رحلة في الإنسان

بين النرجسّية وتقدير الذات
Prepared By:غريس فرح

أين يقع الشعور بالكبرياء؟


مشاهير كثر لمعت أسماؤهم في ميادين مختلفة بعدما تسلّقوا سلّم النجاح. ومع أن طريق كل منهم إلى القمّة قد اختلف باختلاف حوافزه وظروفه، إلاّ أن سبل استغلالهم لهذه المعايير كانت وراء نجاحهم، وبالتالي تربّعهم على عرش الكبرياء والعظمة.
والسؤال المطروح:
هل أن النجاح هو الذي يؤمن الشعور بالكبرياء والعظمة، أم أن التسلّح المسبق بهما هو الذي يحقّق النجاح؟


ما هو الكبرياء
شعور مفرح، ينبع بحسب المعتقد السائد من الرضى عن النفس، وغالبًا ما يترافق مع النجاح. على كلٍّ، فإن علم النفس لم يأخذ هذا الشعور بالاعتبار إلاّ منذ عقود. أي عندما بدأت الدراسات تصنّفه من بين المشاعر البدائية ذات المضمون البيولوجي.
فبعدما تأثروا بالعالم البيولوجي شارلز دارون، بدأ الباحثون النفسيون ينظرون إلى أحاسيس كالخوف والغضب والسعادة والقلق، على أنها جزء من تطوّر الطبيعة البشريّة التي ساعدت على بقاء النسل. أما بالنسبة للكبرياء وسواه من المشاعر ذات الوعي الذاتي، فإنها لم تستدع الاهتمام في السابق. فهذه المشاعر تحتاج إلى أحكام معقّدة لناحية رؤية الذات، لذا كانت مرتبطة بالأذهان وبالتطور الاجتماعي أو الحضاري. ما يعني أنها ليست مشاعر فطرية مترسخة في طبيعة البشر. ولكن مع الوقت، ثبت أن هذه النظرية ليست صحيحة تمامًا إذا نظرنا إلى الكبرياء من زوايا مختلفة، ومن خلال رؤية عميقة للأمور.
 
 

ما هي هذه الرؤية؟
في الوقت الذي كان فيه علماء النفس ينكبّون على دراسة الكبرياء، وجدوا أنه يشكّل غطاءً ظاهريًا لخطّين متمايزين في الشخصية، هما: النرجسيّة وتقدير الذات. وعلى هذا الأساس، يصبح بالإمكان القول إن الخطيّن أو النزعتين المشار إليهما، وإن اختلفتا من حيث المبدأ، الاّ أنهما في الواقع وجهان مختلفان لعملة واحدة هي الكبرياء. ولكن، إذا ما أخذنا بالإعتبار المشاعر المتناقضة الناجمة عن كل منهما، نجد أنفسنا أمام أحجية محيّرة، وهي: كيف بإمكان الكبرياء أن يجمع ما بين هذه التناقضات ؟ أو بتعبير آخر، كيف يتمكّن من تغطية النرجسيّة من جهة، وتقدير الذات من جهة ثانية؟

 

ماذا وراء هذه الأحجية؟
من أجل التوصل إلى رؤية واضحة، يصبح من الضروري التطرّق إلى المشاعر الناجمة عن كل من الميزتين المشار إليهما.
بالنسبة إلى تقدير الذات، فقد أثبتت الدراسات أنّه في طليعة خطوط الشخصيّة الإيجابيّة. فالمتحلّون به يتميزون بالميل إلى التحصيل والإبداع، إضافة إلى الانفتاح على الغير، وحب تقديم النصح والمساعدة. وهذا ينبع من ثقتهم الزائدة بأنفسهم، وارتياحهم مع ذواتهم.
أما بالنسبة إلى النرجسيين، فهم كما هو معروف، أشخاص يغلب عليهم طابع العدائية والشعور بالنقص والقلق، وعدم الانسجام مع النفس، والشعور بالاكتئاب وحب إيذاء الغير من منطلق الشعور الزائف بالعظمة. والأهم أن الكبرياء هو الشعار المرفوع لدى كل من هاتين الفئتين من الناس، وهذا يقودنا إلى تحليل أكثر عمقًا لهذا الشعور البشري الذي طالما استدعى الكثير من التساؤلات.

 

هل هو محوري أم مجزأ؟
كما سبق وأشرنا، فإن علم النفس الحديث بدأ يعتبر الكبرياء من المشاعر البدائية التي تستحق الدراسة. وهذا يعود إلى إرتباطه بالنرجسيّة التي اعتبرها الباحث النفساني سيغموند فرويد، آلية دفاع فطريّة.
أما بالنسبة إلى جمعه بين متناقضين، فهو يشكل بحسب البعض محورًا تدور حوله الشخصيتان المعنيتان بالبحث. مع ذلك، فإن الدراسات التي أجريت في هذا السياق، أكّدت على وجود نوعين منفصلين من الكبرياء، أحدهما أصيل والثاني مزيّف، ويشكل كل منهما غطاء لإحدى الشخصيتين المذكورتين.
الكبرياء الأصيل ينبع، بحسب الباحثين، من الاكتفاء الذاتي، أو تقدير الذات الراسخ في مواجهة جميع المتغيّرات. إنّه من صلب الشخصيّة، ومن خلاله تطفو المشاعر الإيجابية لتقود أصحابها على دروب النجاح.
في ما يتعلّق بالنوع الثاني أو الكبرياء المزيّف، فقد أطلقت عليه هذه التسمية كونه دخيلًا على الشخصيّة وليس أحد مكوّناتها. إنه غطاء يختبئ وراءه النرجسيون من أجل تغطية مشاعرهم السلبية. فالنرجسيون كما هو معروف يقدّسون ذواتهم، ويحيطونها بهالة من الكبرياء والعظمة. لا لأنّهم يؤمنون بذلك، بل لأن هذا المظهر يطمس إحساسهم بعدم الأمان والاستقرار. وعلى هذا الأساس يصبح من الطبيعي أن يقترن هذا النوع من الكبرياء بالعدوانية والميل إلى المناورة والتلاعب بمشاعر الغير، إنّه في الواقع تكتيك الضعيف من أجل الإستقواء أو عرض العضلات هربًا من الواقع. على كل فإن البحث في نوعي الكبرياء المشار إليهما يقود إلى التساؤل: لماذا وجد الكبرياء في الأصل، ولماذا يحاول الكثيرون الاحتماء به؟

 

البحث عن الأصول
على الرغم من التوصّل إلى معرفة الهدف الأساسي لوجود الكبرياء، والمتمثّل بتأمين الشعور الإيجابي حيال النفس، أو إحياء هذا الشعور، بقيت الحيرة تلازم الباحثين في ما يتعلّق بنشوء الكبرياء المزيّف. فالكبرياء المتأصل في الشخصيّة القوية يؤهل للقيام بأعمال توقد الفرح في النفوس. ولكن ماذا عن الذين يتلبسون هذا الشعور ويخضعون أنفسهم لسلوكيات تتنافى ومضمون ذواتهم؟
بحسب الباحثين، فإن التسلّح بالكبرياء يمنح القوة ويؤمن المكانة اللائقة، وهو ما يسعى إليه الإنسان بالفطرة. وبحسب علم النفس التطوري، فإن القوة والمكانة اللائقة تؤمنان الصمود والتصدي للصعاب. وهو ما يجعل الكبرياء بنوعيه الأصيل والمزيّف، شعورًا مكتسبًا لأهداف فطريّة، أهمها، التكيف مع المحيط من أجل البقاء والاستمرار.
وكانت الدراسات التي أجريت في هذا السياق، قد أكّدت على أنّ الأقوياء ضمن مجموعاتهم هم الأكثر تأثيرًا، ما يعني أنّهم يتحكّمون بالأفكار والآراء واتخاذ القرارات. والأهم أن تأثيرهم يتجاوز أحيانًا المجموعات التي ينتمون إليها، الأمر الذي يجعلهم في مركز القوة.
باختصار، فإن حب السلطة والسعي إلى الاستقواء والاستكبار، يساعد على التحصيل وتحقيق الأهداف، والكبرياء بشقّيه يؤمّن هذه المواصفات. ما يعني أنه يمنح الدعم من أجل الوصول، وأحيانًا على حساب تحطيم الغير واستباحة الفضائل والقيم. ومن هنا نظرة الأديان السلبيّة إليه واعتباره خطيئة. وهذا يقود إلى الاعتقاد أن المتحلّين به، حتى ولو كانوا إيجابيين، قد يصلون إلى مرحلة لا يفرّقون فيها بين الإيجابية والسلبيّة. فالقوة والعظمة تصبحان الهدف. فما هو الحل؟
إن الكبرياء الأصيل، في حال المحافظة على إطاره الأساسي، وعدم استغلاله من أجل الانزلاق إلى متاهات الاستقواء الأعمى، هو الميزان الذي من خلاله نقيّم أنفسنا والغير ونتسلّق سلّم النجاح من دون الاستهانة بالفضائل. ومن أجل المحافظة على هذا التوازن، والتفرقة ما بين سلبيات هذا الشعور وإيجابياته، من الضروري مراقبة الشخص لسلوكه بحذر شديد. فعندما يتعدى الكبرياء عتبة تغذية الحوافز والإحساس بالوجود، يتحوّل إلى خطر على الذات والغير. وحده الوعي لمخاطر الاستئثار بالقوة على حساب المشاعر، يمكّن من التسلّح بالكبرياء الأصيل. الكبرياء الذي يوصل إلى النجــاح بأدنــى تكاليــف ممكنــة.