُ في السابعة من عمري عندما سرْتُ خلف أبي إلى دار البلدية في القرية ليسجِّل اسمي في المدرسة. أجل إلى دار البلدية، لأن إدارة مدرستنا الرسمية، في تلك الأيّام، كانت تشغل غرفتين تشكّلان كلّ الطابق العلويّ من بناء البلدية. أما الغرفتان السفليّتان فكان «فارس» ابن خال أبي، ورئيس المجلس البلديّ، يقدّمهما مجّانًا لأحد أبناء القرية المُعْوَزين ليخزن فيهما الفحم وعلف الماشية. وهكذا أصبح هذا المبنى الصغير في «الحارة الغربية» من الضيعة مستودعًا للعلف والفحم، ومكانًا يدير منه «باز فضّول» شقيق فارس- رحمهما الله- شؤون المدرسة، ويفرض سلطته على التلامذة والمعلّمين معًا. أما الشؤون البلدية فما كانت إدارتها تحتاج إلى بناء، وقاعات للتخطيط، والهندسة، والاجتماعات، والنقاشات. ما يقرّره الرئيس لم يكن يعترض عليه أحد. أو قُلْ لم تكن هناك مشاريع ليؤيّدها مؤيّدون ويعترض عليها معترضون. أكبر «مشروع» كان ترميم حائط سقط بعضه وسدّ الطريق، أو رخصة لبناء منزل جديد.
في الطريق إلى دار البلدية، قال لي أبي: «عندما ندخل على المدير، قُلْ له: صباح الخير بصوتٍ عالٍ، وقفْ مرفوع الرأس. وإذا سألك: كم يساوي خمسة زائد خمسة، قلْ له: عشرة... لا تنسَ... عشرة». فقلت: «لا تقلق يا أبي». ثم رحتُ أردّد الرقم الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، مخافة أن أنساه. وعندما وصلنا ودخلنا، صافح أبي الأستاذ باز، ثم حيّيته أنا بصوت عالٍ، ووقفت شامخ الجبين كما أوصاني أبي. ثم عدتُ إلى ترديد الرقم في سرّي.
قال أبي: «يا ابن خالي، هذا ابني البكر إميل. جئتُ أسجّله في المدرسة». فبشَّ لي الأستاذ باز، وقال: «أهلًا بالبطل». عندئذٍ عدّلتُ وقفتي، ورفعتُ رأسي أعلى، وغصبًا عني أصبحتْ شفتاي تتحرّكان وتردّدان بصوت غير مسموع: عشرة، عشرة، عشرة.
- أنسجّله في الصفّ الأوّل ابتدائيّ؟ سأل باز.
- لا. في الصفّ الثاني يا ابن خالي. لقد تعلّم سنة في مدرسة عمّيق الرسمية، القرية التي كنا نسكنها قبل صعودنا إلى ضيعتنا.
عندئذٍ رفع المدير نظره إلى وجهي، وسألني: «كم يساوي ثلاثة زائد ثلاثة؟». فأجبته على الفور: «عشرة». فما كان من الرجُل إلا أن قطّب جبينه، وطأطأ رأسه، وقال لأبي: «لا أستطيع أن أسجّله في الصفّ الثاني. إنه لا يعرف شيئًا».
«إنه لا يعرف شيئًا». عبارة نزلت على مسمعي، بل في قلبي، كالخنجر المسموم، وجعلتْ أبي يطأطئ رأسه حزينًا، وينكّس شاربَيه اللذين يحطّ عليهما النسر: «كما تريد يا ابن خالي. سجّله في الصفّ الأوّل». عندئذٍ سالت دمعتان من عينيّ بلّلتا خدَّيّ؛ لكنّي لم أنِخْ رأسي المرفوع، لأنني قرّرت من تلك اللحظة أن أسعى جاهدًا لمعرفة كلّ شيء، فلا يشعر أبي بعد ذلك بالخجل بي أمام ابن خاله والناس.
لم أكن أعرف شيئًا لأن السنة التي أمضيتها في مدرسة «عمّيق» لم تفدني في شيء. كنت أكره المدرسة حتى التمنّي أن يضرب الأرضَ زلزالٌ يهدم كلّ مدارسها، ولا يترك حجرًا فوق حجر من مدرسة عمّيق التي كنت كلّما دخلتها مرّة، شعرتُ بأنني داخل إلى السجن. وكلّما لمحتُ وجوه معلّميها صباحًا، ضاقت أنفاسي، وعصر الألم أمعائي.
كان الأستاذ «نظير» إذا خرج إلى الملعب ورآني في زاوية منه وحيدًا، دنا مني، وأعطاني قطعة نقدية زهيدة محاولًا تجميل صورة المدرسة والمعلّمين في نظري. لكنه لم يفلح على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها. وأخيرًا عرفتُ من أمّي أن القروش التي «يرشيني» بها الأستاذ، هي من أبي. قلت: «لا أريد نقودًا، ولا أريد الذهاب إلى المدرسة بعد اليوم».
- بل ستذهب سواء أعجبك ذلك أم لم يعجبك. أفهمت؟ صاحت أمّي وهي تبكي.
- لا تتعبي نفسك؛ فلن أذهب.
- أتريد أن تكبر من غير علْم لتصبح فلاّحًا مثل أبيك يتعب ويشقى من الفجر إلى النجر في سبيل لقمة العيش، واللقمة تهرب من أمامه!
- أنا أحبّ الكرْم، والبستان، والخروف، والدجاجات. وأحبّ البرّية، والعصافير المغرّدة، والفراشات الملوّنة، ولا شيء من كلّ هذا في المدرسة.
هكذا قلت ببراءة؛ فارتمت أمّي ساعتذاك على ركبتَيها أمامي، وأمسكتْ يديَّ، وابتسمت ابتسامة يائسة: «إسمع كلامي يا ابني. لا بدّ من أن تتعلّم. غدًا تعتاد المدرسة؛ فتراها جميلة». ولمّا لم يعلق من هذا الكلام في ذهني حرف، خرج أبي بقضيب من الرمّان، وانهال عليّ ضربًا مبرحًا. وأذكرُ أن أمّي تلقّت دفعة قوية إلى الخلف عندما حاولت أن تنتشلني من تحت يديه. لكنّ قضيب الرمّان الذي هشّم لحمي، لم يستطع أن يهدم الجدار العالي بين المدرسة وبيني.
أيها القرّاء الأعزّاء. لا تحسبوا أنّ في الأرض ولدًا واحدًا يحبّ المدرسة. هذه الكلمة مكروهة من كلّ الأولاد. أما مَن كان مُكِبًّا منهم على دروسه، مجتهدًا في تحصيله؛ فخوفَ القصاص يُكِبّ ويجتهد، أو كرْهَ تعييره بالكسل وقلّة الفهم. أما الوعي لأهمية العلْم في تكوين الشخصية وتسهيل الحياة، فلا يدركه المرء إلا باكتمال نضجه، وربما... بعد فوات الأوان.
ما دفعني أنا إلى الاجتهاد، هو كرْه تعييري بقلّة الفهم، والكسل. وكرْه أن يخجل أهلي بي قدّام الناس. وهكذا قرّرتُ أن أتعلّم من أجلي وأجلهم. لكن عندما كبرتُ، عرفتُ أنني من أجلي وحدي تعلّمت.
وتسألونني عن عمّيق. إنها القرية الصغيرة التي هبط إليها أبي وأمّي من قريتنا «كفرقطرة» لقربها من مجرى نبع الباروك حيث يقوم بستان لنا من الليمون، ولزَعَل أبي من بعض أقربائه بعدما بَخَسُوْه حقّه وظلموه. «وظلمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً    على المرءِ من وقْعِ الحسامِ المهنَّدِ»، كما يقول لَبِيد بن ربيعة العامريّ.


* * *


خرجنا من مكتب المدير، ونزلنا الدرَج، فقلت لأبي: «لا تحزنْ. وحياتك لأجعلنّكَ تفخر بي». فألقى ذراعه على كتفي، ونظر إليّ، ولم يقل كلمة. وعندما أجَلْتُ الطَرْفَ من حولي ولم أرَ مدرسة، سألته في ذلك. قال: «هنا، وهنا، وهناك، وهنالك». عندئذٍ ضحكت: «إنك تشير إلى بيوت الحيّ؛ فأين المدرسة!».
- في كلّ بيت من هذه البيوت صفّ. في هذا، الصفّ الأوّل. وفي ذاك، الثاني. وفي ذلك، الثالث.
- أحقًّا تقول!
- أجل.
- والملعب؟
- إنه هنا. على الطريق.
وكان أبي جادًّا بقوله. وإذا كنت لم أعُد أذكر الكثير من السنوات الابتدائية الثلاث الأوائل، فإني ما زلتُ أذكر أن الصفّ الرابع كان في بيت «عيد منذر». صحيح أنّ الناس كانوا يتقاضون من الدولة بدَل الإيجار، لكنهم كانوا يرضون بالقليل، ويتحمّلون الكثير ليتعلّم أولاد القرية... وتعلّمنا.
تعلّمنا لأنّ أهلنا اهتمّوا، وأساتذتنا تعبوا، وإدارتنا سهرت، ووزارة التربية راقبت، ونحن أردنا.
رأيتُ مرّة أمًّا تمسك ابنها من أعلى ذراعه وتدفع به إلى المعلّم قائلة: «اللحم لك، والعظم لنا يا أستاذ». وعندما خرجتْ، مسحتْ دمعتَيها بظاهر يدها، ومضت من غير أن تلتفت إلى الوراء. فهل الأمّهات اليوم يقُلْن للمعلّم مثل هذا الكلام ويفوّضْنه هذا التفويض! لا. إنهن يرشقنه بألف تهمة وعيب، وينعتنه والمدرسة بأبشع النعوت إذا قصّر أبناؤهن في تلقّي العلْم وجاءت نتائجهم غير مرضية في نهاية السنة.
ما زلت أذكر أن أمّي كانت تلحق بي وبأخوتي إلى الملعب... أقصد الطريق، حاملةً لنا «عرايس» اللبنة والزيت والصعتر، لتعطينا إيّاها عند فرصة الساعة العاشرة. كانوا، إذا عَزَّ الإدام، يقولون لنا: «الزيت والصعتر ينشّطان الذاكرة». وكنا نصدّق ونأكل، خصوصًا قبل الامتحانات الصعبة، والله أعلم.
فرصة الساعة العاشرة كانت قصيرة. كنا نمضيها في أيّام القيظ تحت أغصان الدوالي عند تخوم كرْم «أسعد عماد منذر». أما فرصة الغداء من الساعة الثانية عشرة حتى الرابعة عشرة، فكنا نعود فيها إلى بيتنا في الطرف الشرقيّ من الضيعة سيرًا على الأقدام؛ فنتناول الطعام على عَجَل، ثم نعود إلى المدرسة حتى الساعة السادسة عشرة. وفي تلك الساعة من أيّام الشتاء كانت الشمس تغيب خلف جبل «الرام» الذي تقوم ضيعتنا في سفحه الشماليّ.
وأذكر أيضًا أنه يوم المناولة الأولى، جمعونا، نحن تلامذة الصفّ الرابع الابتدائيّ، في فناء بيت «عيد»، وقصّوا لنا قالب حلوى كبيرًا أعدّته أمّي بيديها. في ذلك اليوم ارتدينا قمصانًا بيضًا و«شورتات» كحلية كان أولياء التلامذة قد اشتروها لأولادهم من سوق «دير القمر» و«بْعَقْلِيْن»، إلا أنا. أنا ارتديتُ قميصًا وشورتًا خاطتهما لي الخيّاطة «سعاد» ابنة «أنطون» عمّ أمّي. ذلك أنه قبل أسبوعين من اليوم المنتظَر، مرّ في حيّنا بائع جوّال من «بَرْجا» في الشوف الساحليّ؛ فنادته أمّي، وسألته إن كان معه قماش أبيض وكحليّ. فلم يُجِب، بل ربط حماره في جذع شجرة التين، وعرّج على بيتنا، وجلس على كرسيّ عند المدخل تحت الدالية، وبسطَ بضاعته على الأرض: «هذه من أحسن بضاعة». ولمّا سألته أمّي عن ثمن قطعتَي قماش كافيتين لصنع قميص وشورت وأجابها، بلع أبي ريقه، ونظر إلى أمّي: «أضروريّ القميص الأبيض والشورت الكحليّ! ما بها ثياب المدرسة!». فأجابت أمّي: «أتريد أن يكون ابننا بمظهر مختلف عن كلّ الأولاد!». ثم سألت البائع بصوت ينضح انكسارًا واستعطافًا: «في الحقيقة... ماذا أقول لك؟... عندنا الكثير من التين المجفَّف والعنب والخضار؛ فهلاّ قايضتنا القماش ببعض منها. وحياتك لن نختلف على السعر»؛ فوافق. وبعد بضعة أيّام كانت سعاد الخيّاطة قد أنجزتْ عملها، ولم تأخذ من أمّي قرشًا واحدًا لقاء تعبها.
تعلّمنا لأن أساتذتنا كانوا من خرّيجي «دار المعلّمين» التي كانت تُعِدّ طلاّبها ليكونوا مربّين قبل أن يكونوا مدرّسين، وحاملي رسالة لا أصحاب مهنة. تعدّهم ليصبحوا محترفين؛ فلا يبقوا هواة مبتدئين. فيا حبّذا لو تُنفَخُ في تلك الدار روح الحياة من جديد لتعود ممرًّا إلزاميًّا إلى كلّ مدرسة؛ فلا يدخل إلى هذه إلا مَن خرج من باب تلك صقيلًا كالسيف، مشغولًا كالذهب.
سمعتُ ابنتي يومًا تقرأ قصيدة في كتاب. قالت:
أما كسرْنا كؤوسَ الحبِّ من زمنٍ       فكيفَ نبكي على كأسٍ كسرناهُ!
ظننتُها أخطأت اللفظ. قلت: «كأسٍ كسرناها». أجابت: «ما قلتُ هو المكتوب». فأخذتُ منها الكتاب، ونظرتُ إلى البيت في القصيدة؛ فإذا قافيته كما لفظتها ابنتي. قلت: «غدًا قولي لأستاذك: لقد أخطأ الشاعر. كان حَرِيًّا به القول: كأس كسرناها، لأن الكأس، وإن كانت تُذَكّر في العامية، فإنها تؤنَّث في الفصحى، وساعتئذٍ سيهنّئكِ على معارفك في اللغة العربية».
- ولكن ألا يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره!؟ سألتْ.
- هذا ممّا لا يجوز له فيه.
بعد ظهر اليوم التالي عادت ابنتي والدمعة في عينها. سألتها إن كانت قد لفتت نظر الأستاذ إلى الخطأ. أجابت: «أجل. لكنه قال إن الشاعر لم يخطئ. قلت له: بل أخطأ. الكأس مونّثة في الفصحى. سأل: مَن علّمكِ ذلك؟ قلت: أبي. قال: أأستاذ في اللغة العربية هو؟ أجبت: لا. إنه ضابط في الجيش. عندئذٍ ضحك، وقال: أبوكِ يعرف كيف يوجّه المدفع ويقاتل، أما اللغة فلا يعرف منها شيئًا. إذ ذاك رفعت رأسي، وأجبت بصوت عالٍ: أبي يتقن الاثنين يا أستاذ».
- وما حدث بعد ذلك؟ سألتها.
- بعد ذلك... ومسحتْ ابنتي دمعتَين انزلقتا على خدّيها، وقالت: بعد ذلك صرخ بوجهي: «اسكتي يا بنت. ما كان ينقص نزار قبّاني بعد، هو أن تتفلسفي وأبوكِ عليه».
هذا الأستاذ، أيها القرّاء الأعزّاء، أعرفه. وأعرف أنهم أعطوه أعلى شهادة في اللغة العربية. لكن الشهادة في بلدنا ليست دائمًا مقياس الكفاءة. أما لماذا تعاقدت الثانوية معه؟ فلأنه لا يعرف. وما دام لا يعرف، فهو رخيص الأجْر. ومَن كان أجره رخيصًا، كان الأفضل للتجّار من أصحاب المدارس الخاصّة. ألا فلترقدْ عظامكِ بسلام يا دار المعلّمين.