قضايا اقليمية

 ماذا بعد؟!

لم يكن من السهل على اسرائيل، الدولة الاقليمية العظمى بكل المعايير الاقتصادية والعسكرية والعلمية، أن تبتلع مخازي انسحابها الذليل من لبنان العام 2000 من دون قيد أو شرط. ومعلوم ان ذاك الانسحاب كان يرمي الى أكثر من هدف من أبرزها: توفير دماء الضباط والجنود الغارقين في مستنقع الموت في الجنوب المحتل؛ تحرير أيدي القيادتين السياسية والعسكرية في اسرائيل من خلال الزعم بتطبيق القرار الدولي الرقم 425 والصادر منذ العام 1978 وذلك بهدف اطلاق الطاقات التدميرية الهائلة المتوافرة لدى القوى العسكرية الصهيونية واستعادة شيء من زمام المبادرة الهجومية ضد المقاومة اللبنانية، للثأر منها أولاً واستعادة قدر من المهابة المفقودة وقدرة الردع المنهارة ثانياً. إلى ذلك كانت لاسرائيل أهداف أخرى هي: إحداث شرخ في العلاقات اللبنانية السورية وتوفير المبررات السياسية والميدانية للضغط من أجل اخراج سوريا من لبنان؛ توفير أجواء ملائمة لعودة التوترات الداخلية في لبنان عسى يؤدي ذلك الى استعادة موبقات الحرب الأهلية القذرة واحتمالات عودة الذرائع الصهيونية لاستعادة فرص التدخل بالتحريض وإثارة الفتن من وراء حدود الخط الأزرق الذي أرادت اسرائيل بدعم أميركي ودولي، أن يكون بمثابة جدار الفصل المقام في الضفة الغربية؛ وإجبار لبنان على ابتلاع وتوطين نحو ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني منذ العام 1948.

هزة أرضية عسكرياً وسياسياً

على ضوء هذه الأهداف والحسابات، لا يمكن القول ان اسرائيل خرجت ووجهها نحو السلام والصلح مع أصغر وأضعف دولة عربية على حدودها، بل خرجت وفي نيتها تحويل لبنان الى عبرة لمن يعتبر في داخل فلسطين وخارجها. بحيث لم تكد تسنح لها الفرصة الملائمة بعد مرور نحو ست سنوات على الهزيمة النكراء، إثر قيام المقاومة اللبنانية بأسر جنديين اسرائيليين، حتى انطلقت كعاصفة هوجاء مدمرة، تقتل وتهاجم البنى التحتية الأساسية في الدولة اللبنانية وتهدم القرى الآهلة بالسكان المدنيين، من أجل تجفيف المياه التي تسبح المقاومة في داخلها، بعد عجزها عن القضاء على هذه المقاومة بالآلة العسكرية حتى لو كانت آلة ذكية بأفضل المقاييس العالمية. وقد اعترف افرايم سنيه النائب عن حزب العمل في أثناء لقاء له مع نشطاء الحزب في تل أبيب بأن «أسطورة الجندي الاسرائيلي الذي لا يقهر قد تحطمت، ونقلت صحيفة يديعوت احرونوت عنه قوله: «ان الحرب المقبلة محتومة طالما ان في ايران أناساً يريدون تدميرنا».

وكتب افيعاد كلينبرغ مقالاً في الصحيفة نفسها ينتقد من خلاله أداء الجيش الاسرائيلي في لبنان مشدداً على ان ما حصل «لم يكن هزة أرضية عسكرية فحسب بل هزة أرضية سياسية أيضاً». وأشار الى ان «الفشل النسبي في ميدان المعركة في لبنان سوف يمكّن الجيش الاسرائيلي من السيطرة مجدداً على الرأي العام في اسرائيل»، أي بمعنى ان أصوات الدعوة مجدداً الى الانتقام وإثبات الذات ستعود لتكتسح الساحة الاسرائيلية السياسية والعسكرية. وتبرز بشكل خاص في هذا المجال أصوات المتدينين القوميين الذين اعتبروا ان سبب الانتكاسة والتقصير في الحرب الأخيرة، إنما يعود الى عدم ادارة الحرب وفقاً لمنطق التوراة وقوانينها، وهو المنطق الذي يقول بأن «القدس ستتمدد حتى تصل الى دمشق» وان جزءاً من لبنان هو لاسرائيل وينبغي عدم التنازل عنه، بحسب قول الحاخام موردخاي بن الياهو الذي يعتبر من أبرز حاخامات تيار الصهيونية الدينية الخلاصية. وفي السياق نفسه لم يستبعد هذا الحاخام وجود علاقة تأديبية إلهية بين فك الارتباط الاسرائيلي عن غزة والعدوان على لبنان. وحرص الحاخام على إسداء نصيحة لرئيس حكومة العدو ايهود اولمرت بضرورة ووجوب قراءة التوراة». ومثل هذه المواقف تنسجم مع حقائق التاريخ بأن لبنان كان أكثر الدول العربية تعرضاً للاعتداءات العسكرية الصهيونية منذ العام 1948 وحتى اليوم، مرة بحجة وجود المقاومة الفلسطينية وأخرى بحجة وجود المقاومة اللبنانية، والحقيقة الثابتة وراء كل هذه الحجج إنما هي روح التوسع والعدوان وانكار حقوق الآخر، المسيطرة على الطغمتين العسكرية والمدنية في اسرائيل، سواء من منطلقات دينية أو منطلقات استراتيجية.

على ضوء ما تقدم وعلى ضوء التجربة القاسية والطويلة مع هذا العدو الغادر، لا بد من أن نطرح على أنفسنا مرة أخرى السؤال الصعب: هل نحن اذن على أبواب حرب جديدة وعدوان صهيوني جديد؟! للجواب عن هذا السؤال، لا بد لنا أن نتذكر اننا في لبنان نتعرض كل لحظة، اليوم وغداً لاعتداءات مباشرة أولاً باحتلال أجزاء من أرضنا في شبعا وكفرشوبا والغجر، كما تتعرض مياهنا للنهب وأبناؤنا يتعرّضون للقتل بمئات آلاف الألغام وملايين القنابل العنقودية المحرمة دولياً والمتناثرة في كل مكان من قرانا.

اسرائيل وخسارة صفة العصا الغليظة

من ناحية أخرى وعبر قراءة تجربة الحرب الأخيرة، التي اعتبرت أطول حرب اسرائيلية عربية، يمكننا القول ان اعتبارات العودة الى الحرب تتساوى مع اعتبارات الارتداع عنها.
* أسباب احتمال استئناف الحرب:
- عدم قدرة الطاقم السياسي والعسكري المتبجح في اسرائيل على ابتلاع هزيمة مدوية جديدة على أيدي اللبنانيين، على الرغم من توافر كل أسباب النجاح، فلا الجنود الاسرى عادوا ولا بنية حزب الله القتالية تفككت، ولا تمت السيطرة على مفاصل القرار في لبنان كبديل عن النفوذ السوري الراحل.
- ظهور توقعات من قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية الاسرائيلية، تتحدث عن احتمال استئناف الحرب في العام المقبل لاحراز انتصار «لا نقاش حوله» اثر الفشل الاستراتيجي الأخير.
- احتمال سقوط حكومة أولمرت ومجيء حكومة برئاسة نتنياهو وليبرمان، تنفذ سياسة هجومية أكثر تشدداً ضد كل من لبنان وسوريا وايران وبالتأكيد فلسطين.
- وجود رؤوس حامية في كل الساحات في اسرائيل بما فيها رؤوس رجال الدين كالحاخام بن الياهو الذي يدعو الى التطهر والعودة إلى نصوص التوراة التي تعطي الاسرائيليين حق تملك اجزاء من سوريا ولبنان، هذا ناهيك عن جنرالات يعتبرون ان اسرائيل هي جيش اولاً وله دولة.
- خسارة اسرائيل صفة العصا الغليظة مع ما يعني هذا من ابتزاز الدول الكبرى مالياً وعسكرياً وسياسياً، الأمر الذي يستوجب اعادة الكرّة مرة اخرى ولو في المدى المتوسط وليس القريب.
- تعرّض العمق المدني أو الجبهة الداخلية لخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات. وهو أمر كان يعتبر من المحرمات الكبرى في حسابات الأمن القومي الاسرائيلي، خصوصاً ان مدناً مثل حيفا ونهاريا تحتوي على البنى التحتية الصناعية الكبرى قد سقطت تحت ضربات صواريخ المقاومة، ما يشكل سبباً ضاغطاً ودائماً لمحاسبة المقصرين مهما علت مراتبهم، ويفتح المجال أمام الطامحين والمتهورين للسعي الى تسلّم السلطة.

الحديث عن الحرب المقبلة قنبلة صوتية؟

* أسباب احتمال عدم استئناف الحرب:
- الغرق في حرب استنزاف طويلة الأمد مع المقاومة الفلسطينية مع ما يرافق ذلك من تعقيدات سياسية، ومن اعطاء أولوية لهذا الملف على سواه.
- الخسائر الضخمة في الماديات والمعنويات التي تكبدتها اسرائيل في جيشها ومجتمعها المدني.
- الاقرار على أعلى مستوى في الدولة باستحالة القضاء على مجموعات قتالية تستخدم أسلوب حرب العصابات والكر والفر، خصوصاً اذا كانت هذه المجموعات مزودة الايمان والحنكة التكتيكية والوسائل القتالية الناجعة والصبر بلا حدود.
- وجود القرار 1701 وانتشار قوات الجيش اللبناني والقوات الدولية على الحدود، واعلان قادة المقاومة اللبنانية بانهم غير مستعجلين في تصعيد جديد مع الآلة العسكرية الاسرائيلية.
- وجود اسرائيل في الوقت الراهن في حالة اضطراب وعدم استقرار سياسي بانتظار نتائج لجنة التحقيق الرسمية التي شكلت للنظر في أسباب الاخفاق والتقصير كما حصل العام 1973 عندما استقالت رئيسة الحكومة غولدا مائير ووزير دفاعها موشيه دايان في أعقاب نتائج لجنة اغرانات.
- انهيار الحلول الآحادية الجانب وعودة الدعوة الى النظر في أسباب الأزمة ومحاولة حلها بالطرق السياسية والدبلوماسية، ومن هنا جاءت الدعوات الى الانفتاح على كل من سوريا وايران من قبل اسرائيل واميركا معاً، على قاعدة سحب الذرائع وتذكّر ان أية حكومة  لا أفق سياسي لها هي حكومة لا مستقبل لها، على حد قول وزير الدفاع عمير بيرتس.
- ان أحاديث الحرب خلال ثلاثة أو أربعة أشهر بحسب قول وزير البنية التحتية الاسرائيلي بنيامين بن اليعازر، ربما لا تحمل معها اكثر من التهويل وقذف القنابل الصوتية الفارغة التي لا هدف لها سوى ترميم شيء من الثقة المفقودة لدى المجتمع المدني المطعون في ماله وكرامته وإحساسه بأنه متروك لوحده بلا قيادة.
- ثبوت وجود ثغرات كبيرة ونقاط تقصير فاضحة سواء في الاستعلام عن قدرات حزب الله أو في الأداء القتالي الفاشل للجندي والآلة الاسرائيليين، في البر والبحر والجو.