معالم وآثار

آثار نهر الجوز تعيد رواية التاريخ
Préparé par:جان دارك أبي ياغي

 «كان عنّا طاحون عَ نبع الميّ...»

 

تتابع مجلة «الجيش» جولاتها مع جمعية «أبساد» متعرّفة إلى كنوز تراثنا الوطني. بعد صور، نتعرّف في هذا العدد إلى آثار محيط نهر الجوز في بقسميا والمجدل.


تقع بقسميا، وهي بلدة سياحية وأثرية وزراعية، وسط قضاء البترون. يحدها شرقًا جبلا، وغربًا كفرحي حيث دير مار يوحنا مارون أول مقر بطريركي وشمالًا كفتون وبتعبورة، وإجد عبرين، أما جنوبًا فهي تجاور صورات ورشكدة وحلتا. تعلو البلدة 457 مترًا عن سطح البحر وتبعد عن البترون 11 كلم بعد إنجاز الأوتوستراد، وهو الطريق العمودي الذي يصلها بتنورين، وهي تبعد عن بيروت 59 كلم، وعن طرابلس 37 كلم.
عرفت بقسميا قديمًا ببلدة الكرمة وقد تغنّى الشعراء بكرومها وحوّلها الرومان سوقًا لتجارتهم. يرشدك في التعرّف إليها المعبد المخصّص لعبادة إله الخمر باخوس، وقصر روماني قديم على اسم الأميرة مايا ابنة هذا القصر. وقد هامت وفق الأسطورة بربّ الكرمة إله الخمر واللهو والمجون باخوس، الذي كانت عبادته منتشرة في الشرق خلال العهدين الهلنستي والروماني.

 

كنيسة مار سمعان الأثرية
يخبرنا رئيس لجنة الآثار في بلدية بقسميا المهندس وليد يوسف أنّ كنيسة مار سمعان الأثرية شيّدت في العام 1910، واستخدمت في بنائها بقايا حجارة معبد باخوس وقصر مايا الذي كان يعلو مرتفعات البلدة. كما استخدمت حجارة القصر والمعبد في بناء معبد السيدة العذراء الملاصق للكنيسة والمعروف بسيدة البزاز (أو سيدة الدرّ كما يلقّبها الأهالي)، وعتبة المعبد التي نُقش عليها ثلاثة رؤوس أسود، كما حجارة البناء، شاهد على ذلك.

 

دير سيدة كفتون
من المناسك الرهبانية المتواجدة على ضفاف نهر الجوز دير السيدة في كفتون المجاورة لبقسميا، وكنيسة الشهيدين سركيس وباخوس. يعود تاريخ الدير المحفور في الصخر إلى العام 1400، وقد سكنه الرهبان لغاية العام 1904 قبل أن يغادروه ليعود آخرون ويسكنوه لغاية العام 1970، كما روت لنا رئيسته الأم لوسيا شلهوب التي أمضت فيه 41 سنة.
من مدخل الدير تستقبلك الورود على جانبي الطريق ويعزف نهر الجوز أعذب الألحان فتشاركه العصافير شدوًا. أما أشجار الياسمين فترافقك صعودًا حتى كنيسة الدير حيث يسود جو من الخشوع والرهبة، وتعبق رائحة البخور. في داخل الدير، أيقونة زجاجية للسيدة العذراء تعود إلى العام 1100، وقد رسم أحد الكهنة معمودية يسوع على وجهها الثاني بعد 300 سنة. تعرّضت الأيقونة للسرقة مرّتين في أثناء الحرب اللبنانية، قبل أن تعود وتستقرّ في الدير بعد إعادة ترميمها في فرنسا، وبعد عودة الحياة إلى الدير وترميم بعض أجزائه.
أمّا كنيسة مار سركيس وباخوس الأثرية في كفتون فقد شهدت في العام ٢٠٠٤ أعمال تنقيب وترميم على يد مجموعة من علماء الآثار البولنديين عملوا تحت إشراف وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار.

 

وادي نهر الجوز
يعتبر نهر الجوز (طوله 38 كلم) من منبعه في جرد تنورين إلى مصبّه في كوبا بجوار قلعة المسيلحة، معلمًا سياحيًا، وهو الشريان الحيوي للبلدات والقرى الواقعة على جانبيه في قضاءي البترون والكورة وهو يؤمّن لها مردودًا اقتصاديًا وزراعيًا. وقد أكّدت وزارة البيئة أهميته فصنّفته من ضمن المواقع الطبيعية الخاضعة لحمايتها.
اعتاش الأباء والأجداد، من خيرات وادي نهر الجوز، فضلًا عن المطاحن المنتشرة على ضفتي النهر وقد زاد عددها في الماضي عن السبعين. تحتاج هذه الطواحين بمعظمها إلى الترميم لتصبح مراكز سياحية. ويقول الصحافي غسان عازار في كتابه «نهر الجوز: طواحين وآثار»: «نعمل جاهدين كي لا تكون منسية بعد أن كانت تضج بالحياة على مدار السنة، من سوق للقمح، والطحين، والبرغل، والكشك...» وقد كانت بوجه خاص مقصدًا لأبناء أقضية الكورة وجبيل والبترون. يرى عازار أنّه من الضروري العمل لحماية الإرث الذي يحتضنه الوادي، ويطالب بتشجيره وبشق طريق على ضفتيّ النهر.
أما الجسور الرومانية القائمة على النهر والتي تصلك بالطواحين فتبقى عاصية على الزمن وشاهدة على حقبة ذهبية في حياة آبائنا وأجدادنا، فتتحدّث عنها رئيسة بلدية المجدل السيدة نجاة نجيب الزغبي التي دعتنا إلى ترويقة على سطح إحدى الطواحين. مناقيش على الصاج، وخضار من خيرات تلك الأرض، وحكايات ماضٍ يستحق أن يحيا في ذاكرة الأجيال القادمة.
تضيء رئيسة البلدية على أهمية نهر الجوز الذي يفصل بين قضاءي البترون والكورة، والذي صنّف تراثيًا منذ العام 1998. وهي تؤكّد أن البلدية تسعى لإيجاد التمويل اللازم لترميم الآثار القائمة في واديه، كما تخطط لمشروع بيئي من الممكن أن ينعش المنطقة سياحيًا واقتصاديًا. وتشير الزغبي إلى أنّ أهمّ طاحونة على نهر الجوز تقع في أعالي قلعة الحصن في خراج بلدة المجدل (مشتركة بين المجدل وبقسميا)، ويطلق عليها اسم «طاحونة حمام الملكة»، لماذا سميّت كذلك؟ تقول الحكايات إنّ ملكة كانت تأتي لتستحم فيها...

 

السنديانة ومعاصر العنب والنواويس
تستوقف زائر بلدة بقسميا عدة معالم أثرية. فانطلاقًا من ساحتها العامة، تدهشك سنديانة دهرية إلى جانب الكنيسة ومعاصر عنب محفورة في الصخور ودوالٍ. هذه الآثـار تضررت وتعرّض بعضها للطمر عند توسيع الساحة العامة للكنيسة. وتتوزّع في أرجاء بقسميا معاصر ونواويس وأجران وفخاريات وآبار مكشوفة وأخرى مغلقة نحتت بعناية ودقة، من بين النواويس «ناووس ابن الملك».
تتميّز بقسميا بالطواحين المائية المنتشرة على مجرى النهر وبدروب وجسور رومانية كانت معبرًا تجاريًا لقوافل المكارية الذين كانوا يقصدون تلك المطاحن ليلًا نهارًا لطحن منتوجاتهم وخصوصًا القمح. هذه الدروب يستمتع بسلوكها اليوم هواة رياضة المشي.
وادي نهر الجوز الشاهد على تعاقب حضارات، ما زال على الأرجح يحتفظ بالكثير من الكنوز والأسرار، أمّا طبيعته فما زالت تحتفظ بجمالها ونضارتها.